"بلاد البشكنش"، هكذا سمى الأندلسيون إقليم "الباسك"، الممتد من الحدود الشمالية الإسبانية إلى الجنوب الغربي الفرنسي، 20 ألف كم مربع، تضم قرابة 2 مليون إسباني، أو إن شئت قلت: باسكي. أهل الإقليم عرق، تاريخهم قديم قدم وجود الإنسان في أوروبا. غزا أرضهم الرومان في عام 196 قبل الميلاد، لكن لم يرضخوا لإرادة الغزاة، ورحل الغزاة وبقت الأرض لأصحابها. ربما هي تضاريس الجبال التي عزلتهم عن معشر شعوب أوروبا، أو تلك اللغة العنيدة، "أوسكارا" التي يتحدثونها منذ خلقوا.
في عام 824 ميلادي، انضوى إقليم الباسك تحت لواء "مملكة نافار"، وهي دولة من العصور الوسطى حكمتها سلسلة من الملوك. في عام 1515، تم ضم أراضٍ شاسعة من من "نافار" إلى تاج قشتالة التي ستصبح فيما بعد جزءاً من إسبانيا التي نعرفها اليوم.
بعد فترات من الشد والجذب مع الحكومة المركزية، ذاق فيها الإقليم طعم الاستقلال ولو نسبياً، ألغت الحكومة الإسبانية الحكم الذاتي لإقليم الباسك عام 1839 وبدأت سلسلة من القرارات السياسية الرامية لإخضاع الإقليم.
كرد فعل على العنف المطرد ضد الباسكيين، وتفاعلاً مع المناخ الفكري والسياسي القومي، بدأت تتشكل حركة قومية باسكية ترمي إلى تأسيس دولة باسكية مستقلة عن الوجود الفرنسي والإسباني. لكن لم يمهلهم القدر كثيراً، فنشبت الحرب الأهلية الإسبانية عام 1911، فحظر الجنرال الحاكم فرانسيسكو فرانكو اللغة الباسكية، وجرد الباسك من حقوقهم، وأمر بتدمير مدينة غرنيكا الباسكية وكانت معقل المقاومة ومركز الثقاقة بالإقليم.
عانى الباسك في ظل النظام فرانكو الأمرين، وبات لكل عائلة تقريباً ثأر مع الحكومة المركزية التي أذلت الإقليم بأكمله، فما كان إلا أن قامت حركات مقاومة أشهرها على الإطلاق "منظمة إيتا" في عام 1959. آمنت المنظمة بالعمل المسلح ضد الحكومة الإسبانية وشنّت هجمات أسفرت عن مقتل أكثر من 800 شخص. كان أشهر ضحايا عملياتها لويس كاريرو بلانكو وهو من اختير خلفاً لفرانكو في 1973.
حلّت المنظمة نفسها بنفسها عام 2018، بعد جهود وساطة مضنية ومفاوضات عسيرة بدأت عام 2004. سلّمت المنظمة 3.5 طن من الأسلحة للحكومة الإسبانية عام 2017 في خطوتها الأكبر نحو الحل.
جاء في الرسالة الأخيرة للمنظمة: "ولدت إيتا من الشعب والآن ستذوب من جديد وسط الشعب".
ما كان للباسكيين أن يرضخوا أو يساوموا على مطالبهم، وما كان لإيتا أن تحل نفسها بنفسها إلا بعد أن منحت إسبانيا استقلالاً اقتصادياً وسياسياً نسبياً لإقليم الباسك، واعترفت بهوية باسكية منفصلة.
من إقليم الباسك إلى غزة
يوم السبت 8 يوليو/تموز 2006، تظاهر حوالي 1000 شخص في شوارع مدينة بلباو، أكبر مدن إقليم الباسك، دعماً لفلسطين. وانطلقت المسيرة من أمام مسرح "أرياغا" ثم راحت تكبر مثل كرة الثلج، حتى هزّ الهتاف أرجاء المدينة بأسرها.
لم تكن تلك المرة الأولى ولا الأخيرة التي يتظاهر فيها الباسكيون دعماً للشعب الفلسطيني. تأييدهم لحق الفلسطينيون في الأرض قديم قدم إسرائيل ويوم قيامها.
لا يتوانى أهل إقليم الباسك عن دعم فلسطين إعلامياً وسياسياً ومادياً، هذا الدعم رسمي وشعبي. في عام 2012، تبرعت حكومة الباسك بقرابة مليون دولار من أجل برنامج الغذاء لقطاع غزة. وضغطت المنظمات الأهلية على شركات الإنشاء والتعمير الباسكية للانسحاب من مشاريع الاستيطان الإسرائيلية، وتوثق المنظمات الحقوقية الباسكية الجرائم الإسرائيلية بانتظام.
وقبل أيام، عقدت جلسة للبرلمان الباسكي وافتتحت بدقيقة حداد على أرواح الشهداء في قطاع غزة. حتى إن السياسيين الباسكيين المعتقلين قاموا بالصوم والإضراب عن الطعام تعاطفاً مع غزة.
لطخوها باللون الأحمر
وقد تضامنت جماهير نادي ريال سوسيداد مع أهل قطاع غزة، بطريقة مبتكرة وغير مسبوقة في التشجيع الرياضي.
وأدانت الجماهير المجازر التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي، وذلك في المباراة التي شهدت انتصاراً للفريق الباسكي 3-1 على بنفيكا في دوري أبطال أوروبا.
وقبل انطلاقة المباراة، ارتدى عدد من جماهير سوسيداد ملابس بيضاء وأقنعة بيضاء، ولطخوها باللون الأحمر؛ في إشارة إلى الشهداء الذين تجاوز عددهم 11 ألف شهيد يسقطون في غزة، جراء الحرب التي تشنها إسرائيل ضد قطاع غزة منذ الـ7 من أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
وحملوا أعلام فلسطين، ودخلوا إلى مدرجات ملعب "أنويتا" رافعين الأعلام خلال العمليات الإحمائية للاعبين.
سبيل النجاة
تتشابه أفكار الباسكيين تشابهاً كبيراً مع الفلسطينيين، كلاهما توّاق إلى الحرية والاستقلال. كلاهما ذاق مرارة الاستعمار وأحرقته نيران الآلة العسكرية.
كلا الشعبين يدرك أن الكفاح والنضال، وتحمل الأثمان الباهظة، هو السبيل الوحيد إلى النجاة. كلتا الأمتين تدركان أن العالم لن يقاتل لأجلهما أبداً، وأن الحقوق تنتزع ولا تمنح. لقد تجرّع الباسكيون بعضاً من كأس الطغيان التي ينهل الفلسطينيون يومياً منها.. لذلك لا تتعجب عندما تراهم حاملين أعلام فلسطين ويهتفون بحرقة!