تضاعف ثمنها 1500 مرة: صعود مبهر لصناعة الخزف وسط رغبة الناس بالهروب من أمام الشاشات

عربي بوست
تم النشر: 2018/04/27 الساعة 14:45 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/04/27 الساعة 14:48 بتوقيت غرينتش

بيعت لأول مرة مقابل 250 جنيهاً إسترلينياً (357.58 دولار) فقط، كانت هديةً غير مُحبَّبة بالنسبة لمُتلقيها، فحفظها داخل صندوق أحذية قديم، إلى أن قرَّر في النهاية إخراجها في مارس/آذار 2018 ، كان مذهولاً لرؤية سعرها يصل إلى 381 ألف جنيه إسترليني في مزاد علني.

إنه رقمٌ قد تتوقعه لأعمالٍ فنية لسلالة مينغ الصينية الحاكمة أو منحوتات الفنان بيكاسو، ولكنه في الحقيقة ثمن قطعة من الخزف.

كانت تلك المزهرية التي صنعها الخزَّاف البريطاني الراحل هانز كوبر للمرة الأولى في سبعينيات القرن الماضي، لها شكل أنيق مُستوحى من شخصيات بحر إيجه الإغريقية القديمة، ويُشعرك سطحها المنقوش وكأنَّها استُخرجَت لتوها من الأرض.

 تضاعف سعر هذه المزهرية 1500 مرة خلال أربعة عقود ، إن هذا ليس تعبيراً فقط عّن الأثر الإيجابي الذي يشبه التعتيق الذي يحدثه الزمن في الفن ، بل إنه أيضاً تعبير عن الصعود المبهر لعالم صناعة الخزف في  عالم اليوم، حسب تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية.

 ذُهِلَ عالم الخزف أيضاً من هذه الصفقة، ففي حين أنَّ كوبر يُعد شخصيةً محورية في فن الخزف ببريطانيا، وتُعرَض بعض أعماله في متحف فكتوريا وألبرت في لندن ومتحف المتروبوليتان للفنون في مدينة نيويورك، فإن ما يعكسه هذا المبلغ الضخم -الذي يفوق ضعف المبلغ السابق الذي وصلت له أعمال كوبر- هو حقيقة أنَّ فن الخزف يشهد حالياً ازدهاراً شديداً.

إذ يبدو أن صناعة الخزف التي تعد واحدة من أقدم الصناعات ، حيث تمتد جذورها لـ24 ألف عام مضت، تعود للواجهة أخيراً بعد أن همشت طويلاً.

بريطانيا الخزفية

كان معرض الفنون الخزفية الذي نظمته جمعية "سيراميك آرت لندن" الشهر الماضي مارس/آذار 2018 مُكتظاً بالحضور أكثر من أي وقتٍ مضى.

وفِي منتصف أبريل/نيسان 2018، تحوَّلت حديقة مركز باربيكان في مدينة لندن إلى معرضٍ آخر للأعمال الخزفية، عُرضت فيه أعمالٌ لـ60 فناناً من ستوديوهات "تيرنينغ إيرث كوليكتيف" في لندن، حيثُ بدأ العديد من صانعي تلك الأعمال مهنتهم من خلال تلقِّي الدروس هناك.

 كما ازدهرت منظماتٌ أخرى مُماثلة في صناعة الخزف تجمع الموارد وتشارك الأفران في مختلف أنحاء المملكة المتحدة، ومن ضمنها "غلاسكو سيراميكس ستوديو" و"كلاي ستوديو مانشستر".

وفي كامبريدج، في الوقت نفسه، يحتفل متحف فيتزويليام ، بـ"ربيع صناعة الخزف" مع اثنين من العروض المتزامنة.

العرض الأكبر، تحت عنوان "Things of Beauty Growing" أو "أشياء من الجمال المتزايد"، عبارة عن استعراضٍ كبير للأعمال الخزفية البريطانية، وهو الأول من نوعه في المتحف، ويستجيب لما تُشير هيلين ريتشي المُنظِّمة للمعرض إلى أنَّه "زيادةٌ مُطردة في الاهتمام" بمخزون المتحف من الأعمال الخزفية في القرنين الـ20 والـ21.

يجمع المعرض بين قطعٍ عتيقة مؤثرة من الصين، وكوريا، واليابان وأعمال الخزَّافين في القرنين الـ20 والـ21.

هل هم فنانون أم خزافون؟

قالت هيلين عن شعار المعرض: "كان هناك الكثير من الحديث حول صناعة الخزف في لندن. أين بدأ، ومتى أصبح فناً؟". وأوضحت أنَّ بعض الفنانين يُحبون تصنيفهم على أنًّهم خزَّافون، بينما يُفضِّل آخرون مصطلح "فنان الخزف".

 وأضافت: "إنَّه أمرٌ مُرتبط باختلاف الجيل إلى حدٍ ما"، وتابعت: "يُفضِّل الكثير من الأشخاص الآن أن يُعرَّفوا على أنَّهم فنانون، والطين هو بيئتهم المُفضَّلة (اختيارهم المُفضَّل). في حين أنَّ بيرنارد ليتش، والمعروف غالباً باسم أبو فن الخزف البريطاني، يُفضِّل أكثر مُصطلح الخزَّافين".

أديداس ووعاء المعكرونة

تشمل مقتنيات الخزف المثيرة الحالية في المعرض أعمالاً لفنان يُدعى جيسي واين، يعيش في نيويورك لكنَّه من مواليد بلدة تشستر بإنكلترا، حسبما قالت هيلين.

وأضافت: "إنَّه يصنع هذا النوع من الأعمال المنحوتة ببراعة"، التي تتنوَّع ما بين الأعمال ذات الطابع التجريدي المُستوحاة من الأرض وكذلك وضع لمساته الفنية اللامعة والمصقولة على وعاء المعكرونة الخاص به، والأكواب ماركة سبورتس دايركت والأحذية المفتوحة ماركة أديداس التي يرتديها في الاستوديو.

لماذا تزدهر الآن؟

"تنتشر حالياً فكرة إنفاق مبلغٍ كبير مقابل شراء أشياء قليلة في المقابل"، هذه أحد الأسباب التي تجعل صناعة الخزف "لافتةً وُمثيرة في الوقت الحالي"، حسب هيلين.

إذ تقول "أنَّنا أصبحنا نشهد هاوين من الشباب، ونرى أشخاصاً يُنفقون الأموال على عملٍ مصنوع يدوياً يُعجبهم حقاً، بدلاً من شراء شيءٍ يُنتَج بكمياتٍ كبيرة أو في مُتناول الجميع".

ولكن ليس هذا السبب الوحيد.

فن ثلاثي الأبعاد يجعلك تلمس مكان يديه

هناك شعور بسيط بالبهجة ينبع من فكرة وجود رابط ما مع صانع العمل من خلال عنصرٍ ملموس ثلاثي الأبعاد.

وتقول هيلين: "لأن الخزف يُصنَع باليد، بإمكانك الإمساك به أو تخيُّل الأمر، أو استخدامه، وتلمس يداك مكان أيدي صانعيه.

يُحب الناس كثيراً هذه الصلة المباشرة. ويحبُّون معرفة كيف تُصنع الأشياء، ويسألون عن ذلك طوال الوقت. يهتم الناس بالتقنيات، والخامات، وعملية الصُنع".

نحن بحاجة ماسة لهذه العملية اليدوية الفظة بسبب التحديق أمام الشاشة طويلاً

هيمنة الشاشة على حياتنا يبدو لها دور في ازدهار الخزف، فقد أصبح الكثير من الناس يصنعون الخزف بأنفسهم، على حد قول توبي بروندين، مدير جمعية سيراميك آرت لندن.

ويقول إنَّ زيادة الرغبة في ممارسة صناعة الخزف مقترنة بالطفرة الحديثة في الحياكة، وخبز العيش، وصنع الجعَّة (أي الأعمال اليدوية).

ويوضح وجهة نظره قائلاً: "كلها أشياء مرتبطة ببعضها البعض. إذا اقتنيت وعاءً، وهو رمزٌ لأي عنصر خزفي، يتعلَّق الأمر بتركيبته، وليست هناك أي طريقة لرقمنته.

ولا توجد اختصارات في عملية الصُنع. إذا فقدت التركيز، يفسد ما تصنعه. إنَّها عمليةٌ يدوية إلى درجةٍ فظة، تمثل ترياقاً للحياة التحليلية المُستندة إلى الشاشة حيثُ يقضي معظمنا أوقات عمله، وجزءاً كبيراً من أوقات الراحة كذلك. الناس ينتقلون إلى التجارب المادية في هذا العالم الرقمي".

على غرار برامج الطهي

ولكن هذا العالم الرقمي والتليفزيوني على السواء  يلقي ببصماته بقوة على صناعة الخزف.

فقد كان هناك برنامج The Great Pottery Throw Down الذي استمر عرضه على قناة BBC2 في الفترة ما بين عامي 2015 و2017، وأظهر أعضاءً من الجمهور يتنافسون لصنع أفضل الأواني، على غرار برنامج مسابقات الطبخ البريطاني الأشهر Bake Off.

ويقول بروندين: "أعتقد أنَّ البرنامج لفت الانتباه بالطبع، لكنَّني أشك في كونه كان مسؤولاً عن تزايد شعبية صناعة الخزف. فبينما ساعَدَ بالتأكيد على ازدهار هذه الحرفة، لكنَّه أيضاً كان استجابةً لتلك الشعبية وليس سبباً في خلقها".

حياة بديلة أساسها الطين

 أصبح بعض فناني الخزف نموذجاً يُحتذى به في خلق طريقةٍ بديلة للحياة، أمثال آدم بويك، الذي يقول : "إنَّه يعيش على ساحل بيمبروكشاير، يُبحر كل يوم في الساعة 6 صباحاً، ويُنقِّب عن الطين في الأرض".

وفي بعض الأحيان يترك أثراً جميلاً في الأرض على شكل وعاء كما هو موثقٌ في منشوراته على موقع إنستغرام.

ويضيف: "موقع إنستغرام عامل مؤثر بالنسبة للجيل الأصغر من صناع الخزف. إنَّه يغير الطريقة التي يسوقون بها مصنوعاتهم".

ويعتبر الخزاف الأميركي إيريك لاندون، من استوديو تورتوس في شيكاغو نجماً في صناعة الخزف، إذ يتجول حول العالم وينشر لمتابعيه البالغ عددهم 786 ألفاً على إنستغرام مقاطع فيديو لنفسه وهو يسيطر بلا جهد على العجين الرطب بذراعين مفتولي العضلات ومُسمَّرين، أو صورة سيلفي مع الممثلة سوزان سارندون في إحدى ورشه.

موسم الهجرة من الأناقة إلى الخشونة   

كان سابقاً معروفاً بتصميم رسومات لدار فيندي لتصميم الأزياء، أما الآن فهو يملأ الاستوديو الخاص به بالمزهريات اللامعة البسيطة.

يقول جون بوث، رسام الموضة والمنسوجات الذي اتجه للفخار، إنَّه اتجه للبيع مباشرةً عبر إنستغرام بدلاً من الصالونات الفنية.

بدأ بوث المنضم حديثاً للوسط الفني دروساً ليلية في ستوديو تيرننغ إيرث لصناعة الخزف عام 2015، وبيعت مجموعته الأولى المكونة من 50 طبقاً مطلياً في يومين.

ويقول عن الأعمال المصنوعة من ألواح الطين وعليها وجوه مرسومة: "إنها عملية بسيطة، وهناك خشونة بها. وهي مصنوعة للاستخدام".

يشارك بوث حالياً في تصميم "منضدة جانبية من الخزف يمكنك وضع أوعية الخزف الخاصة بك عليها"، بالإضافة لشراشف الاسرة، والأثاث الخفيف. ويقول: "هذا يأخذني بعيداً عن الشعور غير المريح بأنَّ الفن يجب أن يكون نخبوياً أو مفاهيمياً. لا يخاف الناس من أعمالي، فهي ديكور مرح أو شيء له وظيفة".

نجوم يضيقون على حياتهم من أجل اقتنائه

ليس مفاجئاً أنَّ مشاهير الموضة مثل سيمون روشا وسيلفيا فيندي معجبتان بمنشورات بوث، بل إن هناك من يفعل أكثر مِن مجرد إعجاب .

فقد اعترف جوناثان أندرسون المدير الإيرلندي المبدع لبيت الأزياء الإسباني الفاخر لوي أنَّه يقلص ميزانيته الشخصية لإكمال مجموعته من فخار برنارد ليتش.

كما أن المصمم البلجيكي راف سيمونز، الذي يشغل حالياً منصب المدير الإبداعي في شركة كالفن كلاين للأزياء، هو مدمن لشراء وبيع منتجات الخزف، ويعرض بلا تردد أوان لبيكاسو قابلة للكسر في غرفة المعيشة خاصته.

هل يقع العمل اليدوي المهمش تاريخياً في حبائل الاستثمار؟

في جمعية سيراميك آرت لندن، اتصل ممثل من شركة بونهامز بالفنانة نيكولا ثيكستون، التي تصنع تماثيلَ تجسيدية للحيوانات، ليُكلفها بعمل منتجاتٍ جديدة حتى تُبَاع في دار المزاد.

ويقول بروندين: "عالم المزاد يتبع التوجهات الرائجة، ويجد المساحات غير المستغلة. هُمِّشَ الخزف تاريخياً لارتباطه بالعمل اليدوي، ويمكنهم رؤيته الآن وهو يزدهر".

لكنَّه يضيف: "ما زلنا في الحقبة التي يشتري فيها الناس لأنفسهم بدلاً من الشراء بهدف الاستثمار. على أية حال، هذه هي الطريقة التي عليك الاستثمار بها: شراء الأشياء التي تجلب لك السعادة".