ملف أمن قومي.. لماذا يمنع الرئيس الفرنسي مبابي من الرحيل عن باريس؟

عربي بوست
تم النشر: 2023/06/15 الساعة 15:56 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/06/15 الساعة 16:53 بتوقيت غرينتش
Soccer Football - FIFA World Cup Qatar 2022 - Final - Argentina v France - Lusail Stadium, Lusail, Qatar - December 18, 2022 French President Emmanuel Macron hugs France's Kylian Mbappe as President of the Argentine Football Association Claudio Fabian Tapia looks on during the trophy ceremony REUTERS/Hannah Mckay

مرة أخرى، وقد لا تكون الأخيرة، أقحم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، نفسه في مستقبل كيليان مبابي، الذي لا يبدو أن إقامته في باريس ستدوم لما بعد صيف عام 2024. بطل العالم 2018، أخبر إدارة باريس سان جيرمان بعدم نيته تفعيل بند التمديد الاختياري لمدة عام، عندما ينتهي عقده في منتصف 2024.

وخوفاً من رحيله المجاني، قد تعرضه إدارة النادي الباريسي للبيع هذا الصيف. ولا يخفى على متابع كروي أن ريال مدريد هو أقرب أندية العالم لضمّه في حال رحل فعلاً عن باريس سان جيرمان. 

وبحكم تدخلاته الكثيرة في ملف مستقبل كيليان مبابي، كان من الطبيعي أن يسأل أحد الفرنسيين ماكرون: "هل سيبقى مبابي في باريس (سان جيرمان)؟"، فأجاب في تصريح أبرزته إذاعة "مونت كارلو" الفرنسية: "لا يوجد لديّ سبق صحفي (في هذا الصدد)، لكنني سأحاول الضغط عليه كي يبقى".

ماكرون أبدى في أكثر من مناسبة، حبه وإعجابه بمبابي، وكلما سنحت الفرصة حاول تصوير علاقته بالوريث المحتمل لعرش ميسي ورونالدو، كأنها علاقة صداقة وطيدة، وأن مبابي داعم له. 


ففي عام 2021، قال الرئيس الفرنسي إنه يفضل بقاء كيليان في صفوف الفريق الباريسي، وبقي مبابي. وفي عام 2022، لم يخفِ ماكرون حقيقة تدخُّله لإقناع مبابي بالبقاء في باريس، حيث قال في تصريح صحفي: "لقد تحدثت مع كيليان مبابي؛ كي أنصحه بالبقاء في فرنسا. دور الرئيس هو الدفاع عن بلده".

ملف أمن قومي

مستقبل مبابي بات ملف أمن قومي على ما يبدو. على كلٍّ قال مبابي رداً على حواره مع ماكرون: "بالطبع عندما يخبرك الرئيس بذلك، فهذا أمر مهم، لكن كما قلت من قبل، كان هذا قراري. لم أكن أتخيل قط التحدث عن مستقبلي  ومستقبل حياتي المهنية مع الرئيس".

أضف إلى ذلك تصرفات قاطن الإليزيه في ملعب "لوسيل"، عقب فوز الأرجنتين في نهائي كأس العالم 2022، والتي لم ترق لا للجماهير ولا اللاعبين، وتحديداً كيليان مبابي.

دخل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أرض الملعب، وتوجه مباشرة صوب كيليان مبابي وقام بمعانقته بحرارة، بدت مصطنعة لكثيرين، بعد هزيمته في نهائي كأس العالم أمام الأرجنتين.

كان الرئيس البالغ من العمر 44 عاماً، والذي يتولى منصبه منذ عام 2017، يتقافز على مقعده في المقصورة الرئيسية لملعب "لوسيل" تفاعلاً مع أحداث المباراة الأكثر إثارة في تاريخ كأس العالم. وعندما انتهت الأرجنتين منتصرة، شعر الرئيس بالحاجة إلى مواساة لاعب واحد، مبابي بكل تأكيد. ربت على كتفه، لكن لم يعره مبابي كثيراً من الانتباه. 

الرئيس إيمانويل ماكرون في قطر 2022- رويترز

تخيل أنك في قاع الإحباط، قدمت كل ما تملك لتحقيق الحلم، وفشلت. ثم يقفز رئيس الجمهورية، بشحمه ولحمه، الذي لا تربطك به أي صلة تُذكر، ويحاول شق طريقه في قلب خيبة أملِك الشخصية من أجل مكاسبه الخاصة. تخيل أنك كيليان مبابي وإيمانويل ماكرون يلاحقك كظلك لكسب ود ناخبين جدد.

مؤخراً، ومع ارتفاع شعبيتها، وتنامي حضورها في كل أصقاع الأرض، باتت كرة القدم أفضل مسحوق تجميل للدول والسياسيين. كل من يريد تحسين أو رسم صورة إعلامية مغايرة لحقيقته، أو يبحث عن رفع أسهمه الانتخابية، بات مشجعاً كروياً صميماً، "مشجع درجة ثالثة" حسب التعبير المصري.
وفي حالة ماكرون، فإن مبابي هو الحصان الرابح في سباق الاندماج واحتواء ودعم الأقليات في فرنسا. فكل صورة تجمع الرئيس الفرنسي مع بطل العالم، تعني حصده أصواتاً انتخابية من الفرنسيين ذوي الأصول الأجنبية، غير الأوروبية.
حاولت الماكينة الإعلامية للرئيس ماكرون، تصوير احتضان الأخير لمبابي على أنه احتضان لكافة الأطفال والشباب الفرنسيين المهاجرين، فهو الرئيس الذي يدعم أصحاب البشرة السمراء طالما كانوا موهوبين ويمثلون القيم الجمهورية الفرنسية. الحقيقة، نجح ماكرون في خطته الإعلامية، وذهب كثير من أصوات الفرنسيين المهمشين إليه، لكن ما كان لينجح بالدرجة نفسها لو لم تكن ماريان لوبان، زعيمة اليمين المتطرف في فرنسا، هي منافسته. زعيق وضجيج اليمين الفرنسي، وخطاباته العنصرية ضد المهاجرين الأفارقة والعرب، دفعت كثيراً من الناخبين إلى الارتماء في حضن ماكرون، ولو على مضض، كما مبابي.

معظمنا بات يعلم أن معظم السياسيين مزدوجو المبادئ، ولا يهمهم سوى الوصول إلى السلطة والبقاء فيها. لكن معظمهم يحاول تفادي التحول المفاجئ الذي يثبت ويظهر تلك الازدواجية. لكن ماكرون يختلف عن الآخرين.

في 17 نوفمبر/تشرين الثاني، وقبل انطلاق مونديال قطر، قال الرئيس الفرنسي إنه لا ينبغي تسييس الرياضة. لكن الرئيس الذي سيساند منتخب بلاده ابتداء من دور نصف النهائي، لم يتوقف منذ أن دبت قدمه في الأراضي القطرية عن تسييس الرياضة واستغلال نجاحات المنتخب الفرنسي. يقفز في المدرجات كمشجع مهووس، ثم يحتضن اللاعبين ويشكرهم ويثني على أدائهم، يعطي محاضرة في غرفة خلع الملابس لرفع الروح المعنوية، ويحتضن اللاعبين بشكل رومانسي على منصة التتويج. 

وقبل أن يسدل الستار على كأس العالم 2022، انتهز الفرصة ببراغماتية ميكيافيلي، ورشاقة يفغينيا أوليغوفنا كانيفا، وقال عن مباراة النهائي، إنها "تقول شيئاً عن هويتنا"، واصفاً فريقاً بـ"القلب والوحدة. هذه هي صورة فرنسا!".

ماكرون نصّب نفسه رئيساً للاتحاد الفرنسي لكرة القدم، ولم يتردد في التدخل ومطالبة المدرب ديدييه ديشان بالبقاء في منصبه. فقال: "أريده أن يستمر".

وبالفعل، خلف الاتحاد الفرنسي اتفاقه مع زين الدين زيدان وأبقى على ديشان مديراً فنياً للمنتخب. 

خسارة الرمز

ضغط ماكرون على مبابي ليس نابعاً فقط من حس وطني، أو حاجة انتخابية. هناك عوامل اقتصادية واجتماعية مُلحة أيضاً.
ففي الدوائر الثقافية الفرنسية اليوم، هناك جدل دائر حول أسباب تخلُّف فرنسا؛ من الهيمنة السياسية، مروراً بالسينما والمسرح، وصولاً إلى كرة القدم.

رحيل مبابي إلى ريال مدريد كان يعني خسارة رمز الجيل الكروي الفرنسي الحالي لصالح دولة يبزغ نجمها في القارة العجوز. لم يكن ماكرون ليتحمل تلك الخسارة التي كانت سترفع من حالة الضيق إزاء التراجع الفرنسي المستمر منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. 

للسبب ذاته، لم يتدخل ماكرون فقط لإقناع مبابي، بل وسلفه ساركوزي. كلاهما ضغطا على مبابي لرفض عرض ريال مدريد. 

يقول مبابي: "لقد نصحوني بشدة بالبقاء في بلدي والاستمرار في كتابة قصتي رفقة باريس سان جيرمان".

الهدف الآخر من الضغط على مبابي وإبقائه في باريس، وكذلك جلب ليونيل ميسي إلى نادي العاصمة قبل عامين، هو إنقاذ الدوري الفرنسي ورفع جماهيريته، وبالتالي تقليل حجم الخسائر المادية التي تتلقاها الأندية. العديد من المباريات مملة، والمنافسة غير متوازنة على الإطلاق حتى بات فوز باريس سان جيرمان بلقب الدوري مسألة بديهية. كما أن التبعات الاقتصادية لجائحة كورونا وجهت ضربة قوية للأندية الفرنسية.

وبعد توقيع مبابي عقده الجديد، وموافقة ماكرون وضمان رضا البرلمان، تم تمرير صفقة رعاية بين الدوري الفرنسي وشركة CVC، بقيمة 1.5 مليار يورو أنعشت خزائن الأندية الفرنسية، لكن الأخيرة ستقضي سنوات طويلة في تسديد فوائدها.

عبر تاريخها الحديث، استغلت فرنسا كرة القدم لترسم نفسها مُتحدة بلا شقوق أو نزاعات، ولا فرق بين فرنسي وآخر إلا بالأداء على المستطيل الأخضر. 

في عام 1998، بث المنتخب الفرنسي، المتنوع عرقياً، والذي فاز لفرنسا بأول كأس عالم، آمالاً عريضة في أن الرياضة يمكنها أن تعالج الانقسامات في المجتمع الفرنسي. لكن هذا التفاؤل كان في غير محله.

اليوم، لا تزال فرنسا تتقاتل حول ما إذا كان ينبغي السماح للاعبات المسلمات بارتداء الحجاب أثناء لعبهن في مسابقات الهواة أو المحترفين. ولا تزال تمنع المحجبات من ارتداء "البوركيني" على شواطئها.

تحميل المزيد