لا شيء يقينياً وكله يعتمد على الاحتمالات.. هكذا يبدو العالم من منظور فيزياء الكم

فيزياء الذرات ومكوِّناتها ونظائرها، التي اتضح أنَّها أصغر من أي وقتٍ مضى، هي "أنجح نظرية في كل العلوم"

عربي بوست
تم النشر: 2018/05/23 الساعة 18:23 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/05/24 الساعة 08:44 بتوقيت غرينتش

جيمس غليك الصحفي الأميركي يستعرض كتاب ?What Is Real الذي ألَّفه آدم بيكر

هل الذرات حقيقية؟ نعم بالطبع؛ إذ يؤمن الجميع بوجود الذرات، حتى الأشخاص الذين لا يؤمنون بالتطور أو التغيُّر المناخي. فإذا لم تكن الذرات موجودة، فكيف كان يمكن أن نصنع قنابل ذرية؟ المشكلة فقط أنه لا يمكننا رؤية الذرات مباشرة.

ومع أنَّ الإغريق القدماء كانوا أول من ابتدعوا الذرات وأطلقوا عليها أسماء، فلم يُكتشَف أنَّ الذرات كيانات مادية فعلية -حقيقية كالتفاح والقمر- إلَّا في القرن الماضي.

اكتشف الفيزيائي الألماني ألبرت أينشتاين أول دليلٍ على الذرات في عام 1905، كان يبلغ من العمر 26 عاماً آنذاك، وهو العام نفسه الذي وضع فيه نظريته النسبية الخاصة. فقبل ذلك، كانت الذرة بمثابة بنيةٍ افتراضية مفيدة على نحوٍ متزايد. لكنَّ أينشتاين حدَّد آنذاك كياناً جديداً: جسيم ضوئي يُسمَّى الآن الفوتون.

فقبل أينشتاين، كان الجميع يعتبرون أنَّ الضوء نوعٌ من الموجات، لكنه استطاع إثبات أن هذه الموجات لها وجود مادي. ولم ينزعج أينشتاين آنذاك من عدم تمكُّن أحد من ملاحظة هذا الشيء الجديد؛ إذ كان يقول: "النظرية هي التي تقرر ما يمكن ملاحظته".

وهو ما يقودنا إلى نظرية الكم. ففيزياء الذرات ومكوِّناتها ونظائرها، التي اتضح أنَّها أصغر من أي وقتٍ مضى، هي "أنجح نظرية في كل العلوم"، كما ذكر آدم بيكر أكثر من مرة بكتابه الجديد الذي يحمل اسم ?What Is Real. وقد نشرت صحيفة The New York Times، تقريراً ممتعاً حول هذا الكتاب.

كانت دقة تنبؤات هذه النظرية مذهلة، وقدرتها على فهم العالم غير المرئي المجهري فائق الصِغَر قدَّمت لنا مُعجزاتٍ حديثة. ولكن ثمة مشكلة؛ فنظرية الكم غريبة جداً؛ إذ تتحدى حدسنا البديهي بشأن الأشياء وما يمكنها فعله.

المشكلة هي أنه لا توجد مشكلة رغم أن هناك مشكلة!

يقول بيكر في كتابه: "كانت معرفة ما تقوله فيزياء الكم عن العالم صعبةً"، وهذا التصريح المُبسِّط للأمور كان هو المحفز لكتابه الذي يُعَد استكشافاً شاملاً مُنيراً لأغوار الجدل الأهم الدائر في أوساط العلم الحديث.

يتزايد الجدل حول طبيعة الواقع على مرِّ أكثر من نصف قرن، ويولِّد مؤتمراتٍ وندوات وما يكفي من المناقشات لملء مجلاتٍ بأكملها.

إذ قال ريتشارد فاينمان الفيزيائي الأميركي الراحل الذي فهم نظرية الكم كأي شخصٍ آخر: "ما زلت أشعر بالتوتر حيال ذلك… لا أستطيع تحديد المشكلة الحقيقية؛ لذا أظنُّ أنه لا توجد مشكلة حقيقية، لكنني لست متيقناً من عدم وجود مشكلة حقيقية".

بين استخدام النظرية وطبيعة ما تعنيه

المشكلة ليست في استخدام النظرية -سواء إجراء الحسابات أو تطبيقها بمهام هندسية- لكنَّها تكمن في فهم ما تعنيه النظرية، وما تخبرنا به عن العالم.

ترى إحدى وجهات النظر أنَّ فيزياء الكم هي مجرد مجموعةٍ من الشكليات ومجموعة من الأدوات المفيدة.

فإذا كنت ترغب في صنع ليزر أو أجهزة ترانزستور أو تلفزيونات أفضل، فستفيدك "معادلة شرودنغر"، وهي معادلة تصف كيفية تغير الحالة الكمية لنظام فيزيائي ما مع الزمن، وقد صاغها عالم الفيزياء النمساوي إرفين شرودنغر في أواخر عام 1925 ونشرها عام 1926. وتصف هذه المعادلة حالات النظم الكمومية المعتمدة على الزمن، وتعد أحد أركان ميكانيكا الكم.

تبدأ المشكلة فقط حين تتراجع وتسأل عمَّا إذا كانت الكيانات المتضمنة في هذه المعادلة موجودةً بالفعل. ثم تواجه بعد ذلك مشكلاتٍ يمكن وصفها بعدة طرق مألوفة:

1- الطبيعة المزدوجة الجسيمية الموجية

تتصرف جميع المواد والطاقات والقوى المعروفة في الكون أحياناً كموجات؛ إذ تكون سلسةً ومتصلة، بينما تتصرف أحياناً كجسيمات؛ إذ تُصدر أصواتاً عن احتكاك بعضها ببعض.

فعلى سبيل المثال، تتدفق الكهرباء مثل السوائل عبر الأسلاك (إذن فهي جسيم مادي بدليل ارتفاع حرارة الأسلاك نتيجة احتكاك الإلكترونات)، أو تسري عبر الفراغ ككرةٍ من الإلكترونات المفردة (وبالتالي تتصرف مثل الموجات). فهل يمكن أن تكون موجةً وجُسيماً في آنٍ واحد؟

2- مبدأ عدم اليقين

اكتشف الفيزيائي الألماني فيرنر هايزنبرغ أنَّه حين تُحدِّد موضع إحدى الإلكترونات -على سبيل المثال- بأكبر قدرٍ ممكن من الدقة، سيزداد عدم يقينك بشأن سرعته أو إحدى خواصه الأخرى القابلة للقياس أكثر وأكثر، والعكس صحيح.

بمعنى أنه يُمكنك تحديد إحدى الخاصيتين فقط بدقة، ولكن لا يمكنك تحديد كلتا الخاصيتين في الوقت نفسه. وينص هذا المبدأ بوضوح على أنه لا يمكن تحديد خاصيتين مقاستين من خواص جملة كمومية إلا ضمن حدود معينة من الدقة، أي إن تحديد إحدى الخاصيتين بدقة متناهية (ذات عدم تأكد ضئيل) يستتبع عدم تأكد كبير في قياس الخاصية الأخرى.

3- مشكلة القياس

تتعامل معظم ميكانيكا الكم مع الاحتمالات وليس اليقين، مثل احتمالية ظهور جسيم في مكان معين، أو احتمالية تحلُّل ذرة غير مستقرة في لحظةٍ معينة.

ولكن حين يذهب أحد علماء الفيزياء إلى المختبر ويُجري تجربةً، تكون هناك نتيجةٌ محددة. ويصبح فعل القياس -أي الملاحظة التي يراها شخصٌ ما أو تُسجِّلها إحدى الأدوات- جزءاً لا يتجزأ من النظرية.

الشيء الغريب هو أنَّ واقع العالم الكمي يظل غير منظَّم أو غير محدد إلى أن يبدأ العلماء القياس، قطة شرودنغر تمثل حالة مُرعبة من عدم اليقين؛ إذ لا يُمكن معرفة ما إذا كانت حية أم ميتة حتى يفتح شخص ما الصندوق لينظر داخله.

وفي الواقع، قال هايزنبرغ إنَّ الجسيمات الكمية "ليست حقيقية، فهي تُشكِّل عالماً من الإمكانات أو الاحتماليات وليس عالَماً من الأشياء الملموسة أو الحقائق".

فيزياء الكم ليست علماً تطبيقياً فقط

هذا أمرٌ مُقلِق للفلاسفة والفيزيائيين أيضاً؛ إذ دَفَعت النظرية أينشتاين ليقول في عام 1952: "تذكرني النظرية بقليلٍ من نظام أوهام شخصٍ شديد الذكاء مُصاب بجنون الارتياب".

ومن ثَمَّ، اكتسبت فيزياء الكم ميتافيزيقا خاصةً بها عكس أي مجال علمي آخر، فهي عبارة عن فرعٍ علمي خفي يتوغل في الفروع الأخرى مثل أذيال المذنبات. ويمكنكم التفكير في فيزياء الكم على أنَّها "بنيةٌ فوقية أيديولوجية"، على حد قول هايزنبرغ.

ويُطلَق على هذا المجال اسم أساسات الكم، وهو أمرٌ مثير للسخرية بغير قصد؛ لأنَّ الفكرة هي أنَّك تجد احتمالاتٍ غير أكيدة أشبه بالرمال المتحركة بالضبط في المكان الذي تتوقع أن تجد فيه أساسات ثابتة.

لكن.. هناك "تفسيرات" مضادة

ثمة مناهج منافسة لأساسات الكم تُسمَّى "التفسيرات"، وهناك الكثير منها في الوقت الراهن. ولعل أولها وأهمها على الأرجح، هو ما يُسمَّى تفسير كوبنهاغن. وتشير كلمة "كوبنهاغن" (العاصمة الدنماركية) إلى نيلز بور الفيزيائي الدنماركي الذي كان معهده الشهير هناك بمثابة مقرٍّ عالمي غير رسمي لنظرية الكم التي بدأت في العشرينيات من القرن العشرين.

ويُعَد تفسير كوبنهاغن بطريقةٍ ما تفسيراً مضاداً؛ إذ قال بور: "من الخطأ اعتقاد أنَّ مهمة الفيزياء تتمثل في معرفة حال الطبيعة؛ بل تهتم الفيزياء بما يمكننا قوله عن الطبيعة".

وفي عالم الكم الخاص ببور، لا يوجد شيءٌ مؤكَّد حتى يُلاحَظ بالفعل. يمكن أن تساعدنا الفيزياء على تنظيم التجارب، ولكن لا ينبغي لنا أن نتوقع منها تقديم صورة كاملة عن الواقع. لذا فالملخص الشهير المكوَّن من كلمتين لتفسير كوبنهاغن هو: "اسكت واحسب!".

في معظم فترات القرن العشرين، حين كان الفيزيائيون المتخصصون بفيزياء الكم يُحقِّقون طفراتٍ هائلة في الاكتشافات المتعلقة بفيزياء الحالة الصلبة والطاقة العالية، كان القليل منهم مهتمين اهتماماً كبيراً بالأساسات. لكنَّ الصعوبات الفلسفية كانت موجودة دائماً، وكانت تُقلِق أولئك المهتمين بها.

يؤيد بيكر في كتابه المهتمين بتلك الصعوبات الفلسفية؛ إذ يقود القُراء عبر سردٍ مُذهِل لصعود التفسيرات المنافسة، واضعاً إيَّاها في قالب قصصٍ إنسانية غير مُنظَّمة ومليئة بالاحتمالات بطبيعة الحال. ويُقدِّم حجةً مقنعة تفيد بأنَّه من الخطأ تخيُّل تفسير كوبنهاغن على أنَّه بيانٌ واحد رسمي أو حتى مترابط، قائلاً إنَّه "تجمُّعٌ غريب من الادِّعاءات".

الأكوان المتعددة: محاولة الابتعاد عن الازدواجية

ابتكر ديفيد بوم، الفيزيائي الأميركي، بديلاً جذرياً في منتصف القرن العشرين، مُقدِّماً تصوراً عن وجود "موجاتٍ إرشادية" توجِّه كل جسيم، في محاولةٍ للقضاء على الازدواجية الموجية الجسيمية. لكنَّه ظل يتعرَّض على مدار فترةٍ طويلة للانتقادات أو التجاهل في الغالب حتى صار هناك مؤيدون في العصر الحالي لمتغيرات التفسير الذي وضعه.

وتعتمد تفسيراتٌ أخرى على "متغيراتٍ خفية" لحساب كمياتٍ من المفترض أنَّها مستترة. ولعل التفسير الأشهر في الآونة الأخيرة والأكثر طرحاً في النقاشات بالتأكيد هو "تفسير الأكوان المتعددة"، الذي يفترض أنَّ كل حدثٍ كمِّي يُعَد مفترق طرق، وإحدى الوسائل للهروب من الصعوبات هي تخيُّل أنَّ كل مفترق -من الناحية الرياضية- يخلق كوناً جديداً.

ومن هذا المنطلق، فقطة شرودنغر ستظل على قيد الحياة وبصحةٍ جيدة في أحد الأكوان، بينما ستموت في كونٍ آخر. وعلينا كذلك أن نتخيل نُسَخاً لا تعد ولا تحصى من أنفسنا. وكل شيء قابل للحدوث يحدث في كونٍ أو آخر. وقال برايس ديويت الباحث الفيزيائي الأميركي: "ينقسم الكون باستمرار إلى عددٍ هائل من الفروع، فكل انتقالٍ كمي يحدث على كل نجمٍ في كل مجرة بكل ركنٍ بعيد من الكون يقسم عالمنا المحلي على الأرض إلى عددٍ لا يُحصى من نُسخٍ طبق الأصل منه".

لكن البعض يراها سخيفة

وهذا أمرٌ سخيف بالطبع؛ إذ وصفه جون ويلر، الفيزيائي الأميركي، بأنَّه "حمولةٌ ثقيلة من الأمتعة الميتافيزيقية". فكيف يمكننا إثبات نظريةٍ كهذه أو نفيها؟ ولكن، إذا كنت تظن أنَّ فكرة الأكوان المتعددة مرفوضةٌ بسهولة، فسيعارض الكثير من العلماء ذلك بشدة. وسيقولون إنَّ بإمكانها -على سبيل المثال- تفسير سبب القدرة الهائلة للحواسيب الكمية (التي ما زالت غير متوافرة تماماً الآن باعتراف الجميع)، مشيرين إلى أنَّ هذه الحواسيب تفوِّض بعض عملها إلى نسخٍ بديلة منها في أكوانٍ أخرى.

فهل أيٌّ من هذا حقيقي؟ أخشى أن أفسد عليكم عنصر التشويق في الكتاب، ولكن سأقول لكم إنَّه لا يُقدِّم إجابةً محددة عن السؤال الوارد في عنوانه. وبالطبع، لم تكونوا معتمدين على كتابٍ واحد في فهم هذه المسألة، أليس كذلك؟ ما زالت نهاية القصة بعيدة.  

حين يبحث العلماء عن معنىً ما في فيزياء الكم، قد ينحرفون إلى منطقةٍ محايدة بين الفلسفة والدين، لكنَّهم لا يستطيعون مساعدة أنفسهم؛ فهُم مجرِّد بشر. وقال السير أنتوني ليغيت، الفيزيائي الحاصل على جائزة نوبل والرائد في مجال الميوعة الفائقة: "إذا راقبتني نهاراً، فستراني جالساً على مكتبي منهمكاً في حل معادلة شرودنغر… مثل زملائي بالضبط. لكن في بعض الأحيان ليلاً، حين يكون البدر ساطعاً، أفعل ما يُضاهي فكرياً في مجتمع الفيزياء التحول إلى مستذئب: أتساءل عمَّا إذا كانت ميكانيكا الكم هي الحقيقة الكاملة والنهائية بشأن الكون المادي".