يجري فرانك ليكو، عالم الأحياء في مركز أبحاث السرطان الألماني، دراساتٍ على جراد البحر الرخامي الذي يبلغ طوله 6 بوصات (15.2 سم). ولعل العثور على العينات أمرٌ سهلٌ بالفعل: يمكن أن يشتري الدكتور ليكو جراد البحر من محلات بيع الحيوانات الأليفة بألمانيا، أو بإمكانه التوجه مع أصدقائه إلى بحيرة قريبة.
انتظر حتى يحل الظلام، وافتح مصابيح الرأس ثم انزل في المياه الضحلة. سيخرج جراد البحر الرخامي من مخابئه ويبدأ في التجمع حول كاحليك.
قال الدكتور ليكو حسب التقرير الذي نشرته صحيفة The New York Times: "إنه أمرٌ مدهش حقاً، تمكَّن 3 مِنَّا من الإمساك بـ150 واحدة في غضون ساعةٍ واحدة، وباستخدام أيدينا فقط".
على مدار الخمس سنوات الماضية، رتَّبَ الدكتور ليكو وزملاؤه تسلسُل جينوم جراد البحر الرخامي. وذكرت دراسة نُشِرَت يوم الاثنين، 26 مارس/آذار، أن الباحثين اكتشفوا أنه نظراً لانتشار جراد البحر الرخامي فهو يُعد واحداً من أكثر الفصائل المعروفة في العلوم.
قبل 25 عاماً، لم تكن تلك الأنواع موجودة ببساطة. حتى حدثت طفرة جذرية في جرادة بحر أنتجت جراد البحر الرخامي في لحظة واحدة.
الجراد الرخامي يهدد الجراد الأصلي
منحت الطفرة الفرصة للكائن لاستنساخ نفسه، حتى أنه انتشر الآن في أغلب أنحاء أوروبا ووصل إلى باقي القارات. ووصل إلى مدغشقر عام 2007 وبلغ عدده الملايين الآن حتى أنه بات يهدد جراد البحر الأصلي.
قال زين فوكيس، عالم الأحياء في جامعة تكساس بوادي ريو غراندي، الذي لم يشارك في الدراسة الجديدة: "ربما لم نتمكَّن قط من التقاط جينوم فصائل ما بعد تحوُّلها إلى فصائل بوقت قصير".
أصبح جراد البحر الرخامي مشهوراً بين هواة الحياة البحرية الألمان منذ أواخر التسعينيات. وجاء أول تقرير عن المخلوق من أحد الهواة الذي أخبر الدكتور ليكو أنه اشترى ما وُصِفَ له على أنه "جراد بحر تكساس" عام 1995.
صُدِمَ الهاوي، الذي رفض الدكتور ليكو الإفصاح عنه، عند معرفة الحجم الكبير للجراد وكمية البيض الهائلة. يمكن لواحدة من جراد البحر إنتاج المئات من البيض في المرة الواحدة.
سرعان ما تخلص الهاوي من الجراد بمنح أصدقائه إياه. ولم يمر وقت طويل على ذلك حتى ظهر ما يُسمَّى بجراد البحر في محلات الحيوانات الأليفة في ألمانيا وخارجها.
ونظراً لأن جراد البحر أصبح أشهر، اشتدت حيرة أصحاب الجراد بشكل متزايد. ويبدو أن جراد البحر يضع البيض دون تزاوج، وجميع السلالة من النساء وتنمو كل واحدة وهي على استعداد للتكاثر.
عام 2003، أكد العلماء أن جراد البحر الرخامي يستنسخ نفسه بالفعل. رتَّب العلماء جزيئاتٍ صغيرة من الأحماض النووية للحيوان حسب السلاسة، وحملت تلك الجزيئات تشابهاً مذهلاً مع فصيلة من جراد البحر تسمى كركند المستنقعات، المنحدرة من أميركا الشمالية والوسطى.
وبعد مرور 10 سنوات، شرع الدكتور ليكو وزملاؤه في تحديد الجينوم المتكامل لجراد البحر الرخامي. ومنذ ذلك الوقت، لم يُصبح أمراً غريباً في عالم الحياة البحرية.
على مدار عقدين من الزمن، كان جراد البحر الرخامي يتكاثر بسرعة مثل كائنات Tribbles التي ظهرت في فيلم الخيال العلمي "Star Trek". وقال الدكتور ليكو: "يشهد الناس ولادة حيوان واحد، ثم بعد مرور عام واحد يصلوا إلى بضع مئات".
أين بدأ جراد البحر المتوحش؟
ويبدو أن الكثير من مالكي الجراد قادوا سياراتهم إلى بحيرات قريبة وألقوا بجراد البحر الذي بحوزتهم. واتضح أنَّ جراد البحر الرخامي لم يكن يحتاج إلى أن يُدلل كي يعيش ويزدهر. تكاثر جراد البحر بكميات متزايدة في البرية، وأحياناً يسير على بعد مئات الياردات ليصل إلى بحيرات وجداول جديدة. بدأت فصيلة جراد البحر المتوحش في الظهور في جمهورية التشيك والمجر وكرواتيا وأوكرانيا في أوروبا ، ثم في اليابان ومدغشقر في وقت لاحق.
لم يكن من السهل ترتيب مجموعة العوامل الوراثية لهذا الحيوان ترتيباً تسلسلياً حسب The New York Times: لم يقم أحد بترتيب العوامل الوراثية لجراد البحر. في الواقع، لم يقم أي شخص بترتيب العوامل الوراثية لأي فصيلة قريبة من جراد البحر.
كافح الدكتور ليكو وزملاؤه لسنواتٍ من أجل تجميع أجزاء من الحمض النووي في خريطة واحدة لجينوم هذا الحيوان. وبعد أن نجحوا في ذلك، قاموا بترتيب مجموعة العوامل الوراثية لـ15 عينة أخرى، بما في ذلك جراد البحر الرخامي الذي يعيش في البحيرات الألمانية وأولئك الذين ينتمون إلى أنواع أخرى.
منح هذا التفصيل الوراثي الثري نظرة أوضح للعلماء بشأن الأصول الغريبة لجراد البحر الرخامي.
ويبدو أنَّها تطورت من نوع معروف باسم كركند المستنقعات، والذي يعيش فقط في روافد نهر ساتيلا في فلوريدا وجورجيا.
وخلص العلماء إلى أنَّ الأنواع الجديدة ظهرت عندما تزاوج اثنان من كركند المستنقعات. كان لدى أحدهم طفرة في خلية جنسية – ولا يمكن للعلماء معرفة ذلك ما إذا كانت بويضة أم حيوان منوية.
تحتوي الخلايا الجنسية العادية على نسخة واحدة من كل كروموسوم. لكنَّ الخلية الجنسية لجراد البحر الغريب تحتوي على نسختين.
وبطريقةٍ ما اندمجت خليتان جنسيتان وأنتجتا جنيناً من جراد البحر به ثلاث نسخ من كل كروموسوم بدلاً من النسختين العاديتين. وعلى نحوٍ ما، أيضاً، لم يعان جراد البحر الجديد من أي تشوُّهات نتيجة لكل ذلك الحمض النووي الإضافي.
نما الجراد وازدهر. ولكن بدلاً من التكاثر جنسياً، كان ذلك أول جراد بحر رخامي يقدر على أن يجعل بيضه ينقسم إلى أجنة. ورث النسل، وجميعه من الإناث، نسخاً متطابقة من مجموعاتها الثلاث من الكروموسومات. كانت حيوانات مُستَنسَخَة.
والآن بعد عدم تطابق كروموسوماتهم مع تلك الخاصة بكركند المستنقعات أو جراد المستنقعات، لم يعد بإمكانهم إنتاج نسل قابل للحياة. سوف يتزاوج ذكر جراد بحر المستنقعات بسهولة مع جراد البحر الرخامي، لكنهم لن يكونوا أبداً آباء لهذا النسل.
يتكاثر تلقاء نفسه
في ديسمبر/كانون الأول، أعلن الدكتور ليكو وزملاؤه رسمياً أنَّ جراد البحر الرخامي هو نوع يتكاثر من تلقاء نفسه، والذي أطلقوا عليه اسم عذارى كركند المستنقعات. لا يمكن للعلماء التأكد من أين بدأت هذه الأنواع. لا توجد مجموعات برية من جراد البحر الرخامي في الولايات المتحدة، لذلك من الممكن تصوُّر أنَّ الأنواع الجديدة نشأت في حوضٍ مائي ألماني، حسب The New York Times.
كان كل جراد البحر الرخامي الذي درسه فريق دكتور ليكو متطابقاً جينياً مع بعضه البعض. ومع ذلك، سمح هذا الجينوم الواحد للأنواع المُستَنسَخَة بالازدهار في جميع أنواع البيئات – من حقول الفحم المهجورة في ألمانيا إلى حقول الأرز في مدغشقر.
وأظهر اباحثون في دراستهم الجديدة، التي نُشِرَت في مجلة Nature Ecology and Evolution العلمية، أنَّ جراد البحر الرخامي قد انتشر عبر مدغشقر بوتيرةٍ مذهلة، عبر مساحةٍ بحجم ولاية إنديانا الأميركية في حوالي عشر سنوات.
وبفضل العمر الصغير لهذه الأنواع، يمكن لجراد البحر الرخامي أن يلقي الضوء على أحد الألغاز الكبيرة حول مملكة الحيوانات: لماذا يمارس العديد من الحيوانات الجنس؟
يشتمل نوعٌ واحد فقط من بين 10 آلاف نوع على استنساخ الإناث. وتشير العديد من الدراسات إلى أنَّ الأنواع الخالية من الجنس نادرة لأنَّها لا تدوم طويلاً.
وفي إحدى هذه الدراسات، قام أبراهام تاكر من جامعة جنوب أركنساس الأميركية وزملاؤه بدراسة 11 نوعاً لاجنسياً من براغيث الماء، وهو نوع صغير من اللافقاريات. يشير حمضهم النووي إلى أنَّ هذه الأنواع تطورت فقط منذ حوالي 1250 عاماً.
هناك الكثير من المزايا الواضحة لكونك مستنسخاً. لا ينتج جراد البحر الرخامي سوى نسل خصب، مما يسمح لفصيلته بالتكاثر والانتشار. يقول الدكتور تاكر: "اللاجنسية إستراتيجية رائعة على المدى القصير".
ومع ذلك هناك فوائد للجنس على المدى الطويل. قد تكون الحيوانات المُستَنسَخَة جنسياً أفضل في مكافحة الأمراض، على سبيل المثال.
إذا طوَّر مرضٌ طريقةً لمهاجمة نسخة واحدة، ستنجح إستراتيجيته في كل استنساخ. وتدمج الأنواع المتكاثرة جنسياً جيناتها معاً في تركيباتٍ جديدة، مما يزيد من احتمالات تطوير الدفاع.
يوفر جراد البحر الرخامي للعلماء فرصة لمشاهدة هذه المسرحية بشكلٍ عملي منذ البداية. في أول عقدين من عمرها، كان وضعها جيد للغاية. ولكن عاجلاً أم آجلاً، قد ينقلب حظ جراد البحر الرخامي.
وتكهَّن الدكتور ليكو قائلاً: "ربما يتمكَّنون من العيش على قيد الحياة لمئة ألف سنة. سيكون هذا وقتاً طويلاً بالنسبة لي شخصياً، ولكن في عمر التطوُّر سيكون مجرد نقطة على شاشة الرادار".