أعتقد أن مسيرة ميسي بالكامل تم احتكارها في خانة الإنجازات، بين محب وكاره له، إنجازات في النادي أو المنتخب.
لكن مسيرته تنقسم إلى نصفين: نصف غير مفهوم، ونصف غير معقول.
النصف الأول: هو أنه لعب لفريق لا ينتمي لبلده، وأصبح أسطورته، وكانوا يهتفون له في نفس الوقت الذي لم يشعر فيه أبداً أنه ابن بلدته.
شعر خلالها بأنه قد تُوج بكل شيء، ورغم محاولاته المتواصلة للتتويج بلقب قاري لبلده؛ كل المؤشرات كانت توحي بأنه لن يصل أبداً، وأن رحلته ستنتهي في برشلونة كما كانت دائماً.
النصف الثاني: هو انتهاء عقده مع برشلونة، وتتويجه بلقب كوبا أمريكا، ثم عودته للاحتفال مع الفريق الذي يحبه، بعد عناء طويل ومواساة منهم، وفجأة يُعلن النادي عن رحيله؛ سواء خانوه أو حاولوا لكن الظروف حالت.
وتفتح الحياة طريقاً أمامه؛ فيُعوض كل سنوات تعبه، بلقب الكوبا، ثم الفيناليسما، ثم كأس العالم.
لكن مسيرته لا تنتهي في المدينة التي أحبها وأحبته، بل تنتهي في نفس البلد الذي عانى فيه لكي يُثبت فقط أنه يحبه، والتكريم الذي يستحقه يناله من أهل بلدته، ومن شعبه، ولا ينتهي بالضرورة في المدينة التي أظهرته للعالم.
لماذا لا يثق ميسي في لابورتا رغم حبه لبرشلونة؟
لم تكن مشكلة ميسي مع برشلونة أبداً، بل كانت مع خوان لابورتا تحديداً؛ الرئيس الذي استخدم اسم ميسي لإنجاح حملته الانتخابية واعتمد على هذه الفكرة اعتماداً كلياً.
ورأينا ميسي للمرة الأولى، يُشارك في انتخابات رئاسة برشلونة، وكان من الواضح أنه اختار لابورتا تحديداً، وفجأة اكتشف ميسي أن نفس الشخص هو من تخلى عنه في نصف ساعة لا أكثر.
وأعلن نادي برشلونة رحيل ميسي عبر تغريدة، وهو أمر لا يليق بأسطورة النادي وأفضل لاعب في تاريخه، ثم لم يتوقف لابورتا عن التضاد بين ما أظهره قبل الانتخابات وما فعله بعدها.
بل قال إن ميسي لم يطلب أن يلعب مجاناً؛ في استهجان منه لأن ميسي حاول بشتى الطرق الخروج من برشلونة، وأمر اللعب بالمجان مرفوض طبقاً للقانون الإسباني، فحتى لو وافق ميسي على هذا الأمر كانت اللوائح ستمنعه.
ثم بعد نهاية عقده مع باريس سان جيرمان، ظهر لابورتا من جديد، وانتشرت الأخبار بأن أولوية النادي هي إعادة ميسي؛ ليتفاجأ الجميع بأن ميسي قد صرف النظر عن لابورتا حتى وإن اجتمع والده معه.
فيما بعد، يُصدر برشلونة بياناً رسمياً يتحدث فيه عن أن ميسي "ذهب لمنافسات أقل تطلباً" وهي جملة لا تليق بلاعب بحجم ميسي، لاعب حقق كأس العالم في نهاية العام الماضي، ولا تليق بما قدمه خوان لابورتا، الذي عانى فريقه بعد خروج ميسي بشكل فاضح في دوري أبطال أوروبا، وحتى في منافسة الدوري الأوروبي.
لماذا إنتر ميامي وأمريكا تحديداً؟
العديد من أساطير كرة القدم، لم تنتهِ رحلتهم في المكان الذي نالوا فيه هذا القدر الكبير من الشهرة، بل ربما ذهبوا لدوريات ودول لم تكن ذات بريق في كرة القدم، لكن فترتهم فيها لم تدُم طويلاً.
يرى الكثير من الناس أن فكرة الاعتزال في نادٍ لا أحد يهتم بمشاهدته، هي إحدى الوسائل التي تستخدمها الدول لجذب لاعبي كرة القدم وجذب مستثمرين لهذا الدوري.
منذ ثلاث سنوات مثلاً، كانت فكرة خروج ميسي من أوروبا مستحيلة، وربما لو فكرنا فيها فإن أقرب فريق كان سيزوره ويعتزل فيه؛ هو نيولز أولد بويز، نفس الفريق الذي مهد له الطريق ليصل إلى كل ما وصل إليه.
لذا، كان على ميسي أن يختار بين برشلونة والعرض السعودي الكبير، لكن وعلى عكس المتوقع تماماً اختار وجهة ثالثة، وجهة ربما لا تليق باسمه وتاريخه، وناد أصغر أبنائه أكبر عمراً منه.
نادي إنتر ميامي الأمريكي، الذي يُنافس في دوري لا يوجد فيه هبوط، وهو نفس الدوري الذي زاره الكثير من أساطير كرة القدم في العقد الأخير، لكن لماذا إنتر ميامي تحديداً رغم أن بعض الفرق أكثر شهرةً منه في نفس الدوري؟
أُسس إنتر ميامي في عام 2018، وكان أحد مؤسسيه هو ديفيد بيكهام، نجم ريال مدريد ومانشستر يونايتد السابق، واللاعب الذي قال مازحاً في يوم من الأيام، إنه فكر جدياً في الاعتزال، في تلك المباراة التي جمعت برشلونة بباريس سان جيرمان الفرنسي في دوري أبطال أوروبا عام 2013.
والمزحة في أن ميسي حينما مر بجواره، لم يستطع ديفيد بيكهام أن يُلاحقه ويوقفه؛ لذلك فكر في قرار الاعتزال.
وبيكهام لم يكن يمزح فحسب، بل أكد كثيراً على إعجابه بميسي وحبه الشديد له، وأخبره أن أسرته بالكامل تحبه وتعتبره قدوة ويُلاحقونه في كل مكان، وبأي قميص يرتديه.
ويبدو أن ميسي قد قرر أن يبتعد عن أضواء أوروبا، بعد سنوات من الاحتفال والحزن فيها، وقرر أن يترك الجوائز الضخمة، فردياً وجماعياً، ليُقرب لحظة اعتزاله أكثر وأكثر حتى يتفرغ لحياته الطبيعية بعدها.
لكن ربما أراد ميسي بهذا القرار، أن يرتاح من الصحافة، وبعد فوزه بكأس العالم قطر 2022 فإنه كما قال قد حقق كل شيء حلم به، وأن يستعد بأفضل شكل ممكن لكأس العالم 2026 والذي يُقام في نفس القارة وفي نفس الأجواء.
ثم إن كوبا أمريكا 2024، والتي تُقام في الأرجنتين، ستكون ذات أجواء مناسبة تماماً لنفس القرار، لكن في القرار صعوبة لتفسيره، خاصة أن ميسي كان بإمكانه اختيار الأموال الطائلة للعرض السعودي.
أو العودة لنفس المدينة التي عاش فيها أكثر من نصف عمره، لكن في أمريكا الأمر أكبر بكثير من مجرد عقد، هو بمثابة تخطيط مستقبلي لإدارة مسيرة ميسي المتبقية.
رعاة الدوري الأمريكي تكفلوا جميعاً بتقديم عروض كبيرة لكل من وصل إلى أمريكا مؤخراً، وعلى رأسهم ميسي، الذي لم يتخذ قراره عبثاً ولا في لحظة غضب.
بل فيما يبدو أن كل عقد رعاية وُقع مع الدوري الأمريكي للمحترفين، يعني بالضرورة استفادة مالية ومستقبلية لميسي.
فمن المتوقع أن يُصدر فيلم وثائقي لميسي رفقة منتخبه الأرجنتيني، لتغطية كافة لحظات تتويجه التاريخي بكأس العالم قطر 2022.
بالإضافة إلى تواجد واحدة من أقوى الشركات الرياضية ADIDAS من ضمن رعاة الدوري الأمريكي منذ نشأته عام 1996، وهي نفس الراعي الدائم لميسي، وقع معهم صفقة مدى الحياة في عام 2017، كما أنه يمتلك قسماً خاصاً باسمه في الشركة تعود أرباحه بالكامل له.
الشركة الألمانية، أعلنت رسمياً تجديد تعاقدها مع الدوري الأمريكي للمحترفين لمدة ست سنوات، حتى عام 2030، وهذا يعني أن ميسي سيحصد نسبة كبيرة من أرباح الرعاية بتواجده في الدوري الأمريكي.
وهي فكرة شبيهة تماماً بنفس فكرة وصول ديفيد بيكهام للدوري الأمريكي من أوروبا في العقد الماضي؛ أن يصل إلى أمريكا ثم يُمنح حقاً كاملاً في الاستثمار مستقبلاً في نفس الدوري، وهو ما حدث بالفعل في إنشاء إنتر ميامي عام 2018.
أي أن ميسي، بتواجده في الدوري الأمريكي، فهو يتواجد في قارة تحبه، وتتمتع بمناخ مشابه لنفس المناخ الذي يعيشه في الأرجنتين، والعائد المادي المستقبلي أكبر بكثير من أي عرض كان من الممكن أن يوافق عليه في أي مكان آخر.
قال ميسي إنه يحب برشلونة، وإنه لم يُفارقها أبداً، وتمنى كثيراً أن يعود للمدينة ويحظى بوداع يليق بما قدمه، وبما كان يتوقعه، لكن يبدو أن مشكلة ميسي لم تكن مع برشلونة، بل مع مَن على رأس القيادة في برشلونة؛ خوان لابورتا.
ومن الواضح أن ميسي لم ينتظر؛ لأنه لا يثق في خوان لابورتا وحاشيته، ومهما منحوه من ضمانات، فإن ما حدث في عام 2021 يلوح في الأفق، لذلك اختار أن يبتعد تماماً عن صخب حياة أوروبا، وجوائزها، وأن يختار حياة هادئة له ولأسرته، ومستقبلاً مُخططاً له من الحاضر، واستثمارات لم يفكر بها أبداً!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.