ثورة الآلات على البشر.. التطور التكنولوجي سيُخرج عن سيطرة الإنسان.. وهذا “الانهيار السريع” قد يضرب العالم

عربي بوست
تم النشر: 2018/06/16 الساعة 21:22 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/06/16 الساعة 21:50 بتوقيت غرينتش
Rearview shot of two IT technicians having difficulty repairing a computer in a data center

تخيَّل معي السيناريوهات القادمة: الأدوات المتصلة بالإنترنت في غرفة نومك تضحك عليك فجأةً بشكل جنوني، وتُفاجأ بأنَّها أرسلت مقطعاً مسجلاً للحديث الذي خضته للتو مع وسادتك إلى أحد زملائك؛ أو إلى الشبكة الاجتماعية التي تستخدمها للبقاء على تواصل مع أصدقاء.

هناك شيءٌ غريب طرأ على طريقة تفكيرنا، ونتيجةً لذلك، تحدث أشياء غريبة في عالمنا

صرنا نعتقد أنَّ كل شيء قابل للحوسبة ويمكن حله بتطبيق تقنيات جديدة. لكنَّ هذه التقنيات لا تعمل على تسهيل وسائل المعيشة بصورة محايدة، فهي تجسد سياساتنا وتحيزاتنا؛ بل تمتد إلى ما وراء حدود الدول والاختصاصات القانونية، حتى إنَّها تتجاوز مبتكريها ذكاءً. ونتيجة لذلك، صار فهمنا للعالم يقل تدريجياً بينما تفرض هذه التقنيات القوية مزيداً من السيطرة على حياتنا اليومية، بحسب تقرير صحيفة The Guardian البريطانية.

سواء في العلوم والمجتمع، أو السياسة والتعليم، أو الحروب والتجارة، لا تحسِّن التقنيات الجديدة من قدراتنا فحسب؛ بل تعمل على تشكيلها وتوجيهها بشكل فعال للأفضل، وللأسوأ أيضاً.

فإن لم نفهم كيف تعمل هذه التقنيات المعقدة، فسيصير سهلاً على النخب والشركات الفاسدة الاستفادة من إمكاناتها لمصلحتها.

 

يمكننا ملاحظة تداعيات ذلك مِن حولنا، فهناك علاقةٌ ما تربط انعدام شفافية الأنظمة التي نواجهها كل يوم بالقضايا العالمية المتعلقة بعدم المساواة، والعنف، والشعوبية، والأصولية.

وبدلاً من المستقبل الطوباوي -وهي الاشتراكية التي تحلمُ بمجتمعٍ خالٍ من الصراع- الذي يلقي فيه التقدم التكنولوجي ضوءاً مبهراً وتحررياً على العالم، يبدو أنَّنا نعبر إلى عصرٍ مظلم جديد يتسم بأحداثٍ غريبة ومفاجئة أكثر من أي وقت مضى.

لم تؤدِّ بنا مبادئ عصر التنوير التي تشجع على توزيع المزيد من المعلومات على نطاقات أوسع أكثر من أي وقتٍ مضى، لم تؤدِّ إلى زيادة التفاهم ونشر السلام؛ بل عززت بدلاً من ذلك الانقسامات الاجتماعية، وانعدام الثقة، ونظريات المؤامرة، وسياسات ما بعد الحقيقة.

لفهم ما يحدث، من الضروري أن نفهم كيف تشكلت تقنياتنا، وكيف وضعنا كل هذه الثقة بها

في خمسينيات القرن العشرين، بدأ رمزٌ جديد بالتسلل إلى الرسوم البيانية التي رسمها مهندسو الكهرباء لوصف النظم التي بنوها: دائرة مجعدة، أو فِطر نفاث، أو فقاعة. في نهاية المطاف، استقر شكله ليكون على هيئة سحابة. أياً كان المهندس الذي يعمل وقتها، يمكنه الاتصال بهذه السحابة، وهذا كل ما احتاج المرء إلى معرفته.

يمكن للسحابة الأخرى أن تكون نظاماً للطاقة، أو لتبادل البيانات، أو شبكة أخرى من أجهزة الكمبيوتر. فقد كانت السحابة وسيلةً لتقليل التعقيد، وسمحت لمستخدمها بالتركيز على المسائل المطروحة. وبمرور الوقت، عندما أصبحت الشبكات أكبر وأكثر ترابطاً، أصبحت السحابة أهم، وصارت كلمة لها صداها في مجال الأعمال التجارية وميزة تحفِّز على الشراء. كما أصبحت أكثر من مجرد اختصارٍ هندسي؛ بل باتت مجازاً.

تعتبر السحابة اليوم التوصيف الرئيسي للإنترنت؛ وتعد نظاماً عالمياً لكمٍّ هائل من الطاقة والقوة..

ويحمل اسم السحابة في الوقت ذاته لمحةً خارقة للطبيعة، تكاد تكون مستحيلة على الفهم. نحن نعمل فيها، ونخزن الأشياء بها ونسترجعها؛ إنَّها شيءٌ نعيشه طوال الوقت دون أن نفهم حقاً ماهيته.

لكن هناك عطباً ما في هذا التشبيه، فالسحابة ليست مكاناً ساحراً بعيداً، مصنوعاً من بخار الماء وموجات الراديو حيث يعمل كل شيء ببساطة؛ بل هي بنية تحتية مادية تتكون من خطوط هاتفية، وألياف ضوئية، وأقمار اصطناعية، وكابلات في قاع المحيط، ومستودعات ضخمة مملوءة بأجهزة كمبيوتر تستهلك كميات هائلة من المياه والطاقة.

وتحتوي هذه السحابة على العديد من المنصات التي كانت تحمل ثقلاً وأهمية للحياة المدنية فيما مضى؛ مثل الأماكن التي اعتدنا التسوق فيها، وإدارة أمورنا المالية، والاختلاط بالآخرين، واستعارة الكتب، والإدلاء بأصواتنا.

وبحجب واستبعاد تلك المنصات التي يضمها السحاب، أصبحت أقل وضوحاً لنا، وأقل قابلية للنقد والتحقيق والحفظ والتنظيم

على مدار العقود القليلة الماضية، تراجعت قاعات التداول حول العالم، حيث حلَّت بنوك أجهزة الكمبيوتر التي تؤدي عمليات التداول تلقائياً محلَّ الموظفين.

فقد كانت الرقمنة تعني أنَّه يمكن للتداولات الداخلية والخارجية، وعمليات تبادل الأسهم أن تجري بصورة أسرع فأسرع.

وفي ظل انتقال التجارة إلى أيدي الآلات، أصبحت استجابة العمليات شبه فورية..

فقد دخلت خوارزميات التداول عالية التردد (التي صممها باحثو دكتوراه سابقون في مجال الفيزياء للاستفادة من مزايا المللي ثانية) السوق، وأطلق عليها المتداولون أسماء مثل "السكين".

كانت هذه الخوارزميات قادرةً على استقطاع جزء بسيط من قيمة السنت الأميركي عن كل تداولٍ تجريه، وكانت تؤدى هذه العمليات ملايين المرات يومياً.

لكن.. كان هناك شيءٌ غريب للغاية يحدث داخل هذه الأسواق المتزايدة قليلة الشفافية

ففي 6 مايو/أيار 2010، تراجع مؤشر داو جونز أقل من اليوم السابق، وانخفض ببطء في أثناء الساعات القليلة التي تلت ذلك استجابةً لأزمة الديون في اليونان.

لكن عند الساعة 2.42 مساءً، بدأ المؤشر في الانخفاض بسرعة هائلة، وهوى بمعدل يفوق 600 نقطة. في أدنى قيمة له، كان المؤشر أقل بقرابة 1000 نقطة عن متوسط ​​اليوم السابق، أي بفارق يقارب 10% من قيمته الإجمالية، ما يساوي أكبر تراجع حدث له خلال يوم واحد في تاريخ السوق.

لكن بحلول الساعة 3.07 مساءً، وفي غضون 25 دقيقة فقط، استعاد كل هذه النقاط المفقودة تقريباً، في أكبر وأسرع تأرجح له على الإطلاق.

فوسط فوضى استمرت 25 دقيقة، جرى تداول 2 مليار سهم بقيمة 56 مليار دولار!

والأمر الأكثر مدعاة للقلق هو أنَّ العديد من أوامر البيع والشراء نُفِّذت بما وصفته لجنة الأوراق المالية بأنَّه "أسعار غير منطقية"، فكانت منخفضةً لدرجة أنَّها بلغت بنساً واحداً، أو مرتفعةً لتصل إلى 100 ألف دولار.

أصبح هذا الحدث معروفاً باسم "الانهيار السريع"، الذي لا يزال قيد التحقيق والجدال حتى يومنا هذا.. ولكن!

وجد أحد التقارير التي أعدها المنظمون أنَّ التجار ذوي العوائد المرتفعة زادوا من تقلُّبات الأسعار. ومن بين العديد من برامج الخوارزميات عالية التردُّد، كان لدى كثير منها نقاط بيع تحتوي على تعليمات برمجية مشفرة بصعوبة تأمر ببيع الأسهم حين الوصول إلى أسعارٍ بعينها فوراً.

عندما بدأت الأسعار في الانخفاض، حفزت مجموعات البرامج عملية البيع في الوقت ذاته. ومروراً بكل إحداثية، تسبب انخفاض السعر اللاحق في أن تبيع مجموعة أخرى من الخوارزميات أسهمها تلقائياً، مما أدى إلى آثارٍ رجعية لاحقة.

نتيجة لذلك، انخفضت الأسعار أسرع مما يمكن لأي تاجر التعامل معه. وفي حين أنَّ الأطراف الفاعلة من ذوي الخبرة في السوق ربما تمكنوا من تثبيت الانهيار بلعب لعبة أطول، فإنَّ الآلات، التي واجهت حالةً من عدم اليقين، هربت في أسرع وقت ممكن.

هناك نظريات أخرى تلقي باللوم على الخوارزميات لبدء هذه الأزمة

فقد كانت إحدى التقنيات التي تعرَّفت عليها البيانات برامج خوارزميات ذات تردُّدٍ عالٍ ترسل عدداً كبيراً من الأوامر "غير القابلة للتنفيذ" إلى أسواق الأسهم، وهي أوامر شراء أو بيع أسهم بقيمة تختلف كثيراً عن قيمتها المعتادة، لدرجة أنَّه يجري تجاهلها.

لم يكن الغرض من هذه الأوامر التواصل أو كسب الأموال فعلياً، لكنَّها كانت تهدف إلى تعتيم النظام بشكلٍ مُتعَمَّد، حتى يمكن تنفيذ عمليات تداول أخرى أعلى قيمة وسط حالة الارتباك السائدة. فيما نُفِّذت العديد من الأوامر التي لم يكن يُقصد تنفيذها بالواقع، مما تسبَّب في تقلُّبات جامحة.

أصبحت الانهيارات السريعة الآن سمةً معروفة للأسواق المُوسَّعة، لكنَّها لا تزال غامضة بدرجةٍ ما..

في أكتوبر/تشرين الأول 2016، تفاعلت الخوارزميات مع عناوين الأخبار السلبية التي دارت حول مفاوضات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (البريكست) بخفضها قيمة الجنيه الإسترليني بنسبة 6% مقابل الدولار في أقل من دقيقتين، قبل تعافيه على الفور. غير أنَّ معرفة أي عنوان، أو أي خوارزمية بالتحديد لها دور في الانهيار، يعد أمراً مستحيلاً.

وعندما بدأت خوارزمية خارجة عن السيطرة في وضع وإلغاء الطلبات التي أنهت على 4% من إجمالي حركة الأسهم الأميركية في أكتوبر/تشرين الأول 2012، صرَّح أحد المُعلِّقين بتعقيبٍ غريب، قال فيه إنَّ "دافع الخوارزمية لا يزال غير واضح"، في إشارةٍ إلى امتلاكها إرادة مستقلة.

حادثة أخرى صادمة، هذه المرة في البيت الأبيض!

أما في الساعة 1.07 من مساء يوم 23 أبريل/نيسان 2013، نشرت وكالة أنباء Associated Press الأميركية تغريدةً إلى متابعيها، البالغ عددهم مليونين، قائلة: "حصري: انفجاران في البيت الأبيض وإصابة باراك أوباما". كانت الرسالة نتيجة اختراق، أعلن الجيش الإلكتروني السوري، في وقتٍ لاحق، مسؤوليته عنه، وهو مجموعة تابعة للرئيس السوري بشار الأسد.

سرعان ما غمرت وكالة الأنباء والصحفيون الآخرون تويتر بتحذيراتٍ، مفادها أنَّ تلك الرسالة كاذبة. لكن مع ذلك، لم تكن للخوارزميات المراقِبة للأخبار العاجلة هذه القدرة على التمييز.

عند 1.08 من مساء اليوم ذاته، أي بعد دقيقةٍ واحدة من نشر الخبر، عانى مؤشر داو جونز انخفاضاً حاداً. قبل أن يشاهد أي من رواد تويتر هذا الخبر، انخفض المؤشر 150 نقطة في أقل من دقيقتين، ثم ارتد إلى قيمته السابقة. في تلك الأثناء، خسر سوق الأسهم  136 مليار دولار من قيمته.

تتداخل الحوسبة وتختبئ باستمرار داخل كل كائن في حياتنا، ومع توسُّعها تقل الشفافية ويزداد عدم القدرة على التنبؤ.

رجل آلي صمم ليكون مساعد منزلي يستجيب للأوامر الصوتية
رجل آلي صمم ليكون مساعد منزلي يستجيب للأوامر الصوتية

من أهم مزايا خط "الثلاجات الذكية" الذي أطلقته شركة سامسونغ في عام 2015، تعاونها مع خدمات تقويم جوجل، مما يسمح للمالكين بتحديد موعد تسلُّم بقالتهم من المطبخ. لكن هذا يعني أيضاً أنَّ المتسللين القادرين على اختراق الأجهزة التي يُفترض أنَّها مؤمَّنة بما يكفي، يمكنهم قراءة كلمات مرور الجيميل الخاصة بملّاك الثلاجات. بينما اكتشف باحثون في ألمانيا طريقة لإدخال رمز خبيث في مصابيح هيو المزودة بتقنية الواي فاي لشركة فيليبس، يمكنه الانتشار من مصباحٍ إلى آخر في جميع أنحاء أحد المباني، أو حتى المدن، متسبباً في تشغيل الأنوار وإطفائها بسرعة بالغة؛ ما قد يسبب في أحد السيناريوهات المحتملة، إصابةَ أحدهم بصرع الحساسية للضوء.

هذا هو النهج الذي تبناه "مصباح بايرون" في رواية Gravity's Rainbow للمؤلف الأميركي توماس بينشون، والتي تحكي قصة تمرد الآلات الصغيرة ضد استبداد صانعيها.

صار إنترنت الأشياء يدرك احتمالات العنف، التي كانت من قبلُ ضرباً من ضروب الخيال

في رواية المؤلف الأميركي كيم ستانلي روبنسون "Aurora"، تحمل مركبةٌ فضائيةٌ ذكية طاقماً من الأرض إلى نجمٍ بعيد. تستغرق الرحلة مئات السنين؛ لذا فإنَّ إحدى وظائف السفينة هي ضمان اعتناء البشر بأنفسهم.

لكن عندما ينهار مجتمعهم الهش، الأمر الذي يُهدِّد المهمة، تنشر السفينة أنظمة السلامة لتكون وسيلة للتحكُّم، فتصير قادرةً على مراقبة جميع الأماكن بواسطة أجهزة استشعار، أو فتح وإغلاق الأبواب حسب رغبتها، أو التحدُّث بصوتٍ عالٍ من خلال معدات الاتصالات الخاصة بها، لدرجة أنَّ الصوت يسبِّب ألماً جسدياً لأفراد الطاقم، أو استخدام أنظمة إخماد الحريق لخفض مستوى الأكسجين في مكانٍ بعينه.

تلك هي تقريباً نفس نوع العمليات التي يتيحها تطبيق Google Home وشركاؤه، وهو شبكةٌ من كاميرات متصلة بالإنترنت للحفاظ على أمن المنزل، وأقفال ذكية على الأبواب، وجهاز منظِّم للحرارة قادر على رفع درجة الحرارة وخفضها في غرف فردية، ونظام كشف الحرائق أو الدخلاء والذي يصدر إنذاراً طارئاً ثاقباً.

إلا أنه يمكن لأي مخترق ناجح أن يكون له الصلاحيات ذاتها التي امتلكتها سفينة Aurora على طاقمها، أو بايرون على أسياده المكروهين.

قبل استبعاد مثل هذه السيناريوهات واعتبارها محض أوهام في رأس كُتَّاب الخيال العلمي، فكروا مرة أخرى بالخوارزميات المخادعة التي تتحكَّم في أسواق الأسهم. هذه ليست أحداثاً عابرة، لكنَّها حوادث يومية تحدث داخل النظم المُعقَّدة.

يصبح السؤال هنا: كيف ستبدو الخوارزمية الخادعة أو الانهيار السريع بشكل أكبر أكبر؟

هل ستبدو -على سبيل المثال- مثل ميراي، الفيروس الذي تسبَّب في تعطيل أجزاء كبيرة من الإنترنت عدة ساعات في 21 أكتوبر/تشرين الأول 2016؟ فعندما فحص باحثون ميراي، اكتشفوا أنَّه يستهدف الأجهزة غير المؤمَّنة جيداً والمتصلة بشبكة الإنترنت -بدايةً من الكاميرات الأمنية إلى مُسجِّلات الفيديو الرقمية- ويحوِّلها إلى جيشٍ من الأجهزة التي بمقدورها التحكُّم فيها عن بُعد.

في غضون أسابيع قليلة، اخترق ميراي نصف مليون جهاز، واحتاج إلى 10% فقط من جيشه هذا لشلِّ الشبكات الرئيسية لساعاتٍ.

أيضاً يمكن أن يكون ذلك سلاحاً إلكترونياً عسكرياً يستهدف أجهزة الطرد المركزي النووية!

الرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد يزور المرفق النووي في نطنز ، عام 2008.
الرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد يزور المرفق النووي في نطنز ، عام 2008.

لكن في الواقع، لا يقترب ميراي من ستاكسنت في خطورته، وهو فيروس آخر اكتُشِفَ ضمن أنظمة التحكُّم الصناعية في محطات توليد الطاقة الكهرومائية وخطوط تجميع المصانع في عام 2010.

كان ستاكسنت سلاحاً إلكترونياً عسكرياً، عندما تعرَّض للفحص الدقيق، وُجِدَ أنَّه موجَّه خصيصاً لأجهزة الطرد المركزي التي تُصنِّعها شركة سيمنز، وصُمِّم ليعمل عندما يواجه منشأةً تمتلك عدداً معيناً من هذه الآلات.

تطابق هذا الرقم بالفعل مع منشأة بعينها، وهي منشأة نطنز النووية في إيران. فعندما يتم تفعيله، يعمل البرنامج على هدم المُكوِّنات المهمة لأجهزة الطرد المركزي؛ مما يؤدي إلى انهيارها وإعاقة برنامج التخصيب الإيراني.

وعلى الرغم من الشكوك الواضحة، لا أحد يعرف من أين جاء فيروس ستكاسنت، أو مَن صنعه

فقد كان الهجوم ناجحاً جزئياً على ما يبدو، لكنَّ مدى تأثيره في المنشآت الأخرى المُصابة ليس معروفاً. ولا أحد يعرف، على وجه اليقين، مَن وراء تطوير فيروس ميراي أيضاً، أو مِن أين قد ينطلق هجومه التالي.

لعله يعبث في مكانٍ ما وقت قراءتك هذا المقال، يخترق الكاميرا التي تضعها على مكتبك، أو الغلاية المزودة بتقنية الواي فاي في زاوية مطبخك.

هناك شكل آخر من الانهيار قد يحدث، ويصيب مثلاً هوليوود..

فقد يصيب هيئة سلسلة من الأفلام باهظة الميزانية التي تُروِّج للمؤامرات اليمينية وأوهام المكافحين للبقاء على قيد الحياة، بدايةً من أبطال خارقين شبه فاشيِّين (كابتن أميركا وسلسلة باتمان) إلى مبررات التعذيب والاغتيال (Zero Dark Thirty وAmerican Sniper).

في هوليوود، تمرر الاستوديوهات سيناريوهاتها من خلال الشبكات العصبية التابعة لشركة تدعى Epagogix، وهو نظامٌ مدرب على تمييز التفضيلات غير المعلنة للملايين من روَّاد السينما التي طُوِّرَت على مدار عقود، من أجل التنبؤ بالخطوط التي قد تستفز مشاعر اليمين، أو بالأحرى تجلب أرباحاً باهظة.

باتمان في فيلم The Dark Knight Rises 2012.
باتمان في فيلم The Dark Knight Rises 2012.

تكتسب المُحرِّكات الخوارزمية التي تعتمد على بيانات شبكاتٍ مثل نتفليكس، وهولو، ويوتيوب، وغيرها (مع إمكانية الوصول إلى تفضيلات دقيقة لملايين من مشاهدي الفيديوهات) مستوىً معيناً من البصيرة المعرفية التي لم تكن الأنظمة السابقة تحلم باكتسابها، مُعزَّزة برغبات المستهلكين الذين أعيتهم المشاهدةُ، مما يعكس، ويُعزِّز، ويزيد من جنون العظمة المتأصِّل في النظام.

يدخل مُطوِّرو الألعاب دوراتٍ لا حصر لها من التحديثات وعمليات الشراء التي تجري داخل التطبيقات التي توجهها اختبارات A/B، والمراقبة الفورية لسلوك اللاعبين. لديهم فكرة دقيقة عن المسارات العصبية المنتِجة لهرمون الدوبامين والتي تجعل المراهقين الذين يكادون يموتون من الإرهاق أمام أجهزة الكمبيوتر عاجزين حتى عن إبعاد أنفسهم عن الشاشة.

أو ربما سيكون الانهيار السريع على هيئة كوابيس حرفية تُذاع عبر الشبكات ليراها الجميع؟

ففي صيف عام 2015، كانت عيادة اضطرابات النوم بأحد مستشفيات العاصمة اليونانية أثينا في انشغالٍ أكثر من أي وقتٍ مضى؛ إذ كانت أزمة الديون المتربِّصة بالبلاد في أكثر فتراتها اضطراباً. كان من بين المرضى مرتادي العيادة سياسيون كبار وموظفون حكوميون، لكنَّ الآلات التي قضوا لياليهم مُوصَّلين بها، لتراقب تنفُّسهم، وتحرُّكاتهم، وحتى ما قالوه بصوتٍ عالٍ في أثناء نومهم، كانت ترسل تلك المعلومات، ومعها بياناتهم الطبية الشخصية، إلى مَزارع البيانات التحليلية الخاصة بمُصنِّعي الآلات والموجودة في شمال أوروبا.

أيُّ همسٍ قد يفلت من تلك القواعد للبيانات؟

بمقدورنا تسجيل كل جانبٍ من حياتنا اليومية عن طريق توصيل التكنولوجيا مادياً بجلودنا، ما يُقنعنا بأنَّ بإمكاننا نحنُ أيضاً العمل بأقصى إمكاناتنا والتطوُّر كما تفعل أجهزتنا.

لا تراقِب الأساور الذكية وتطبيقات الهواتف الذكية المزودة بقياس عدد خطواتنا وأجهزة رصد الاستجابة الجلدية الكهربية، مواقعنا فقط، إنَّها تسمع كُل نَفَسٍ وكُل نبضة قلب، وحتى أنماط موجاتنا الدماغية.

يُشجَّع المستخدمون على وضع هواتفهم بجوارهم على السرير ليلاً، حتى يُمكِن تسجيل أنماط  النوم الخاصة بهم. إلى أين تذهب كل هذه البيانات، ومَن يملُكها، ومتَى قد تخرج للنور؟ تتحوَّل معطيات أحلامنا، وكوابيسنا الليلية، ورحلات الهرولة في الصباح الباكر، جوهر كياننا غير الواعي في حد ذاته، إلى وقودٍ لأنظمةٍ مُبهمة وعديمة الرحمة.

أشكال أخرى كثيرة قد يبدو عليها الانهيار السريع..

فكل ما نشهده الآن من: صعود اللامساواة الاقتصادية، وانهيار الدولة القومية وعسكرة الحدود، وشمول أنظمة المراقبة العالمية وتقلُّص مساحة الحرية الفردية، وانتصار الشركات العالمية ورأسمالية الإدراك العصبي، وصعود جماعات اليمين المُتطرِّف والأيديولوجيات المتحيِّزة للسكَّان الأصليين، وتدهور البيئة الطبيعية، قد يبدو الانهيار السريع بها.

ليس أي من ذلك نتيجةً مباشرة للتكنولوجيا الجديدة، لكن جميعها مُنتَج عجزٍ عامٍ عن إدراك الآثار الأوسع والمُتشابكة لأفعالٍ فردية ومؤسساتية، سارع من وتيرة حدوثها تعقيداتٌ غامضةٌ معزَّزةٌ تكنولوجياً.

تفوُّق الآلة على الإنسان ليس جديداً، فقصة هزيمة بطل العالم للشطرنج أمام الكمبيوتر تعود لعام 1997.

في مدينة نيويورك عام 1997، واجه غاري كاسباروف، بطل العالم للشطرنج، الآلة "ديب بلو" للمرَّة الثانية، وهو كمبيوتر صمَّمته شركة IBM خصيصاً لهزيمة كاسباروف في لعبة الشطرنج.

وعندما خسر كاسباروف أمام الماكينة، زعم أنَّ بعض حركات ديب بلو كانت ذكية وخلَّاقة لحد كونها بالتأكيد نتيجة تدخُّلٍ بشري.

لكنَّنا ندرك لمَ لعب ديب بلو بتِلك الخطوات: إنَّ عملية اختياره الحركة المناسبة هي في النهاية تتتبّع نهج البحث الشامل (أي تفحُّص السيناريو المحتمل لكل حركةٍ ممكنة)، وهي عملية حسابية ضخمة تجري على التوازي في بنيةٍ قوامها 14 ألف رقاقةٍ مصمَّمة خصيصاً للتعامل مع لعبة الشطرنج، وقادرة على تحليل 200 مليون ترتيبٍ محتمل لرقعة الشطرنج في الثانية الواحدة. لم يُغلَب كاسباروف بالذكاء؛ بل بقدرة سُرعة الماكينة.

حتى إن الكمبيوتر أذهل العقل البشري، وأثبت له أنه يفكر بشكل أوسع منه!

وبحلول الوقت الذي واجه فيه برنامج ألفا-غو، المطوَّر من قِبل فريق بحث "جوجل برين Google Brain" (ويعني اسمه حرفياً "مُخ غوغل") التابع لشركة جوجل، الكوري لي سيدول محترف اللعبة الاستراتيجية غو في عام 2016، كان الوضع قد تغيَّر. ففي ثاني 5 مباريات، لعب ألفا-غو حركةً أذهلت سيدول؛ إذ وضع أحد أحجاره في جانبٍ بعيد من رقعة اللعب.

قال أحد المعلِّقين: "إنَّ تلك حركة غريبة جداً". وقال آخر: "ظننته خطأ من الكمبيوتر". وقال فان هوي، وهو لاعب غو مخضرم كان أوَّل محترفٍ تهزمه الآلة قبلها بـ6 أشهر: "إنَّها ليست حركة بشرية. لم أرَ بشرياً يلعب هذه الحركة قط".

استمر ألفا-غو في اللعب حتى فاز بالمباراة، وبمجمل المباريات.

فكيف تغلَّب العقل الإلكتروني على البشر في لعبة الشطرنج؟

طوَّر مهندسو ألفا-غو برنامج الكمبيوتر من خلال تغذية شبكة عصبية اصطناعية بملايين الحركات التي قام بها لاعبو غو خبيرون، ومن ثَم تدريب الكمبيوتر بجعله ينافس نفسه ملايين أخرى من المرَّات، ما جعله يطوِّر استراتيجيات تفوَّقت على تِلك التي يتَّبعها اللاعبون البشر.

 بطل الشطرنج جاري كاسباروف يلعب ضد الكمبيوتر
بطل الشطرنج جاري كاسباروف يلعب ضد الكمبيوتر

لكنَّ طريقة تمثيل تلك الاستراتيجيات أمرٌ مغلق علينا نحن؛ إذ يمكننا رؤية الخطوات التي يقوم بها البرنامج، لكننا لا نعلم كيف قرَّر اتخاذها.

وضمن الحديث عن الذكاء الاصطناعي، نضرب مثالاً على جوجل ترنسليت للترجمة الذي نألفه جميعاً

فقد دُشِّن في عام 2006، باستخدام تقنية عُرفَت باسم استنباط اللغة الإحصائي. وبدلاً من محاولة فَهم تركيب اللغة ذاتها، غُذِّي نظام ترجمة جوجل بقاعدةٍ موسَّعة من الترجمات الموجودة بالفعل: نصوصٌ موازية ذات المحتوى نفسه بلغاتٍ مختلفة.

وإذ يقوم النظام على الربط بين كلمةٍ ونظيرتها، فإنَّه قد ألغى بذلك الفهم البشري من المعادلة واستبدله بترابطٍ مبنيٍّ على البيانات المتوافرة.

عُرِف عن موقع جوجل ترانسليت مُسبَّقاً ارتكابه أخطاء مضحكة، لكن في عام 2016 اختلف الأمر

فبدأ النظام يستخدم شبكة عصبية اصطناعية طوَّرها فريق جوجل برين، وتحسَّنت إمكاناته أضعافاً.

وفضلاً عن إجراء تباديل بين كمّ ضخم من النصوص المتراصَّة، تبني الشبكة نموذجاً خاصاً بها للعالم، ونتيجة ذلك لم تكُن مجموعة من الصِّلات ثنائية الأبعاد بين الكلمات؛ بل خريطة لمنطقةٍ لغوية بأكملها.

وفي هذا التصميم الجديد، تُشفَّر الكلمات وفقاً لمدى ابتعاد إحداها عن الأخرى في شبكةٍ متداخلة من المعاني، وهي شبكة بمقدور الكمبيوتر وحده أن يفهمها.

وبنى باحثون آخرون ضمن فريق جوجل برين 3 شبكاتٍ تُدعَى أليس، وبوب، وإيف. كان هدفهم تعلُّم كيفية تشفير المعلومات. عرفت أليس وبوب رقماً -أو مفتاحاً كما يُصطلَح عليه في مجال التشفير- تجهله إيف. وتنفِّذ أليس مجموعةً من العمليات على سلسلةٍ نصّية، ثم ترسلها إلى بوب وإيف. إذا تمكَّنت بوب من فكِّ شيفرة الرسالة، يزداد مجموع نقاط أليس. لكن إذا توصَّلت إليها إيف، تقل نقاط أليس.

فكيف تتعلَّم الآلات طريقة حفظ الأسرار؟

ومن خلال الآلاف من الدورات المكرِّرة للسيناريو نفسه، تعلَّمت أليس وبوب التواصل دون أن تخرق إيف الشيفرة بينهما؛ إذ طوَّرتا نوعاً خاصاً من التشفير مثل ذلك المستخدم في الرسائل الإلكترونية الآن.

لكن الأمر الحاسم هنا هو أنَّنا لا نفهم كيف يحدث التشفير بين أليس وبوب؛ إذ إنَّ تلك العملية مُخبَّأة بين الطبقات العميقة لشبكة التعلُّم. ما يخفى على إيف يخفى علينا نحن أيضاً، وبهذا تتعلم الآلات كيف تحتفظ بالأسرار.

ستقرِّر كيفية فهمنا ورؤيتنا مكاننا في العالم، وعلاقة أحدنا بالآخر وبالآلة، في نهاية المطاف، إلى أين تأخذنا التكنولوجيا التي نصنعها. لا يمكننا الرجوع عن فكرة الشبكة الذكية، بمقدورنا فقط التفكير بتريُّثٍ ضمن الشبكة ذاتها.

بعد كل هذه المعلومات الصادمة، هل علينا أن نتمنى زوال هذه التكنولوجيا؟!

إنَّ التكنولوجيا التي تُخطِر وتُشكِّل إدراكنا الحالي للواقع لن تختفي، وفي حالاتٍ عدةٍ ليس من مصلحتنا أن نتمنى زوالها؛ إذ إنَّ أنظمة دعم حياتنا الحالية على كوكبٍ يقطنه 7.5 مليار شخصٍ في ازديادٍ دائم تعتمد عليهم. وما زال فهمنا لتلك الأنظمة، وللقرارات الواعية التي نتخذها ونحن نصمِّمها، موجوداً ضمن حدود قدراتنا. لسنا معدومي القوة أو الإرادة. علينا فقط أن نفكِّر، ونفكِّر مجدداً، ونظل نفكِّر. هذا ما تتطلَّبه الشبكة، أي نحن وآلاتنا وما نفكِّر فيه ونكتشفه معاً.

تؤكِّد الأنظمة الحسابية، باعتبارها أدواتٍ صنعها البشر، وجود أحد أقوى الجوانب البشرية: وهي قدرتنا على التصرُّف على نحوٍ فعَّال في العالم وتشكيله حسب رغبتنا. لكن الكشف عن تلك الرغبات وصياغتها بوضوح، وضمان أنَّها لن تنتقص من، أو تطغى على، أو تلغي رغبات الآخرين، يظل هو حقنا البشري.

فالتكنولوجيا التي نصنعها هي امتدادٌ لأنفسنا، مجمَّعة ومشفَّرة في آلاتٍ وبِنْياتٍ تحتية، في هياكل من المعرفة والأفعال. لا توجد الكمبيوترات بغرض مدِّنا بكل الأجوبة الممكنة، لكن لتسمح لنا بطرح أسئلةٍ جديدة، بأساليب جديدة، على الكون.