لم تعد كرة القدم تلك اللعبة الجميلة، بسيطة القواعد، التي تقع في غرامها من أول ركلة، والمفاجأة أنها لن تعود أبداً. للبشر قدرات ضخمة على طمس ما هو جميل -بقصد أو دون قصد-، وللرأسمالية قدرة مثيرة للتأمل على تحويل كل شيء، أياً كانت ماهيته، إلى سلعة لها سعر محدد، وكل غاية وقيمة إلى أداة.
لاعبو كرة القدم، مثل كل شيء في النظام الرأسمالي، باتوا سلعة وأداة، لها مواصفات قياسية ونموذجية. كلما اقتربت تلك السلعة من المواصفات القياسية زاد ثمنها وارتفع، وكلما ابتعدت قل وانخفض.
اليوم باتت كرة القدم أقرب إلى مفهوم الصناعة أكثر من الرياضة. المتعة والتشجيع والانتماء والحب، لم تعد قيماً وأحاسيس مستقلة الوجود والمعنى، بل أصبحت وسائل وأدوات تُستخدم للكسب والربح. مع الابتعاد أكثر عن الرياضة، والدوران في فلك الصناعة، سيتوحش عالم كرة القدم أكثر، لن يصبح مملاً، لكنه سيكون أكثر قسوة مما نعتقد، خاصة على اللاعبين.
هذا ليس تبرئة للاعبين، خاصة أصحاب الأجور الفلكية. لا يوجد لاعب كرة قدم أو غيرها من الرياضات يستحق الحصول على 20 مليون دولار سنوياً مثلاً، بينما يعيش أكثر من مليار إنسان في فقر وحرمان.
لكن الوجه الآخر لدور اللاعبين في "صناعة" كرة القدم هو أنهم أداة تُستخدم حتى انتهاء صلاحيتها، ثم يتم بيعها أو التخلي عنها. تلك الصلاحية ليست بدنية حصراً، بل نفسية أيضاً.
قد تتساءل عزيزي القارئ، وأنت محق في تساؤلك، وهل من يتقاضى كل هذه الأموال يعاني نفسياً؟
الإجابة: نعم. ولكن، توفر الأندية الكبيرة حالياً أخصائيين وأطباء نفسيين لتأهيل اللاعبين للتعايش مع الأمراض والاضطرابات النفسية المعرضين لها. بلغة علم النفس الأنيقة، يقوم خبراء علم النفس الرياضي بتطوير المهارات العقلية الضرورية لدى اللاعبين لتقديمهم أفضل أداء.
باختصار، تعالج الأعراض الجانبية الناتجة عن تحوّل كرة القدم إلى صناعة. إذا كان وقود كرة القدم اليوم هو الإعلام والجماهير والضغط النفسي المصبوب منهما على اللاعبين. فإن وقود اللاعبين هو القوة العقلية والقدرة على الصمود لأطول وقتٍ ممكن. هذه ليست استعارة الهدف منها المبالغة، فحسب مراجعة منهجية من مؤسسة "علوم الدماغ"، فإن نسبة لاعبي ولاعبات كرة القدم الذين ظهرت عليهم أعراض الاكتئاب كانت تتراوح بين 16.7% و39%.
هذا التقرير يستكشف التحديات والعقبات النفسية التي تواجه لاعبي كرة القدم، ويتناول أهمية العافية النفسية في كرة القدم، ويوضح كيف تؤثر وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي على اللاعبين من الناحية النفسية.
كواريزما.. الموهوب الغجري
الإنسان ابن بيئته، وتعبئته. الطفولة هي المرحلة الأمثل للتهيئة والتعبئة، فيها نكتسب تصورنا عن أنفسنا من الآخرين. نبحث عن الاعتراف والتقدير والحب والتحفيز منهم، نفعل الكثير لأجل لحظات انتباه معدودة. كثير من السمات الشخصية والأفكار والسلوكيات تُكتسب في الطفولة، وتكمل مسيرتها مع الإنسان حتى قبره.
وفقاً لجامعة "أوكلاهوما ويسليان"، هنالك سمات نفسية ضرورية للنجاح الرياضي. حتى الرياضيون الموهوبين قد يواجهون صعوبات في تحقيق النجاح إذا لم يكن لديهم السمات النفسية اللازمة للتفوق في عالم الرياضة، أو لديهم سمات شخصية تعيق تطورهم وتسبب لهم العديد من المشاكل.
في إحدى حلقات برنامج "مواهب ضائعة"، شرح وشرّح لؤي فوزي كيف ضاعت موهبة اللاعب البرتغالي ريكاردو كواريزما. عاش كواريزما طفولة عصيبة؛ حيث انفصل والداه عندما كان طفلاً. وكان هدفاً للتنمر والعنصرية بسبب أصوله الغجرية، مما دفع به في مواجهات في طفولته ومسيرته. في إحدى المرات، ضرب زميله في الفريق فيرناندو مارشال، ودخل في ملاسنات مع معظم المديرين الفنيين الذين تدرّب تحت إمرتهم.
طفولة كواريزما ساهمت في شخصيته الغامضة والغاضبة، غير المتوقعة. الأخيرة كانت السمة الأبرز في مسيرته الكروية، وربما هي سبب أسلوب لعبه غير المتوقع وميله للمخاطرة.
بويان كركيتش.. ضحية الضغط
واحدة من أهم المهارات التي يجب أن يمتلكها لاعب كرة القدم المحترف حالياً هي القدرة على التعامل مع الضغوط. لاعبو كرة القدم تحت ضغط مستمر لتقديم أفضل أداء ممكن. على سبيل المثال، لو قدم لاوتارو مارتينيز، مهاجم نادي إنتر ميلان أداءً سيئاً في مباراة، ستكون الضغوط عليه كبيرة لتصحيح المسار ومصالحة الجماهير. ولو قدم أداء جيداً فإنه سيكون مطالباً بنفس العطاء في المباراة التالية من الجماهير والإعلام والمدرب.
كان هناك دوار، وشعور بالغثيان، مستمر، على مدار 24 ساعة في اليوم.
لاعب نادي برشلونة السابق بويان كركيتش
يقع لاعب كرة القدم المحترف تحت ضغوط كروية ضخمة دون اعتبار لأي ظروف يمر بها اللاعب في حياته الشخصية، ناهيك عن ضغط المنافسة بينه وبين زملائه في الملعب، وضغط المدرب عليه لتقديم أداء أفضل، والضغط الإعلامي والانتقادات الفنية وخلافه. هذه الضغوط اليومية من مصادر متعددة، يمكن أن تؤدي إلى الإصابة بالقلق والاكتئاب، خاصة عندما يضاف إليها المقارنة مع أعظم لاعب في التاريخ؛ ليونيل ميسي. هذا ما جرى مع بويان كركيتش، الموهبة التي قتلها القلق والوحدة والمقارنات.
منذ اليوم الأول له في "سويتات سبورتيفا"، مجمع تدريب الفريق الأول لنادي برشلونة، انطلقت المقارنات بينه وبين ليونيل ميسي. ومنذ اليوم الأول أيضاً طلب بويان التوقف عن المقارنة، لكن أحداً لم يستمع له، وظلت المقارنات تتردد، لينمو الضغط داخله حتى وقع الانفجار.
يروي الكاتب عمر إبراهيم وقائع انهيار بويان الأول: "بعد أن مثل برشلونة في سنه الصغيرة، تم استدعاؤه للمنتخب الإسباني الأول لخوض وديات ما قبل بطولة يورو 2008، تحديداً تلك المباراة الودية التي جمعت المنتخب الإسباني بنظيره الفرنسي.
شعر، ولأول مرة في حياته، قبل مباراة قد تكون مهمة رغم كونها ودية، أن قلبه لا يرحمه، يدق بسرعة جنونية، وقدمه لا تحمله، يشعر بأن جسده متوتر بطريقة لم تحدث من قبل، مع شعور غريب بالقيء والغثيان ودوخة شديدة وفقدان الوعي".
ظلت تلك النوبات تضرب لبويان معظم فترات مسيرته، تحدث بويان عن معاناته مع صحيفة "الغارديان البريطانية" قائلاً: "كان هناك دوار، وشعور بالغثيان، مستمر، على مدار 24 ساعة في اليوم. كان هناك ضغط قوي".
كانت معاناة بويان كركيتش النفسية لها تأثير كبير على حياته ومسيرته بسبب نوبات الخوف والقلق رفض تلبية دعوة المنتخب الإسباني للمشاركة في بطولة "يورو 2008″، ولقد توّج الإسبان بها.
هل تتذكرون أنسو فاتي؟
تحدٍّ وخطر آخر يواجه لاعبي كرة القدم؛ الإصابات. رغم أنها تصيب الجسد، فإن للإصابات عواقب نفسية قد تكون وخيمة. أول ما تضرب الإصابات بعد الجسد، الثقة بالنفس. كما يمكن أن تؤدي إلى الاكتئاب والقلق، مما يمكن أن يؤثر على الصحة النفسية للاعب. في هذا السياق، يخرج تصريح روبرتو باجيو أعلاه من كونه "أفورة" في نظر البعض، إلى شعور حقيقي يمكن فهمه والتعاطي معه بهدوء.
أظهرت دراسة أجرتها مجلة "الطب الرياضي" البريطانية أن الرياضيين المصابين يعانون من انخفاض في مستوى الثقة بأنفسهم مقارنة بالرياضيين غير المصابين. وربما يعاني الرياضيون المصابون من خوف مزمن من تكرار الإصابة، عندما يعودون إلى اللعب مرة أخرى. هل تتذكرون أنسو فاتي؟
لقد طلبت من أمي قتلي بعد إصابتي الأولى، والتي تطلبت تدخلاً جراحياً، لم أكن أستطيع التكيف مع وضعي حينها، ولم أتصور أنني سأكون قادراً على التعافي منها والعودة من جديد
أسطورة كرة القدم الإيطالية روبرتو باجيو
دون الكثير من المقدمات، وبعد إصابة خطيرة غاب على أثرها لشهور طويلة، وجد فاتي نفسه بالقميص رقم "10" الأيقوني في برشلونة، أخبروه أنه مستقبل النادي وخليفة أسطورة النادي ليونيل ميسي. لا أدري هل صدّق فاتي تلك الأقاويل، أم أنه ظن خطأ أنه قادر على تحمّل الضغوط.
لكن ما أعلمه أن كل الأقاويل التي قيلت عنه وله في وسائل الإعلام، والطريقة التي تعامل بها برشلونة معه، وتعاطي الجمهور معه، وعلاجه بشكل خاطئ، كل ذلك كان خطوات فعالة في طريق تدميره.
لفّت الدنيا ودارت بأنسو فاتي، وها هو اليوم معار لنادي برايتون الإنجليزي، في محاولة لإعادته إلى نسخته الأولى، لكنه على الأرجح لن يعود مرة أخرى إلى "كامب نو".
القرش توريس
العافية النفسية لم تعد رفاهية. في حياة تحترق فيها أعصابنا ببطء، معظمنا مرضى بدرجات مختلفة، لكن معظمنا لا يمتلك رفاهية العلاج النفسي الباهظ.
لاعبو كرة القدم من القلة القادرة على تغطية تكاليف رحلة العلاج النفسي. بالنسبة للاعبين عماد العافية النفسية امتلاك الثقة بالنفس. تساعد العافية النفسية لاعبي كرة القدم في التعامل مع ضغوط المنافسة، ومواجهة التحديات والصعوبات، والبقاء متحفزين ومركزين على أهدافهم.
وفقاً لجمعية الطب النفسي الأمريكية، صار تخصص علم النفس الرياضي "تريند" في أروقة كليات علم النفس، والسبب هو زيادة الطلب عليه من الرياضيين.
آخر أبرز الأمثلة على فعالية التعافي النفسي، اللاعب الإسباني فيران توريس، جناح نادي برشلونة. بعد تدهور أدائه، وفشله في التأقلم مع الضغوطات النفسية المصاحبة للانتقال لنادي برشلونة، وفقدانه مركزه الأساسي، بدأ فيران رحلة العلاج النفسي. ويبدو أنها بدأت تؤتي أكلها، التطور الملحوظ على أداء وشخصية فيران توريس داخل الملعب وخارجه، دفع مدربه، تشافي هيرنانديز للإشادة به علناً، واعتباره قدوة لجميع اللاعبين الراغبين في تثبيت أقدامهم في البلوغرانا.
بأداء أرقى، وشخصية مختلفة، ولقب جديد عاد فيران توريس للواجهة. بعد معاناته النفسية، ظهر بلقب "القرش"، وهو لقب أطلقه على نفسه. في علم النفس، يحمل "القرش" معاني وتفسيرات رمزية متعددة. ما ينطبق منها على حالة فيران، هو أنه – أي القرش- رمز للتحوّل والنمو الشخصي.
ضحايا ومستفيدين
في سعي الكيانات المشرفة عليها وراء الربح، وموت السياسة المؤقت، شغلت كرة القدم الحيز الأكبر من المجال العام، وأصبحت قضية سياسية، وتسلية اجتماعية، ومصدراً للهوية، ومهرباً من الضغوط الحياتية.. باتت مخدراً ومحفزاً. في طريق الربح، توحّش الضغط الذي يمارَس على اللاعبين، وباتوا ضحايا ومستفيدين. فلا هم يملكون مهرباً من تلك الضغوط، ولا هم يقدرون على التخلي عن الملايين التي يحصدونها والشهرة التي اكتسبوها. ولذلك حديث آخر..