مستوطنات في أعماق البحر حيث يعيش الآلاف من البشر.. حلم نيوتن لحياة ممكنة تحت البحر

ويشرع نيوتن حالياً في تنفيذ المشروع الذي من الأرجح أن يدخل التاريخ من خلاله، ويتمثل في مستوطنة شاسعة تحت سطح البحر استغرق تطويرها عقود، وسوف تمنح البشرية ملاذاً آمناً إذا لم تسر الأمور على ما يرام فوق سطح الأرض.

عربي بوست
تم النشر: 2018/04/17 الساعة 18:58 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2019/04/09 الساعة 08:23 بتوقيت غرينتش
الحياة في الأعماق ليس مستحيلا لدى نيوتن/istock

 

في مكتبه بالورشة الخشبية المكونة من طابقين بالقطاع الصناعي من ساحل فانكوفر الشمالي على الحدود بين كندا والولايات المتحدة، بالقرب من المكان الذي ترعرع به كان يجلس فيل نيوتن.

يتجاوز 70 من عمره الآن ويبدو مستعداً تماماً وسريع البديهة لرواية قصته بأسلوب البحارة القدامى، فهو أحد كبار مستكشفي أعماق المحيطات في العالم. وخلال حياته المهنية على مدار ستة عقود، قام بتطوير تقنيات الغوص التي تحمل مواصفات الصناعة حالياً وصمم أجهزة الغوص التي أصبحت أساسية لدى العديد من القوات البحرية وسجل أولى عمليات الغوص في العالم.

كان فيل نيوتن يبلغ من العمر 16 عاماً حينما قرر للمرة الأولى أنه يريد قضاء حياته تحت سطح البحر في عام 1947، الحرب العالمية الثانية وقتها قد وضعت أوزارها منذ وقت قريب. وقد حصل والد نيوتن على وظيفة بشركة بوينغ ومكتب الشركة في ميناء فانكوفر يقع على مقربة من منزل الأسرة.

وكثيراً ما كان نيوتن يذهب إلى الميناء بمفرده ويتسلل إلى نهاية أرصفة الميناء ويحدق من خلال الشقوق بشغف شديد إلى الأسماك والشقائق النعمان والعالم السفلي المزدحم بالكائنات "يا إلهي، أليس رائعاً أن أغوص في الأعماق؟ وأذهب إلى ذلك المكان العميق؟" كان يفكر.

مستوطنة تحت سطح البحر

كان نيوتن يستكشف حقول النفط ويجري عمليات مسح السدود ويجوب مواقع تصنيع الغواصات ويستكشف حطام السفن الغارقة. وتفخر شركته التي تحمل اسم نويتكو للأبحاث بقائمة عملاء تتضمن هيئة الإذاعة البريطانية وشركة جرينبيس والمخرج السينمائي جيمس كاميرون – قدم نيوتن الأفكار والمعدات لفيلمي Abyss و Titanic وظل كلاهما صديقين.

ويتولى نيوتن أيضاً تطوير المعدات لوكالة الفضاء الأميركية وتدريب رواد الفضاء؛ نظراً لأن قاع البحر يبدو مماثلاً لسطح كوكب المريخ. لم يلتحق نيوتن بالجامعة مطلقاً. فقد علم نفسه بنفسه؛ ومع ذلك، فقد كانت الخبرات التي اكتسبها من استكشاف المحيطات هائلة.

ويشرع نيوتن حالياً في تنفيذ المشروع الذي من الأرجح أن يدخل التاريخ من خلاله، ويتمثل في مستوطنة شاسعة تحت سطح البحر استغرق تطويرها عقود، وسوف تمنح البشرية ملاذاً آمناً إذا لم تسر الأمور على ما يرام فوق سطح الأرض.

يبدأ العمل في النموذج المصغر في وقت لاحق من هذا العام، وسوف يتم تشييد المستوطنة الأوسع نطاقاً بعد ذلك مباشرة. وطالما تسير الأمور وفقاً لما هو مخطط، سيبدأ مئات ثم آلاف من الناس في الهجرة إلى قاع البحر لممارسة حياتهم في قاع المحيط بنفس أسلوب ممارستهم لها فوق سطح الأرض، وخلال فترة وجيزة، سوف يلحق بهم الكثيرون.

ويصعب تحديد ما إذا كان كل شيء يسير وفقا للخطة. جيمس ماكفارلين من الشركة الهندسية الدولية للغواصات يؤكد أنها بيئة قاسية، فهناك مياه مالحة وصدأ.. وحينما تتعامل مع الحياة، تصبح الأشياء باهظة الثمن بسرعة كبيرة.

ومع ذلك، يظل نيوتن مصراً على قراره. فقد كرس حياته بأكملها لتطوير أساليب تسمح للإنسان بقضاء قدر كبير من الوقت تحت سطح المياه، وغالباً ما يكون ذلك على أعماق هائلة. وهو الآن في المراحل النهائية من مهمة الانتقال بالبشرية إلى القاع "لدي هذه الصورة الرائعة في مخيلتي. طفل صغير يجلس على ركبة والده تماماً كما كنت أفعل ويشير إلى سقف هذا الموطن ويقول "هل صحيح يا أبي أن الناس كانوا يعيشون في الأعلى؟" يقول نيوتن بحلم.

تجارب سابقة

فكرة أن يعيش الجنس البشري ذات يوم في قاع المحيط ليست جديدة.وفي عام 1962، قضى زوجان فرنسيان، ألبرت فالكو وكلاود ويزلي، أسبوعاً داخل بيئة صغيرة شارك في تصميمها المستكشف الفرنسي جاك كوستو. وكان عمقها يصل إلى 33 قدماً أسفل سطح البحر بالقرب من مارسيليا وكانت تبدو مثل محطة الفضاء المائي.

وفي العام التالي، أقنع كوستو فريقاً يتألف من خمسة أشخاص بالعيش لمدة شهر تحت سطح البحر الأحمر على سواحل السودان. وبعد انقضاء عامين، قام بتطوير قاعدة ثالثة تُعرف باسم كونشيلف الثالث، والتي ثبتها على عمق أكثر من 300 قدماً أسفل سطح المياه على السواحل المجاورة لمدينة نيس. وعاش هناك فريق مكون من ستة أشخاص على مدار ثلاثة أسابيع. وكانوا يغادرون القاعدة يومياً للعمل في أحد نماذج منصات النفط المجسمة، وكأن من المأمول أن يتمكن السكان من أداء أعمال مماثلة في المستقبل، وفي تلك المرحلة ستكون المنصة حقيقية.

وبعد فترة وجيزة، ظهرت بيئات إضافية على سواحل برمودا وكاليفورنيا وألمانيا، وقد تم تمويل تلك القواعد من قبل الحكومات أو رجال الأعمال الأثرياء أو شركات البتروكيماويات؛ وكان هناك تفاؤل كبير على المستوى الأكاديمي. وهنا بزغت فرصة أفضل أمام العلماء كي يدرسوا أعماق المحيط الداكنة ورواد البحار كي يدرسوا علم التشريح وشركات الطاقة كي تستكشف موارد بديلة والغواصين كي يصلوا إلى أعماق قياسية.

في الستينيات، كان كل من يعمل في أنشطة المحيطات يعتقد أنه سيكون هناك مدن تحت سطح الماء خلال فترة وجيزة، لكن ذلك لم يحدث كما يعلق نيوتن.

في نهاية الستينيات، تباطأ السباق لاستعمار قاع المحيط ثم تلاشى نهائياً، وكان تشييد تلك المستوطنات باهظ الثمن وإدارتها أكثر تكلفة. ويمكن أن يؤدي انعدام إلى الضوء الطبيعي إلى إثارة جنون المستأجرين. ونظراً لتشييد القواعد في ظل الضغط المعتاد، كانت فترات إزالة الضغط مطولة ومحفوفة بالمخاطر.

وكانت الفرق تمضي أسابيع في أي قاعدة وتجري الاختبارات وتتعرف على المزيد من حدود القدرات البشرية على التحمل وتعاود الظهور على السطح ببطء وفي بعض الأحيان لا تعود مطلقاً. وتم هجر تلك البيئات الواحدة تلو الأخرى. ووجهت المؤسسات البحثية أموالها إلى جوانب أخرى. وحولت الأجهزة الحكومية اهتمامها إلى الفضاء. فقد حل الفضاء محل المحيطات ليكون وجهة البشر النهائية.

قصص كوستو المذهلة

وفي ذلك الوقت، كان نيوتن لا يزال مبتدئاً في مجال نشاط المحيطات، بدأ العمل على المفاهيم التي تمت الإشادة بها في وقت لاحق؛ ومع ذلك، لم تضيع تجارب كوستو، التي بدت للبعض أقرب للخيال العلمي من الواقع، عن عقله مطلقاً. وأصبح الموضوع نوعاً من الهاجس.

ماذا لو استطاع أن يخلق بيئة تكون أقل تكلفة في التشييد والإدارة؟ ماذا لو استطاع أن يجد وسيلة لإعادة إنتاج الضوء الطبيعي الذي يحتاجه الإنسان كي يعيش مرتاحاً؟ ماذا لو استطاع التغلب على المشكلات الناجمة من الضغط الهائل لأعماق المحيطات؟ وماذا لو استطاع أن يفعل ما لم يستطع كوستو ومعاصروه القيام به: وهو إقناع المجتمع بفكرة العيش على عمق 3000 قدم تحت سطح البحر؟

وبنهاية الستينيات، بدأ العمل على إنشاء مستوطنته الخاصة، والتي بدأ يشير إليها باسم قاعدة نبع ألفا.

يدون أفكاره من حين لآخر على قصاصات الورق ويجمعها في صورة افتراضات متراكمة معاً، وحينما كان يطور تقنية جديدة لأحد العملاء، كان يختبر إمكانية دمجه ضمن خططه الخاصة بالقاعدة. وفي بعض الأحيان، كان أحد المخططات يحقق تقدماً هائلاً ويمكنه من فهم الأخطاء الواقعة حينما كان يحاول أحد العيش في أعماق البحار. وحدث بعد ذلك نجاحات وإخفاقات على مدار نصف قرن.

نظام دعم الحياة

وهكذا يخطط نيوتن لبناء المستوطنة. أولاً، سوف يبحث عن معدات فيما يسميه "مقبرة"، وهو مكان شاسع يخزن به الأجهزة التي يتم التخلص منها، بعدها يحدد موقع مجموعة من صهاريج التشبع ويحولها إلى مقار إقامة ومعامل وسلسلة من الأقفال وحظيرة غاطسات، ويتم لحام كل صهريج بالذي يليه. وفي وقت لاحق، سوف يزود الهيكل بمحرك من طراز ستيرلنج قادر على توليد الكهرباء اللازمة لخلق أشعة شمسة اصطناعية والسماح للسكان بزراعة المحاصيل وتمكينهم من تكسير المياه إلى عنصري الهيدروجين والأكسجين، وينقل نويتن هذه المعلومات الأخيرة ويقول "هذا هو نظام دعم الحياة".

في مرحلة لاحقة يتم نقل المستوطنة إلى المياه المفتوحة، وفي الأرجح إلى مضيق خوان دي فوكا الذي يبلغ طوله 154 كم ويصب في المحيط الهادي جنوب جزيرة فانكوفر. وسوف يتم غمرها حتى تصل إلى قاع البحر على بعد بضعة آلاف قدم، ثم يتم تثبيتها إلى جانب فتحة حرارية مائية – وهو نبع مياه تحت سطح البحر. وسوف يمنح النبع القاعدة اسمها وسوف تتولى الانبعاثات الساخنة تشغيل محرك ستيرلنج وسوف يتم التنقيب عن الرواسب الغنية بالمعادن. وسوف يبيع السكان الكوبالت النقي إلى المشترين فوق سطح الماء. ولن يحقق نيوتن أي مكاسب مالية من المشروع. ويأتي التمويل من الأجهزة الحكومية، رغم أن نيوتن سوف يتخلى عن المطالبة بتصريح رسمي بشأن ما إذا كان من الممكن تثبيت جزء كبير من المعدن بأرضية المحيط.

 

وحينما يتم الانتهاء من تشييد المستوطنة، سيكون نيوتن واحداً من بين من يخاطرون. وسوف تتبعه زوجته ميري، التي تزوج منها منذ أكثر من 60 عاماً. وسوف تأتي ابنته فيرجينيا لزيارتهما. وسرعان ما سيلحق أفراد الأسرة الآخرون من مجتمع المحيط بهم، وهم العلماء والمهندسين وخبراء علم المحيطات، بالإضافة إلى جيمس كاميرون، الذي حجز مكاناً له بالفعل. وخلال أسابيع قليلة، سوف يكون السكان الأوائل بالقاعدة – نحو عشرة أشخاص – قد استقروا في الموقع.

نفس الحياة.. لكن في الأعماق

في البداية سيعيش المستوطنون لشهور دون المغادرة، سيكون الجو داخل المستوطنة متوافقاً مع الجو على سطح الأرض، ما يؤدي إلى عدم وجود حاجة إلى إزالة الضغط ويجعل الانتقال بين العالمين "مثل استخدام المصعد في النزول إلى المرآب، بحسب ما ذكره نيوتن.

مع الوقت يتم التوسع في المستوطنة ويتزايد أعداد الأشخاص الذين سينتقلون إلى الأعماق ليبدأوا حياتهم الثانية؛ ثم تظهر مستوطنات أخرى في أنحاء العالم.

حلم نيوتن لن يغير نمط حياة البشر اليومية، ستتغير فقط البيئة التي يمارسون فيها تلك الحياة فقط. يقومون بالأشياء التي اعتادوا القيام بها، مثل الذهاب إلى العمل والثرثرة مع الأصدقاء وقضاء أوقات طويلة على الشبكات الاجتماعية. وسوف يكون هناك مستشفيات وبنوك ومعارض ومكاتب وحدائق وصالات ألعاب رياضية ودور سينما ومزارع وربما غابة أو اثنتان أيضاً في الأعماق. وسوف يولد الأطفال داخل المستوطنة. وفي النهاية سيموتون هناك أيضاً.

ومع ذلك، كل ذلك سوف يكون كاملاً. ويقول نيوتن أولاً "يتعين أن نحدد ماذا نريد أن نفعله هنا". ويتوقف ثم يضيف "لم يتم القيام بأي من هذا".

ومع ذلك، ما مدى سهولة إقناع الآخرين بتلك المخاطرة؟ قال نيوتن "سوف يقتنعون. فقد تحدثت كثيراً عن هذا الأمر مع أصناف من البشر من المجانين إلى الجادين وقالوا "لو أنك فعلت هذا، فإننا نريد الذهاب".

ويبدو ذلك رد فعل إيجابياً. فقد قضى نيوتن معظم حياته تحت سطح الماء. ويرى أن المحيط موطنه. ومع ذلك، ماذا عن بقيتنا؟ ماذا عن العزلة؟ وماذا عن عدم القدرة على الذهاب إلى أي مكان وقتما نشاء؟ والشمس؟

لا يشك نيوتن في نجاح حلمه فالكثير من الناس قالوا إن الطيران مستحيل، وآخرون قالوا أنهم لن يسافروا إلى القمر، والأهم حسب نيوتن هو السؤال "ماذا سنفعل إذا ما أصابت كارثة كبرى عالمنا؟".. لابد أن نجد مكاناً نأوي إليه"، يختم بحماس طفل.