تبقى العلاقة الجدلية بين السياسة والرياضة محل إثارة وتشويق وتسويق في زمن السلم كما هو الحال في زمن الحرب، خصوصاً لعبة كرة القدم الأكثر شعبية في العالم إلى جانب الإثارة الجماهيرية والإعلامية، فهناك العامل السياسي والدبلوماسي في زمن النضال والمقاومة؛ بل قد تطور بعدها في زمن حرب التحرير الكبرى، عندها تصبح هذه اللعبة تصنع الفرجة والإبداع على المستطيل الأخضر والمدرجات، كما يرى البعض أنها ليست أداة في يد الأنظمة لتخدير الشعوب، ولا سيما في الوطن العربي، لكن بإمكان هذه اللعبة الشعبية أن تحوّل منتخب أو فريق البلد المقاوم إلى كتيبة دبلوماسية تدافع عن حق شعب في تقرير المصير والاستقلال.
الكرة الناعمة
هذا يجرنا للحديث عن المنتخب الفدائي منتخب فلسطين المحتلة لكرة القدم، هذا المنتخب الذي أصبح يمثل شعباً كاملاً ونجماً ساطعاً للحرية والتحرر من بطش يد مستعمر، عنصري حاقد، هذا ما يشاهده المتابع لهذه الكرة الناعمة في البطولات القارية على غرار ما يجري هذه الأيام في كأس أفريقيا للأمم لكرة القدم في ساحل العاج/ كوت ديفوار في دورتها الرابعة والثلاثين وكأس آسيا للأمم لكرة القادم بقطر؛ الذي يشارك فيه المنتخب الفلسطيني للمرة الثالثة في البطولة القارية الآسيوية، صانعاً الحدث في هذه البطولة بعد تأهله التاريخي لدور الستة عشر، وذلك بعد تحقيق فوز عريض على منتخب هونغ-كونغ.
قام منتخب فلسطين بالجزائر للتحضير في تربصه الإعدادي في مدينة عنابة الساحلية في الشرق الجزائري للبطولة القارية الآسيوية، كما عرضت الفيدرالية الجزائرية لكرة القدم على المنتخب الفلسطيني بخوض المباريات الرسمية في التصفيات المؤهلة لكأس آسيا والعالم بالجزائر، وهو الطلب لذي رفضه الاتحاد الآسيوي لكرة القدم بخوض المباريات الرسمية في التصفيات المؤهلة لكأس آسيا والعالم بالجزائر؛ وبررت الاتحادية الكروية الدولية FIFA سبب الرفض بتواجد الجزائر خارج القارة الآسيوية وفقاً للقانون الأساسي للاتحاد الآسيوي لكرة القدم.
وحضوره الفدائي باستمرار في بطولة كأس آسيا مما يمنح الفلسطينيين شعوراً بالوجود القوي على المستوى الكروي في القارة، هذا المنتخب الذي عانى كثيراً من صعوبات التدريب بشكل طبيعي، نتيجة مضايقات الاحتلال الإسرائيلي المستمرة، وكذلك صعوبات التنقل لخوض المباريات وغيرها من المشاكل، إلا أن المنتخب الفلسطيني ورغم المصاعب والعراقيل بدأ يسير بنسق ثابت لفرض نفسه كواحد من المنتخبات العربية الجيدة في القارة الآسيوية.
كما سجّل المنتخب الفلسطيني تقدماً تدريجياً على الصعيد الرياضي، حيث بلغ المنتخب النهائيات الآسيوية الجارية بقطر بعد أن تصدر الترتيب العام لمجموعته برصيد تسع نقاط في ثلاثة انتصارات متتالية، أصبحت دولة فلسطين عضواً في الاتحاد الدولي لكرة القدم FIFA عام 1998، وبدأ منتخبها المشاركة في التصفيات المؤهلة لبطولات كأس العالم وكأس آسيا، انطلاقاً من نسخة مونديال 2002، والبطولة القارية لعام 2000. ويعتبر وصول المنتخب الفلسطيني للمرة الثالثة على التوالي إلى بطولة كأس آسيا، بمثابة نجاح يؤكد أهمية العمل الكبير للاتحاد الفلسطيني لكرة القدم.
هذه اللعبة الساحرة التي من خلالها سمحت للقضية الفلسطينية أم القضايا العادلة في العالم ضد الاستعمار والاضطهاد حسب كتابات فرانس فانون وإدوارد سعيد؛ فمن خلال مساندة الجماهير العربية بمختلف طياته الثقافية والفكرية والاجتماعية من نواكشوط إلى مسقط والإسلامية من طنجة إلى جاكرتا والأحرار في العالم من كيب تاون (جنوب أفريقيا) إلى جورج تاون (غيانا) ومن باريس (فرنسا) إلى لوس أنديس (التشيلي).
مباراة وهدف الحسم
لا يكفي الحديث عن دبلوماسية النضال باستعمال كرة القدم كقوة ناعمة في زمن حرب التحرير الكبرى للشعوب المستعمرة دون الحديث عن الزلزال الرياضي الدولي الذي أحدثه فريق جبهة التحرير الوطني لكرة القدم عام 1958، تلك القصة التي كتبتها كتيبة رشيد مخلوفي ورفاقه اللاعبين المتميزين في الدوري الفرنسي. رشيد مخلوفي صانع أمجاد الخضر نادي فريق سان تيتيان في خمسينيات القرن الماضي الذي تفوّق على ريمون كوبا وجيست فونتان بفنياته ومراوغته ومداعبته للكرة في الدوري الفرنسي، كاد أن يلتحق بهما مع المنتخب الفرنسي ويتألق كما تألق جيست فونتان في مونديال السويد عام 1958.
لبى اللاعبون الجزائريون النداء في النوادي الفرنسية كرشيد مخلوفي، تاركين المنتخب الفرنسي والانضمام إلى ثورة التحرير عبر فريق الجزائر الحرة، التي أردتها كتيبة عمي رشيد لن تكون أبداً فرنسية، كما كان يعتقد المستوطنون العنصريون الفرنسيون والسلطات المدنية والعسكرية الفرنسية الحاقدة بأن الجزائر مقاطعة فرنسية. عرف عام 1958 محطة مفصلية في حرب التحريرالجزائرية الكبرى (1954-1962) – كان عام 1958 إعلان الحكومة الجزائرية المؤقتة، عودة الجنرال شارل ديغول للحكم في فرنسا، زيارة هذا الأخير للجزائر، ووعده بالجزائرالجديدة وخطابه الشهير وعبارة: فهمتكم! Je vous ai compris ! وتأسيس الجمهورية الخامسة ودعمها بدستور جديد.
إنها كانت مباراة الحسم بين قادة المجاهدين الجزائريين في الجبال والجزائريين عموماً في القرى والمدن من جهة والإدارة الفرنسية المحتلة من جهة أخرى، التي كانت تراهن فيها فرنسا الاستعمارية على طيّ صفحة المقاومة والكفاح المسلح في الجزائر وملحمة فاتح نوفمبر/تشرين الثاني عام 1954 والشمال القسنطيني عام 1955 ومؤتمر الصومام عام 1956 ومعركة الجزائر في حي القصبة بالعاصمة عام 1957. كان قادة ثورة التحرير بجناحيها السياسي (جبهة التحرير) والعسكري (جيش التحرير) والرياضي ممثلاً في فريق جبهة التحرير يقاومون سياسة الأرض المحروقة التي شنها جيش الاحتلال الفرنسي ضد الشعب الجزائري – كانت سنوات الصمود والكفاح داخل كامل التراب الجزائري المستعمر من شرقه إلى غربه ومن شماله إلى جنوبه؛ كان يتنقل فريق جبهة التحرير بين دول أوروبا الشرقية والدول العربية الداعمة للثورة الجزائرية للتعريف بالقضية الجزائرية.
سر القصة
إنّ مقاربة فريق جبهة التحرير الجزائري مع منتخب فلسطين المحتلة ونضال ومقاومة الشعبين ضد مستعمر عنصري حاقد تتقاطع هذه المقاربة في الهدف وهو التعريف بالقضية العادلة للشعب الفلسطيني وكسب المزيد من العطف والمساندة الدولية للرأي العام والنهوض بقناعة حراك إقليمي ودولي تجاه القضية الفلسطينية في ظل معركة طوفان الأقصى الجارية التي تشبه كثيراً ملحمة فاتح نوفمبر/تشرين الثاني عام 1954، ورد الفعل المفرط في القوة العسكرية والجرائم الإنسانية ضد المدنيين العزّل لعدوان جيش الاحتلال الصهيوني على قطاع غزّة وحربه ضد المدنيين في الضفة والقدس المحتلتين.
على سبيل المثال برز فريق نادي بالستينو Palestino بالتشيلي بأمريكا الجنوبية، الذي عـرف بقمصانه بالعلم الفلسطيني ونمط الكوفية الفلسطينية ورمزيتها الثورية في قارة أمريكا الجنوبية على غرار فريق جبهة التحرير الجزائري بلون راية وطنه الأخضر والأبيض ونجمتها وهلالها الأحمر وشعار الفريق: One, two, there, we want to be free!، الذي أصبح بصمة عزة في حناجر الجماهير الجزائرية بعد الاستقلال في المدرجات: One, two, three, viva l'Algérie! خصوصاً في تلك المباراة التاريخية في نهائي ألعاب البحر المتوسط بالجزائر بين منتخب الجزائر ومنتخب فرنسا عام 1975 بملعب 5 جويلية بالجزائر العاصمة وفاز بها المنتخب الوطني الجزائري على المنتخب الفرنسي الأولمبي في الوقت الضائع من مباراة مثيرة وبطولية لرفاق عمر بطروني تحت إشراف الناخب الوطني الأسطورة رشيد مخلوفي.
وفي هذا السياق ووعي الجماهير في الوطن العربي كسب المنتخب الفلسطيني عطف ومؤازرة جماهيرية واسعة في الوطن العربي الذي تعزّز في اصطفاف الجماهير العربية والغربية، وتغيير سردية الإعلام والساسة في الدول الغربية التي فضحتها معركة طوفان الأقصى ومدى تأثير اللوبي الصهيوني على الإعلام وسياسة الشرق الأوسطية للحكومات الغربية عموماً وتجاه الحرب الفلسطينية ضد جيش دولة الاحتلال العبرية خصوصاً. استطاعت هذه المعركة المصيرية أن تقضي على الصورة النمطية التي كان يتصف بها الفدائي الفلسطيني خلال فصائل المقاومة الفلسطينية داخل فلسطين المحتلة في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي وفي الخارج بضرب مصالح الدولة العبرية في أوروبا على سبيل المثال. كما تبقى كتيبة المنتخب الفدائي ساعية ببعث قضية شعب فلسطين العادلة في العالم وكسر خط وستار هجوم عدّوه إعلامياً ودبلوماسياً وكشف عورة حلفائه الغربيين أمام المؤسسات الدولية عموماً والإدارة الأمريكية والحزبين: الديمقراطي والجمهوري خصوصاً، والتي باتت أسيرة اللوبي الصهيوني.
وعلى ضوء ما تقدم، يظهر بجلاء أن بين الجزائر وفلسطين قصة نضال وتحرير جامعة، وأن شرارة ثورة التحرير الجزائرية التي هزمت فرنسا الاستعمارية، ها هي اليوم فصائل المقاومة الفلسطينية في غزة وباقي الأراضي الفلسطينية المحتلة تعي الكرة وتربك لأول مرة كيان الدولة العبرية وحلفاءها في العواصم الغربية ومن معهم للأسف من بعض العواصم العربية – الذين تفاجأوا بعودة القضية الفلسطينية إلى الواجهة الإقليمية والدولية وصمود الشعب الفلسطيني رغم سياسة الأرض المحروقة والدمار الشامل والتطهير العرقي والتجويع، مؤكداً أنها قضيته ليست سوى قضية تصفية استعمار وحق شعب في تقرير مصيره بسواعد حرائره وأقدام المقاومين في ساحة الوغى الذين لا يزالون يسجلّون أهدافاً حاسمة في مرمى جيش لاحتلال بعد أكثر من مئة يوم من استمرار القصف براً وبحراً وجواً وحصار غير مسبوق؛ إنه السعي لتحقيق أكبر فوز يحلم به الفلسطينيون والأحرار في العالم، ألا وهو حلم الاستقلال، عندها تكتمل الفرحة وتتزّين القصة الفرجة المثيرة بين الجزائر وفلسطين.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.