قصة نجم البيسبول الأمريكي مو بيرغ مع الجاسوسية تُشبه قصصاً أخرى كثيرة. وهذا العالم المليء بالقصص المثيرة، التي تشكّل جزءاً مهماً من التاريخ السياسي حول العالم، أبطاله شخصيات معروفة ومغمورة، وقد أسهموا جميعاً، بشكلٍ أو بآخر، في تغيير مجرى الأحداث وتحديد مصير الدول والأمم.
وإذا كان بعض الجواسيس قد ذاع صيتهم في العصر الحديث وأصبحوا معروفين، في حياتهم أو بعد وفاتهم، فإنك قد تُفاجأ حين تعلم أن البعض الآخر كان ينشط في العمل الاستخباراتي، على غرار نجم رياضة البيسبول الأمريكي.
فمن هو مو بيرغ؟
وُلد مو بيرغ (واسمه الحقيقي موريس) في 2 مارس/آذار 1902 بمدينة نيويورك الأمريكية، من والدَين مهاجرَين أوكرانيين، وقد نشأ في مدينة "نيوآرك" بولاية نيوجيرسي؛ حيث تلقى تعليمه الابتدائي والثانوي، ومارس بميادينها رياضته المفضلة: البيسبول.
وبين العامين 1923 و1939، كان أحد أبطال هذه اللعبة داخل الولايات المتحدة الأمريكية. وقد تنقل على مدار 15 عاماً بين عدة أندية مشاركة في دوري البيسبول الرئيسي، أبرزها: "بروكلين دودجرز"، و"أنديان دي كليفلاند"، و"بوسطن ريد فوكس".
لم يكن مو بيرغ أفضل لاعبي دوري البيسبول الأمريكي؛ ولكن نجمه سطع في العام 1934 حين حطّم في 21 أبريل/نيسان الرقم القياسي في الدوري الأمريكي، للمباريات المتتالية الخالية من الأخطاء، التي لعبها أي لاعب في مركز الـ"صائد" (Catcher).
وقد ذكرت مراجع تاريخية عدة أنه كان يُلقب بـ"أذكى رجل في رياضة البيسبول"، ولم يحصد هذا اللقب بسبب طريقة لعبه، بل لذكائه الخارق وثقافته الواسعة.
فهو صاحب شهادة عليا في اللغات الحديثة من جامعة برينستون سنة 1923، وشهادة عليا أخرى في الحقوق من جامعة كولومبيا عام 1928.
كما اشتُهر بإتقانه لغات عديدة، حدّدتها بعض المراجع بـ12 لغة، فيما ذكرت مصادر أخرى أن العدد أكبر من ذلك. كان يتحدث بطلاقة الإنجليزية، والألمانية، والفرنسية، واليابانية، والإسبانية، والإيطالية والبرتغالية، إضافةً إلى معرفة جيدة بـ10 لغات أخرى على الأقل.
لا يُعرف الكثير عن النشاط الذي قام به مو بيرغ، في السنوات الأولى التي تلت اعتزاله رياضة البيسبول عام 1939؛ ولكن موقع History ذكر أنه انضمّ في بداية العام 1942 إلى مكتب شؤون البلدان الأمريكية، وهو عبارة عن وكالة أنشأتها الولايات المتحدة بعد دخولها الحرب العالمية الثانية، لمواجهة دعاية العدو في أمريكا اللاتينية.
ضابط مُكلّف بالعمليات شبه العسكرية
أولى مهمات مو بيرغ في عالم الجاسوسية كانت حين كُلّف القيام بمهمة في اليابان، واستكشاف أفق طوكيو خلال التخطيط الأمريكي لـ"غارة دوليتل" التي شنتها الطائرات الأمريكية في العام 1942 على العاصمة اليابانية طوكيو خلال الحرب العالمية الثانية.
في العام 1943، أصبح مو بيرغ ضابطاً مُكلفاً بالعمليات شبه العسكرية في مكتب الخدمات الاستراتيجية (OSS)؛ وهو وكالة استخبارات تابعة لحكومة الولايات المتحدة، أُنشئت عام 1942 بعد دخول أمريكا الحرب العالمية الثانية، لجمع المعلومات والقيام بأعمال "سرية"، لا يمكن أن تتولاها هيئات حكومية أخرى.
المهمة الرئيسية لمو بيرغ في هذا المكتب تمثلت بجمع معلوماتٍ في أوروبا حول جهود ألمانيا النازية لصنع قنبلة ذرية، وقد أُطلق عليها اسم "مشروع لارسون".
الهدف الأساسي، الذي كان على مو بيرغ تحقيقه في هذه المهمة، أن يقابل أفضل الفيزيائيين الإيطاليين لمعرفة ما إذا كانوا يعرفون أي شيء عن البرنامج الألماني للقنابل الذرية.
في العام 1944، سافر بيرغ إلى إيطاليا والتقى بالفيزيائيين إدواردو أمالدي وجيان كارلو ويك، وقد اكتشف بعد لقائهما أنهما لم يعملا على أي بحثٍ عن القنابل الذرية للألمان، وأنهما لو كانا يعملان حقاً على صنع قنبلة ذرية، لاستغرق الأمر 10 سنوات على الأقل.
خلال ذلك الصيف، واصل مو بيرغ لقاءاته مع علماء إيطاليين، ولكنه لم يحصل سوى على معلومات قليلة حول البرنامج النووي الألماني.
وفي ديسمبر/كانون الأول 1944، علم مكتب الخدمات الاستراتيجية الأمريكي أن الفيزيائي الألماني الشهير فيرنر هايزنبرغ -الحائز على جائزة نوبل في الفيزياء- سيغادر ألمانيا باتجاه مدينة زيورخ السويسرية لإلقاء محاضرة.
فطلب من بيرغ التواجد في المحاضرة والتواصل مع هايزنبرغ، الذي كان الأمريكيون يشكّون في أنه يُشرف شخصياً على مشروع صنع القنبلة الذرية لصالح زعيم ألمانيا النازية أدولف هتلر.
مكتب الخدمات الاستراتيجية الأمريكي أبلغ مو بيرغ بأنه مُطالَب بإطلاق النار على هاينزبرغ، وداخل قاعة المحاضرات إذا لزم الأمر.
وقد أكد الموقع الأمريكي The National Museum Of Nuclear أن بيرغ حضر المحاضرة، التي جرت يوم 18 ديسمبر/كانون الأول 1944، وجلس بهدوء في القاعة، ومعه مسدس داخل جيبه، وسط حضورٍ خجول من الأساتذة وطلاب الدراسات العليا.
لكن هايزنبرغ لم يكشف عن أي شيء يخصّ برنامجاً نووياً ألمانياً محتملاً. لم يكتفِ مو بيرغ بالمحاضرة لمعرفة نوايا العالم الفيزيائي الألماني. فقد نجح في مقابلة الشخص الذي استضاف هايزنبرغ في سويسرا، واتفق معه على ترتيب مأدبة عشاء بحضور هايزنبرغ في وقتٍ لاحق من ذلك الأسبوع.
خلال العشاء تأكد بيرغ من عدم وجود أي مؤشر بأن الألمان كانوا يعملون على صنع قنبلة ذرية، ما جعله يعزف عن اغتيال العالم الألماني المُقرّب من النازيين.
جمع معلومات عن البرنامج الذري السوفييتي
عاد بيرغ إلى الولايات المتحدة يوم 25 أبريل/نيسان 1945، ثم استقال في أغسطس/آب من وحدة الخدمات الاستراتيجية، مباشرةً بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.
بعد عودته إلى بلاده وتوقفه عن النشاط الاستخباراتي، تلقى مو بيرغ عدة عروض لتدريب فرقٍ من دوري البيسبول الرئيسي، لكنه رفضها جميعها، في حين لم يرفض العرض الذي قدمته له وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (CIA) في عام 1952.
كانت وكالة الاستخبارات الأمريكية تأسّست رسمياً عام 1947، بعد أن دمجت كل الهيئات الاستخباراتية -المكلفة بالدفاع عن المصالح الأمريكية في الخارج- ومن بينها وحدة الخدمات الاستراتيجية الذي عمل بيرغ معها خلال الحرب العالمية الثانية.
أرادت الـCIA استغلال خبرة مو بيرغ، فوظفته لجمع معلومات عن البرنامج الذري السوفييتي، لكن المجهود الذي بذله في مهمته الجديدة لم يأتِ إلا بمعلومات قليلة. وقد تمّ تكليفه بمهام استخباراتية أخرى، قبل أن يتوقف نهائياً عن العمل ويخصّص بقية حياته لعائلته وأصدقائه.