احتقروهم ودهنوا وجوههم بمسحوق أبيض.. كيف ذكّرنا فينيسيوس بتاريخ العنصرية المرعبة للسود في البرازيل؟

عربي بوست
تم النشر: 2023/05/27 الساعة 10:36 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/05/27 الساعة 10:36 بتوقيت غرينتش

في الـ13 من مايو 1914، وبعد 26 عاماً بالضبط على إنهاء العبودية في البرازيل، كان كارلوس ألبيرتو لاعب نادي فلومينينسي على موعد مع مواجهة ناديه السابق "أمريكا"، ولأنه كان أول أسود على الإطلاق يحمل ألوان نادي الأرستقراطيين، لجأ في تلك المواجهة إلى فرك وجهه بمسحوق الأرز الأبيض، ما اعتبره أنصار أمريكا تنكراً من طرفه لإخفاء لونه الحقيقي على جمهور فريقه، فسخروا من فلومينينسي وأطلقوا عليه تسميه نادي "مسحوق الأرز Pó de Arroz"، وهي السخرية التي تحولت بعد ذلك إلى لقب يفتخر به أنصار هذا الفريق، ولا تستغرب إن رأيت جمهور فلومينينسي ينثر مسحوق الأرز في المدرجات قبل كل مباراة، لاسيما أن رواية النادي تؤكد أن اللاعب فرك "بودرة الأرز" فعلاً، ولكن لتخفيف تهيج الجلد، وليس خوفاً من العنصرية. 

من إفريقيا إلى البرازيل.. رحلة عبودية مرعبة 

بعيداً عن إفريقيا، تعتبر البرازيل أكثر دولة تحتوي سكاناً سوداً في العالم، ووفقاً لبيانات المعهد البرازيلي للجغرافيا والإحصاء سنة 2018، فإن 56.10% من سكان البرازيل أعلنوا عن أنفسهم على أنهم سود أو بنيون، ورغم قوانين مناهضة العنصرية في بلاد "السامبا" فإن بيانات سوق العمل قبل 5 سنوات تشير إلى أن 68.6% من المناصب الإدارية المهمة يشغلها البيض.

تاريخياً، استقبلت البرازيل عبيداً أفارقة أكثر من أي دولة أخرى في العالم، فبين عامي 1540 و1860 تم إحضار حوالي 5.5 مليون إفريقي معظمهم من غرب القارة السمراء إلى البرازيل لاستعبادهم، وهو ما لعب دوراً محورياً في نمو اقتصاد البلد من خلال استغلالهم في مختلف الأعمال البدنية، بدءاً من العمل في حقول السكر، مروراً بالمناجم، فمزارع القهوة، أما المُرعب في هذه القصة فهو أن معدل أعمار الأفارقة إبان الاستعمار البرتغالي للبرازيل لم يتعدَّ 23 عاماً بسبب ظروف العمل الرهيبة في مزارع السكر والبن ومناجم الذهب. 

ثورة المسلمين.. "القانون الذهبي" ونهاية العبودية

في رمضان عام 1835 اندلعت في مدينة سلفادور البرازيلية ثورة "الماليس" أو مسلمي البرازيل من أجل تحرير كل العبيد، وهي الثورة التي يعتبرها الكثيرون نقطة انطلاق حقيقية لإلغاء العبودية في آخر دولة ألغت تجارة الرقيق بالمنطقة، ورغم أنها كانت محاولة فاشلة انتهت بقتل 80 شخصاً من الـ"Malês" وأسر 300 آخرين، فإن الحكام أدركوا أن انتفاضة العبيد الحقيقية هي مسألة وقت، وما هي إلا سنوات، وتحديداً في 13 مايو 1888 أصدرت "دونا إيزابيل" أميرة البرازيل ووريثة العرش "Lei Áurea" أو "القانون الذهبي"، الذي أبطل العبودية، وكان علامةً فارقة في تاريخ البلد، لكنه لم ينهِ إطلاقاً مظاهر التمييز العنصري التي لا يزال بعض البرازيليين يشتكون منها إلى اليوم، وخاصةً فيما يتعلق بالحقوق والظروف المحيطة بالعمل. 

تاريخ العنصرية في البرازيل
ثورة المسلمين

تبييض البرازيل.. مشروع أنجحته مزارع "القهوة" 

بعد هجرات السود الكثيرة، وقبل 10 أعوام فقط من إصدار "القانون الذهبي" لإلغاء العبودية، كان هناك "مؤتمر زراعي" في ريو دي جانيرو، وفيه تم الاتفاق على أن الهجرة ستكون مرة أخرى أبرز حل لإنقاذ مزارع البن، لكنها ستكون مختلفة تماماً هذه المرة، إذ اتفق المسؤولون على استقبال مهاجرين أوروبيين أغلبهم من إيطاليا والبرتغال، في سياسة واضحة لتبييض المجتمع، أكدها الرئيس البرازيلي الأول ديدورو دا فونسيكا في مرسوم سنة 1890 يقضي بفتح الموانئ أمام الهجرة باستثناء الأفارقة والآسيويين. 

تاريخ العنصرية في البرازيل
الهجرة الإيطالية لتبييض البرازيل

لم يكن "التبييض العنصري" في البرازيل مجرد مخطط بسيط، بل إنه كان أيديولوجية على نطاق واسع بين عامي 1889 و1914، بحسب ما أكده أوليفيرا فيانا، أحد أبرز منظّري تحسين النسل في البرازيل، ومن أشهر مقولاته: "200 مليون هندوسي لا تساوي حفنة البريطانيين الذين يُسيطرون عليهم"، ونتيجة لهذه السياسة قُدر عدد البرازيليين البيض سنة 2010 بأكث من 91 مليون نسمة، مقابل 14.5 مليون برازيلي أسود من أصول إفريقية، و82 مليون برازيلي من "الباردو" أو "المولاتو"، أي الجنس المختلط، وأغلبهم ببشرة بنية. 

قبل قرن "السيليساو" كان محرّماً على اللاعبين السود!

في السنين الأولى من القرن العشرين كانت البرازيل تعيش كروياً في ظل الجارتين الأرجنتين وأوروغواي، فلم تكن لهم هوية كروية كما هو عليه الحال اليوم، وللتمييز العنصري في ذلك نصيب، حيث إن "السيليساو" كان حكراً على البيض من دون مرسوم أو قانون، ولكن لأنه مشروع أيديولوجي يهدف إلى تصوير البرازيل كدولة ذات أغلبية "بيضاء"، وهو ما يعكسه بكل وضوح الوضع السياسي في البلد وقتها، ففي ديسمبر من سنة 1913 كتب ثيودور روزفلت، الرئيس السادس والعشرون للولايات المتحدة الأمريكية، بمجلة The Outlook قائلاً: "الغالبية العظمى من أعضاء الإدارة والمحكمة العليا، والرجال ذوو الرتب العالية في جميع دوائر الحياة في البرازيل، هم من ذوي الدم الأبيض النقي، ومع ذلك هناك نسبة مئوية من الدماء الهندية في عروقهم، وهم فخورون جداً بهذه الحقيقة".

"ابن ماتيلد السوداء".. أول أسطورة في تاريخ البرازيل

في وسط "أيديولوجية التبييض" كان المنتخب البرازيلي يستعد سنة 1914 للعب أول مباراة في تاريخه أمام نادي إكستر سيتي، وقتها تم استدعاء أفضل اللاعبين من ريو دي جانيرو وساو باولو، وعلى رأسهم آرثور فريدينريتش، نجم أتلتيكو إيبيرانغا، الذي يُعتبر باختصار أول "بيليه" في تاريخ "السيليساو"، والذي كان من فئة "الباردو"، فوالده كان من أصول ألمانية، أما والدته "ماتيلد" فكانت برازيلية سوداء، ولذلك فإن ملامحه لم تكن أوروبية بحتة ولا إفريقية بحتة، وهذا ما جعله يقتحم عالم المستديرة كمحترف بشكل أسهل، ليُصنف لاحقاً أول أسطورة في تاريخ البرازيل، حيث اشتهر بتسجيل 1239 هدفاً، قبل أن ينشر الصحفي ألكسندر دا كوستا كتاب "O Tigre do Futebol"، وأكد بعد تحقيق مطول أن فريدينريتش سجل 554 هدفاً في 561 مباراة، وقال: "لم أرغب في تدمير الأسطورة، أنا حقاً أحب فريد، أردت فقط توضيح ما يشاع".

البرازيل
رثور فريدينريتش

"القرود موجودة بالفعل على الأراضي الأرجنتينية"

توج المنتخب البرازيلي بأول لقب على الإطلاق في عام 1919، ضمن منافسة كوبا أمريكا، ونظمت البرازيل تلك النسخة من أجل تكرار ما فعلته الأرجنتين في النسخة الأولى، ثم الأوروغواي في الثانية، وفعلاً نجحت في الأمر بعد تألق فريدينريتش هدّاف المسابقة ومسجل هدف النهائي الوحيد.

في العام التالي، كان من المتوقع أن تُكرر البرازيل هذا الإنجاز وتتوج مرة أخرى بكوبا أميركا، فسافر "السيليساو" إلى الشيلي من دون فريدينريتش وأخفق في مسعاه، وقبل العودة إلى أرضه سافرت بعثة البرازيل إلى بوينس آيريس للعب مباراة ودية مع الأرجنتين، فتم الترحيب باللاعبين بطريقة عنصرية كانت لتفجر العالم لو حدثت اليوم، حيث نشرت صحيفة Crítica صورة كاريكاتيرية تُمثل اللاعبين البرازيليين على أنهم قردة، وعنونت: "القردة موجودة بالفعل على الأراضي الأرجنتينية، سيتعين علينا تشغيل الضوء لرؤيتها"، في إشارة إلى البشرة السمراء التي تُميز الكثير من الشعب البرازيلي.

تاريخ العنصرية في البرازيل

رئيس البرازيل يطلب استبعاد السود من "السيليساو"!

أثار منشور الصحيفة الأرجنتينية غضب الوفد البرازيلي، بل إن بعض اللاعبين رفضوا مواجهة الأرجنتين، وكان ذلك باختصار "أول صرخة ضد العنصرية من طرف الرياضيين"، وفي وقت كان الجميع ينتظر إدانة رسمية لهذا التمييز، التقى إيبيتاسيو بيسوا، رئيس البرازيل، بالمسؤولين عن منتخب بلاده وأوصى بأن يمثل "السيليساو" اللاعبون البيض فقط، بحجة الحفاظ على سمعة البلاد في الخارج، وهو ما يعكس بوضوح "أيديولوجية التبييض" ومحاولة رسم صورة "البرازيل البيضاء فقط" في المخيال الخارجي، وفعلاً استبعد فريدينريتش مرة أخرى ولم يشارك في "كوبا أميركا 2021″، التي توج بها في نهاية المطاف منتخب الأرجنتين، وهو ما نددت به صحيفة O País بالقول: "إن المسؤولين عن الرياضة وفي خطوة بغيضة يستبعدون السود والمولاتو من الصورة الوطنية".

ليونيداس دا سيلفا، بيليه وغارينشا.. أخيراً ينتصر "القانون الذهبي"

"ليونيداس دا سيلفا.. المحبوب الأسود في برازيل فارغاس"، هذا العنوان هو لكتاب أصدره كل من خورخي فيريرا وكارلا كارلوني للحديث عن التطورات الكبيرة التي حصلت في عهد الرئيس جيتوليو فارغاس، رئيس البرازيل من 1930 إلى 1945، ففي مونديال 1938 بدأت مظاهر "برازيل السحرة" تتجسد، وبدأت مظاهر "أيديولوجية التبييض" تزول، وكنتيجة لذلك أعلن الأسمر ليونيداس دا سيلفا نفسه هدّافاً لكأس العالم بـ7 أهداف، وأعطى شارة الانطلاقة الحقيقية للهوية الكروية البرازيلية التي رسمها بشكل واضح بيليه وغارينشا، الثنائي التاريخي الذي أهدى البرازيل أول لقب في المونديال سنة 1958، وأنهى بشكل رسمي جدل "الأسود والأبيض" في بيت "السيليساو"، بل أجبر الجميع على وصف "بيليه" بالجوهرة، وأي جوهرة، إنها "السوداء". 

تاريخ العنصرية في البرازيل
ليونيداس دا سيلفا

انتصار محلي ومعاناة في أوروبا.. فينيسيوس يُعيد "صرخة العنصرية"

في إسبانيا، وغير بعيد عن البلد الذي استعمر البرازيل طويلاً وكرّس هناك لنظام العبودية، لا يزال البرازيليون يعانون إلى اليوم من العنصرية بسبب اللون، وإن كان داني ألفيس قد أكل "موزة العنصرية" التي رميت إليه من طرف جمهور فياريال، فإن فينيسيوس لم يتحمل وصفه الدائم بالقرد، وكرر صرخة العنصرية التي أطلقها أسلافه في الأرجنتين سنة 1920، ليلقى دعماً منقطع النظير أبرزه من الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا، الذي طالب بإجراءات صارمة لمحاربة "الفاشية" والعنصرية في ملاعب المستديرة.

هذا الدعم المحلي لم يأتِ من فراغ، فأمثال فريدينريتش، وليونيداس، وبيليه، وغارينشا، وروماريو، ورونالدو، ورنالدينيو هم من قدموا للبرازيل هوية كروية مبنية على المتعة ولا شيء غير ذلك، تماماً مثلما جعلوا من رقصة "السامبا" الإفريقية رمزاً ثقافياً برازيلياً، لكن مقولة روزفلت سنة 1913 لا تزال تمثل الواقع السياسي في البلد، على الأقل إن تعلق الأمر بمنصب رئيس البلد الذي يبقى حكراً على البيض منذ إعلان الجمهورية سنة 1889 مع استثناء واحد قبل 113 عاماً هو نيلو بيسانيا، الذي ينتمي لـ"المولاتو".

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

محمد بلقاسم
صحفي رياضي جزائري
صحفي رياضي جزائري
تحميل المزيد