على شاطئ بحر غزّة، يجتمع الأصدقاء والأحبّة فيقضون أوقاتاً مميّزة، بالرغم من تركهم أهم وسائل التسلية والاستمتاع على الشاطئ "الطعام والشراب"، فشهر رمضان ضيفهم والصيام زادُهم، وبالرّغم من قلة مرتادي البحر نهار رمضان إلا أن البحر لا يخلو من عشاقه.
ففي ساعات الظهيرة الحارّة وبينما الهدوء يغطي المكان تتسلل لمسامعك ضحكاتٌ تقطع السَّكِينة وتنثُر المرح، لقد كانوا طُلاباً جمعهم الشوقُ في أول يومٍ دراسيٍ في الفصل الصيفيّ الجامعي.
"عربي بوست" التقاهم وشاركهم أجواءهم التي كثر فيها النقاش والمزاح واللعب والجدّ.
وكان صاحب الفكرة في زيارة البحر طالب الهندسة في الجامعة الإسلامية بغزة، براء الزيناتي من مخيم جباليا شمال القطاع، يقول لـ"عربي بوست": "دراسة الهندسة جمعتنا من كل أرجاء قطاع غزة، ونحن "الشِّلَّة" تعوَّدنا الاجتماع دوماً، في محاضراتنا وفي تدريبِنا وفي الكافتيريا ومُصلّى الجامعة، ففي كل زاوية من الجامعة لنا موقف وحكاية".
تغيير جو
ويضيف: "كنا في إجازة الفصل الدراسي الثاني، التي قاربت على الأسبوعين، لم نرَ فيها بعضنا البعض مجتمعين كالعادة، فاتفقنا الاجتماع على الشاطئ بعد انتهاء المحاضرات "نشمّ الهوا ونغيّر جو".
أما ياسر الشنطي فيُعلّق: "شو بدنا نروح نعمل في الدار والكهرباء قاطعة؟!".
ويقول عوض حمدية الذي أطلق عليه أصحابُه لقب "أبوالمبادئ" لكثرة ما يدقق في الأمور: "جئنا للبحر مشياً على أقدامنا من الجامعة الإسلامية، بالرغم من ارتفاع درجات الحرارة وانتصاف النهار، لاستغلال كل دقيقة مع بعضنا البعض، والحديث مع المشي يحلو".
براء، عوض، خالد، زهير، علي، إسماعيل، محمد، ياسر، شبابٌ من مختلف قطاع غزّة، جمعتهم صداقتهم وشوقهم وتوحّدهم في الدراسة والفكر إلى الالتقاء في أجمل مكان في غزة، حسب قولهم.
هل اجتمعتم صدفة يا شباب خاصة أن محاضراتكم ليست جميعها مشتركة؟ جميعهم أجابوا "نعم"، بينما اعترضهم "أبوالمبادئ" مستنكراً وممازحاً: "صدفة مين يا شباب؟ والكرت (أبو 10 شيكل) اللي عبيته عشان أجمّعكم وين راح؟!"، لتملأ ضحكاتهم بعدها المكان.
البعض من هؤلاء الأصحاب كان يمسك المصحف الشريف ويتلو شيئاً من الآيات القرآنية استغلالاً لساعات رمضان المبارك قبل أن ينطلقوا للمرح وتجاذب أطراف الحديث الشبابي الشائق، الذي انتهى بتوريط أحدهم في دعوة الجميع على طبق قطائف رمضاني وعصافيري بعد أن قال عويضة: "زهقان بدي حدا يعزمني"، ثم ختاماً كان ركوبهم أحد "اللَّنشات" البحرية بقيادة أحد الصيادين.
البحرُ غذاء روحيّ
أنغام القيشاوي وصديقتها، صبيّتان جامعيتان كانتا تشبكان يديهما وتتمشيّان على الشاطئ، تقول القيشاوي: "كنا نتلقّى دورة الأصيل للمحاسبة قرب الجامعة، وانتهت الدورة مبكراً، وسجّلنا المساقات الجامعية للفصل الصيفي وبقي لدينا بعض الوقت قررنا أن نمضيه على الشاطئ، فمنذ فترة لم نرَ بعضنا، كنا فقط نتواصل عبر الهاتف".
وتضيف: "شاطئ بحر غزة رائع بضجّته وهدوئه، بليله ونهاره، بصيام أهله أو إفطارهم، البحر هو نَفَسُنا وحياتنا، لذلك حتى في نهار رمضان يكون اللجوء إليه ممتعاً ومريحاً للنفس، أشعر كأنه غذاء روحي للغزيين".
ذِكر وشُكر
وانتقالاً من شباب الجامعة إلى شباب الصيد حيث أمير كسكين (20 عاماً)، الذي صفّ قاربَه في ميناء غزّة ووضع على رأسِه الطاقية وأمسك الصنارة بيدِه وراح ينثر شيئاً في الماء.
يقول كسكين لـ"عربي بوست": "أروع ما في الصيد في نهار رمضان هو أجواء الهدوء التي تعمّ المكان لقلة عدد الزائرين، وأنا أعشق الهدوء، حيث ألقي بصنارتي وأستثمر انتظاري بالاستغفار والذكر والشكر".
ويستخدم كسكين في طُعْمِه عجينةً مكونة من الدقيق والسكر والماء ليجذب الأسماك لصنارته بعد أن يلقي فتات الخبر في الماء.
ويروي: "كنت في العاشرة حين أمسكت الصنارة لأول مرة وبدأت في الصيد، وكانت المرة الأولى أيضاً التي وقعت فيها في البحر وكدت أغرق بسبب سمكتين تعلقتا بالطُّعم، ولولا عمي الصياد الذي كان أمامي في الوقت المناسب لمتُّ غريقاً".
ويوضح: "هذه يوميتي حتى أعود للبيت قبل المغرب بقليل، إما محملاً ببعض الأسماك أو بائعاً لها".
بعيداً عن الصخب
وعلى مقعدٍ منفرد كان الطفل مهند الهسِّي (13 عاماً) يجلس محدقاً بالفراغ، غير عابئٍ بحرارة الشمس أو عطش الصيام، بعد أن عاد من المسجد في مخيم الشاطئ.
يقول لـ"عربي بوست": "حفظت 8 أجزاء من القرآن في النصف الأول من رمضان، ومازلت أحفظ".
ويضيف: "أنا هنا أمام بحر غزّة من أجل الانفراد ومراجعة ما حفظته في المسجد، "اليوم عندي تسميع، والمكان هنا هادئ بينما في البيت دوشة ولا يوجد كهرباء، فتكون الأجواء مملة".
متعة الصيد
الصبيّان محمد وبلال أبوريالة، أولاد عمّ من سكان مخيم الشاطئ، جاءا للبحر مبكراً للاستمتاع بمنظر البحر قبل الانطلاق لعملهما المتمثل بالصيد، يقول محمد: "نعيش على السمك، هو ألذ طعام وإفطار للصائم، لقد تعوّدنا عليه".
الوضع نفسه يعيشه كل من الطفلين الصديقين والجارين عُديّ وحسني بكر (13 عاماً)، حيث يمتهنان الصيد بتعليم أخوالهما وأعمامهما، يقولان: "نأتي للصيد كل يوم من العصر حتى ساعات المغرب، إما باستخدام الصنارة أو الشباك، لكننا نخشى التعمق كثيراً خوفاً من طرّاد البحر الإسرائيلي الذي يطلق الرصاص على الصيادين".
يعود الصديقان للبيت فرِحَين وقد اصطادا أسماك البوري والسردين والاسكمبلا والمليط وهي المتوافرة في غزة في الغالب، نظراً لسيطرة الاحتلال الإسرائيلي على غالبية مساحة البحر.
يوضح عدي: "قبل موعد أذان المغرب بقليل تكون أمي على استعداد لقلي السمك أو شيّه ليكون إفطارنا الشهي في رمضان".
بعد العصر بساعةٍ أو اثنتين تتغير ملامح الشاطئ ويختلف الرُّوّاد، إذ تبدأ العائلات الصائمة بالتوافد شيئاً فشيئاً على الشاطئ، كلٌّ يستعد للإفطار ويتهيّأ.
سفرة على الشّط
يمسك أبومحمد الغلبان القرآن الكريم مفترشاً رمال البحر ويقرأ بصوتٍ هادئ، ويقول لـ"عربي بوست": "رصيد الإنسان للآخرة عمله فقط، ما حدا بينفع حدا يوم القيامة".
وتستعد نساء عائلة سعيد أبورمضان لموعد الإفطار بتجهيز سفرةٍ أرضيةٍ أمام الشاطئ، حيث عرضن عليها أطباق اللبن والحمص والملفوف وأكواب الخروب وقمر الدين، تقول أم رائد أبورمضان: "الجلوس على الشاطئ يشعرك بالحرية أكثر من الجلوس في استراحة خاصة تضطرنا لدفع الكثير ولا تستمتع برمال الشاطئ".
وتضيف: "التيار الكهرباء مقطوع كالعادة وفق الجدول الذي تعودنا عليه في غزة والجو حار، فكان اقتراح زوجي أن نذهب للإفطار على الشاطئ في الهواء الطلق والفضاء الواسع، وكم كانت سعادة الأطفال كبيرة بهذا القرار".
وختمت: "نحن بانتظار الوجبة الرئيسية الجاهزة وهي عبارة عن صينية أرز بالدجاج من أحد المطابخ القريبة من الشاطئ".