توغلنا عشرات الكيلومترات وسط سلسلة جبلية تعانق المتوسط، تكسوها الغابات الكثيفة، انطلاقاً من مدينة آوقاس الساحلية، ومقصدنا كان القرية التي ينحدر منها الأسطورة زين الدين زيدان، بعدما رصع رصيده باللقب الثالث على التوالي في رابطة الأبطال الإفريقية.
أجهزة هواتفنا أصابها الشلل في إرشادنا من خلال تطبيقات المابس والجي بي إس، واحتارت في الاختيار بين قريتي تاغمونت وآغمون (اسمان أمازيغيان يعنيان على التوالي التلة والتل)، المنتميتين إدارياً لولاية بجاية، على بعد 300 كلم شرقي العاصمة الجزائر.
على ضفاف وادي جمعة، حيث تكثر أشجار البرتقال، وراء سيقان القصب، ينكب فلاح في عقده الخامس، غارقاً وسط حقله مع شتلات الفلفل لغرسها، اقتربنا منه وسألناه عن القرية التي ينحدر منها زين الدين زيدان، أشار لنا إلى أعلى الجبل، تدعى آغمون، لكن الغالبية يطلقون عليها اسم "زيدان"، نسبة إلى عائلة زين الدين زيدان.
قرية باسم العائلة
على أبواب القرية، نلمح شاباً في العشرينيات من عمره، بخطوات متسارعة، يكاد يسبق سيارتنا التي كادت تستسلم للمرتفعات والمنعرجات، سألناه عن القرية فرد بسرعة "هي قرية زين الدين زيدان"، وكأن السكان يربطون كل شيء بهذا الاسم الأسطورة.
السكان هنا يعيشون في سكون تام، فأغلب الفيلات، موصدة الأبواب والنوافذ، لاختيار الكثيرين تخصيص المكان للعطلة فقط، بسبب البعد عن المرافق الضرورية، والعائلات المستقرة بقرية آغمون يعدون بالعشرات فقط، وأغلبهم يمتهنون الفلاحة وتربية المواشي والنحل، سيما على ضفاف وادي جمعة.
زقاق ضيق يقودنا إلى بيت والد زين الدين زيدان، وبين اليمين واليسار مزيج بين المنازل القديمة، والحديثة، فالسكان هناك يرفضون مسح ما يعكس لهم ماضيهم البعيد، ويزاوجون بينه وبين متطلبات الحياة الحديثة.
وسط تلك الأزقة الضيقة وجدنا امرأة بزي أمازيغي، تحمل رضيعها على ظهرها وتقوم ببعض الأعمال أمام بيتها القرميدي، ورغم أن شكلها لا يوحي بالاهتمام بعالم المستديرة، إلا أنها أجابت مباشرة "أنتم تبحثون عن بيت زين الدين زيدان؟".
دلتنا على بيت أبيض من طابقين وشرفات علوية يكسوها القرميد، مطل على أفق أخضر تزين باحاته أشجار الليمون والبرتقال، وزهرات الياسمين البيضاء، ويجاوره بيت من حجر وطين يحكي حكايات الزمن القديم.
يخرج إلينا إبراهيم زيدان، من نفس عائلة زين الدين، وجارهم بالقرية، وقد أكد حقاً أن البيت الأبيض الذي يجاوره، هو ملك لوالد زين الدين زيدان (إسماعيل)، والبيت القرميدي الذي يجاوره هو بيتهم القديم.
البيت حالياً يسكنه ابن عم زين الدين زيدان بدر الدين، الذي رفض الهجرة إلى فرنسا، وقرر البقاء في القرية، أما الوالد سليمان، فيأتي على فترات لا تتجاوز الثلاثة أشهر بين زيارة وأخرى.
هنا لعب زيدان "الدابخ أوطار"
يطلق على رياضة كرة القدم بالأمازيغية المحلية "الدابخ أوطار"، وهي الرياضة الأكثر شعبية على الإطلاق بالمنطقة، رغم أنها تفتقر للملاعب والمساحات الخضراء.
زين الدين زيدان وقبل لمعان نجمه، زار قرية آغمون ببوخليفة مرة واحدة رفقة والده سنة 1987، وكان عمره آنذاك 15 عاماً، (زيدان من مواليد 23 يونيو/حزيران 1972).
ويروي إبراهيم قصة لقائه الأول مع زيدان بالقول "كنا حينها صغاراً لما زارنا زين الدين، رفقة والده إسماعيل، كان يحب كثيراً كرة القدم، وكنا نلعب معاً في أحد الحقول المجاورة، وبكرة نقوم بصنعها من الأكياس والورق وبعض الأقمشة".
كان الفتى موهوباً إلى درجة أن الفتيان كانوا قلّما يلمسون الكرة، رغم أنه لم يتعود اللعب في تلك الظروف وبتلك الكرة البدائية، كونه ولد وترعرع بمدينة مارسيليا الفرنسية.
في ذلك الوقت كان كلام زيدان كله بالفرنسية، وبعض الكلمات بالأمازيغية، فوالداه الجزائريان والأمازيغيان إسماعيل ومليكة، رفضا أن ينشآ ابنهما بعيداً عن أصوله كما يقول إبراهيم بفخر.
حيث رعى والده الغنم
"ثاوريرث"، "آغلاذ"، "ايغزر نجمعة"، هي تسمية محلية لمناطق تنتشر فيها الحشائش التي يتخذها أبناء المنطقة كمراع لمواشيهم، خاصة الأغنام.
الجمعي رياحن من قرية ثآغمونت المجاورة، أحد رفاق والد زين الدين زيدان قبل اتخاذه قرار الهجرة إلى فرنسا سنة 1953، يؤكد لعربي بوست أن إسماعيل زيدان كان من عائلة فقيرة جداً، تعتمد أساساً على رعي الغنم.
وكانت تلك المناطق الممتدة من قرية آغمون، كما قال "وحتى وادي جمعة أماكن يرعى فيها والد زين الدين زيدان، وكانت الظروف صعبة جداً بسبب الفقر والاحتلال الفرنسي، الذي أذاق أهالي القرى المعزولة الويلات".
سنة 1953، قرر إسماعيل زيدان تغيير حياته، بالهجرة نحو فرنسا والاستقرار هناك، بحثاً عن لقمة العيش ومساعدة عائلتها بقرية آغمون التي كانت تسمى بـ"آغمون ايث سليمان، نسبة إلى الجد الأول المستقر هناك.
بمدينة مارسيليا استقر الوالد بحي فقير، وعمل في ورشات البناء وبعض الحقول الفلاحية، إلى أن قرَّر الزواج من ابنة عمه (مليكة) التي كانت تستقر في ذات المدينة (مارسيليا)، وكان لا يزور بجاية والقرية التي ولد بها إلا نادراً.
وهنا تعلمت والدة زيزو "آغروم"
يطلق على الخبز المحلي المصنوع من الدقيق، بمنطقة الأمازيغ في الجزائر "آغروم"، وهو مكون أساسي في كل وجبة.
ورغم أن والدة زين الدين (مليكة زيدان) نشأت بفرنسا، إلا أنها تتفنن في صناعة الخبز الأمازيغي الأصيل، الذي يحبه زين الدين زيدان.والدة زيزو تنحدر من نفس القرية (آغمون)، إلا أنها عاشت حياتها في فرنسا رفقة والدها الذي قرر الاستقرار هناك، قبل أن يطلب يدها إسماعيل وهي ابنة عمه، كما يحكي إبراهيم، فمليكة كانت مهتمة بالعادات والتقاليد الأمازيغية، وكانت حين زيارتها القرية وهي صغيرة مجتهدة في صنع المأكولات التقليدية، وعلى رأسها آغروم، أو الخبز القبائلي التقليدي، وكان زين الدين يحبه كثيراً.
بعد الاعتزال يعود إلى آغمون
حينما اعتزل زيدان الملاعب سنة 2006، وبدعوة من الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة زار مسقط أاس والده في قرية آغمون ببوخليفية.
كان زيدان حراً في العودة إلى فرنسا مباشرة بعد تلبية دعوة الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة وتكريمه، لكنه رفض وقرر زيارة مسقط رأس والده، حيث استقبل في عرس كبير لم تشهده المنطقة قط.
وكان الرئيس بوتفليقة قد منح سنة 2006 "نجم كرة القدم الفرنسي المعتزل زين الدين زيدان، ومدرب ريال مدريد (الذي استقال اليوم الخميس)، وسام "الأثير"، وهو وسام الاستحقاق الوطني الأعلى في الجزائر، بعد استقباله له ضمن زيارة زيدان لمسقط رأسه الجزائر بدعوة منه".
وقال حينها زيدان "إنها زيارة رمزية بالنسبة لي ولعائلتي، وأنا سعيد بوجودي في الجزائر لأني مدعو من الرئيس بوتفليقة".
ويساهم في تنمية قريته
بقرية آغمون ايث سليمان، ببوخليفة، هناك عدد من المؤسسات التنموية، التي يعود الفضل في تشييدها إلى الأسطورة زين الدين زيدان.
ففي المدخل الجنوبي يظهر المسجد الذي بناه زين الدين زيدان من ماله الخاص، من خلال وساطة الجمعية التي تحمل اسمه ويترأسها والده.
وليس بعيداً عن المسجد، يقبع خزان للمياه، تكفل أيضاً زيدان بتكاليفه، مع ربط جميع السكنات بشبكة المياه الصالحة للشرب، وكذلك قاعة للعلاج شيدت بتاغمونت، القرية المجاورة، كونها الأكثر كثافة للسكان، وساعد عشرات السكان هناك في بناء منازل تؤويهم وتؤوي عائلاتهم.
وبحسب قريبه إبراهيم زيدان "فإن هناك عدداً كبيراً من المشاريع التنموية، الثقافية والرياضية التي قرر زين الدين تجسيدها، لكنها بقيت مجمدة بسبب بعض العراقيل الإدارية المعقدة".
وكان زين الدين زيدان قد مول بعض المشاريع في بجاية، كبناء مركز استقبال ورعاية المسنين، واقتناء سيارات إسعاف وحافلات للنقل المدرسي لفائدة المناطق المعزولة.
يتمنونه مدرباً للمنتخب الجزائري
فريد فرحي، ابن بلدية بوخليفة يؤكد لعربي بوست، أن جميع السكان هناك يفتخرون بابنهم زين الدين زيدان، الذي حاز كأس رابطة الأبطال الأوروبية للمرة الثالثة على التوالي، واعتبر ذلك غنجازاً لجزائر الأمازيغ.
في القرية يعتبرونه مفخرة للمنطقة وللجزائر، خاصة أنه بدوره يفتخر بأصوله الجزائرية، ولم ينس مسقط رأس والده قرية آغمون ببوخليفة، إبراهيم زيدان يرى التتويج من إنجازات آل زيدان، فابنهم زين الدين ومنذ كان في بورتو، ومارسيلا والريال، دون نسيان المنتخب الفرنسي، كان دائماً يهدي التتويج للعائلة.
أما مواطنه فريد فرحي، فيتمنى أن يرى يوماً زين الدين زيدان مدرباً للمنتخب الوطني الجزائري.