في 23 من مارس عام 1991 دخلت الجبهة الثورية المتحدة سيراليون في محاولة للانقلاب على حكومة "جوزيف موموه". تلك المحاولة أدخلت البلاد حرباً استمرت لأحد عشر عاماً، وأودت بحياة ما يزيد على 50.000 شخصٍ خلال السنة الأولى فقط من الحرب.
كان أيضاً من تبعات الحرب موجة لجوء وهجرة من مواطني سيراليون لكل بلاد أوروبا،آملين في إنقاذ أنفسهم وعائلاتهم من ويلات الحرب والقتل والفقر، وطامعين في حياة آدمية ومستقبلٍ مشرق.
من ضمن المهاجرين في ذلك الوقت امرأةٌ تُدعى ليلى قررت الهجرة لألمانيا لتجمعها الأقدار مع "ماتياس روديغر" والذي أصبح فيما بعد زوجها، تلك العلاقة استمرت حتى الثالث من شهر مارس/آذار 1993 حينما رُزقا بابنهما "أنطونيو روديغر" في مستشفيات العاصمة برلين.
أنطونيو روديغر وركلة البداية
في حي نيوكولن البرليني المعروف بالمهاجرين المسلمين كما يُعد أحد أخطر وأفقر أحياء العاصمة المليئة بالجريمة والمجرمين، وأحد أكثر الأحياء إثارة للجدل لبدء فقدانه للهوية والملامح الألمانية.
قرر "أنطوني" الابتعاد عن كل ذلك والاقتداء بأخيه الأكبر غير الشقيق "ساهر".
"ساهر" الذي يكبر "أنطونيو روديغر" بثمانية أعوامٍ كان لاعباً لـ"بروسيا دورتموند"، وللمنتخب الألماني للشباب، مما أثار حماس "أنطونيو روديغر" لركل الكرة والبدء في تلك المسيرة من فريق الحي "نيكولن" وهو الحي الذي يعتبره يجري في دمائه بما عاناه فيه وبما اكتسبه منه.
من ثم كانت نقطة الانطلاق مشتركة مع أخيه في نادي الجراد الأصفر "بروسيا دورتموند"، حيث شارك في فريق تحت الـ17 عام، ومن ثم فريق ما تحت 19 عاماً.
لينتقل بعدها إلى شباب نادي "شتوتغارت"، والذي كان خطوته الأكبر للشهرة والنجاح والتألق، حيث لمع بريقه بشكل واضح بعد أدائه مع الفريق في الدوري الألماني ليجذب أنظار روما الإيطالي، ويخرج لأول مرة خارج الحدود الألمانية عام 2015.
في روما كان "أنطونيو روديغر" ركيزة قوية، وأحد أهم اللاعبين رغم هبوط مستوى الفريق، وبعد استمراره معهم لمدة عامين كان الرحيل لنادي "تشيلسي" في وجهة جديدة وخطوةٍ للأمام القرار الذي اتخذه في عام 2017.
لتكون فترة ذهبية فاز فيها بـ5 ألقاب مع تشيلسي، بينها دوري أبطال أوروبا والسوبر الأوروبي وكأس العالم للأندية.
بل انضم لقائمة المنتخب الألماني، وحصل على كأس القارات كأول لقبٍ معهم.
كان "أنطونيو روديغر" له بصمة لن تنسى في البريميرليغ، حينما سجل رقماً قياسياً كأسرع لاعبٍ في المسابقة، حينما سجّل أعلى سرعة ممكنة في مباراة "تشيلسي وبرايتون"؛ حيث وصلت سرعته 36.7 كم في الساعة.
لم يكن كل ذلك كافياً، فبعد انتهاء موسم 22/21 أعلن تشيلسي رحيل مدافعهم "أنطونيو روديغر" قبل أن يعلن مدريد رسمياً بعد حرب مفاوضات مع عدة فرق التوقيع مع المدافع الألماني لأربعة مواسم.
مسيرة بدأها بكل قوة وإصرار وبتأثيرٍ واضحٍ وبصمات وأهدافٍ سجلها في لحظات مهمة قد يكون أهمها أمام نادي "باريس سان جيرمان"، حينما سقط بعدها ملطخاً بدمائه على أرض الملعب.
"أنطونيو روديغر" العنصرية كانت أصعب مهاجم واجهه
أن تحمل اسم أنطونيو الإيطالي وأنت أسمر البشرة في ألمانيا يمكنك التوقع كيف كان الأمر مروعاً.
إلا أن "أنطونيو روديغر" كان له رأي آخر، حيث قال إنه "لم يعرف العنصرية في "شتوتغارت" عندما كان لاعباً هناك منذ عام 2005، وحتى الرحيل إلى إيطاليا لم تكن هناك أي مشكلة. ولكن عندما انتقلت إلى إيطاليا ساءت الأمور".
فكانت بداية العنصرية في كرة القدم هو ما واجهه في الدوري الإيطالي المعروف بعنصريته الشديدة ووقائعه المتكررة.
حدثت الواقعة في مباراة أمام نادي "لازيو" الإيطالي، حيث حاول اللاعب "لوليتش" إهانته والسخرية منه، ووصفه ببائع "الجوارب والأحزمة في شتوتغارت"
الأمر الذي كلف لوليتش إيقافاً لمدة 20 يوماً، لكنه لم يكن كافياً لإزالة الأثر السيئ الذي تركه في قلب "أنطونيو روديغر".
المرة الأخرى حدثت عام 2017، حينما جمعت الأقدار بين روما، فريقه السابق، في ذلك الوقت أمام تشيلسي، لتظهر جماهير روما غضبها من رحيله بهتافات وأصواتٍ تصفه فيها بالقرد لحظة نزوله لأرض الملعب كبديل.
أمرٌ مشابه حدث في ديربي لندن أمام توتنهام عام 2019؛ حيث وجهت جماهير "السبيرز" هتافات عنصرية واضحة، فظهر على اللاعب الغضب داخل الملعب بعد سماعه لها، الأمر الذي دفع إدارة فريق توتنهام للاستنكار والاعتذار عما حدث.
منذ ذلك الحين كانت العنصرية القضية التي هاجمها "أنطونيو روديغر" على الرغم من اعتياده الدفاع داخل الملعب، ولكن في مركزه الجديد كرأس حربة لم يتهاون في استنكار وانتقاد العنصرية والعنصريين في كل فرصة أُتيح له فعل ذلك.
حيث عبر عن ذلك بجملته المشهورة بعد مباراة توتنهام "لديّ شعور بأن الناس يريدونك أن تصمت، ولكن لديّ رسالة واضحة، أنا لن أصمت"، واستطرد "شعرت أنني لم أكن إنساناً، ولكن شعرت أنني حيوانٌ أو قرد".
قضية العنصرية كانت من الصدمات التي تلقاها ابن "شتوتغارت" في أوروبا، وهو ما تحدث عنه أنه ما زال لا يستطيع أن يفهم كيف يمكن لها أن تكون قائمة حتى وقتنا الحالي.
في عدة مقالات ولقاءات صحفية كان دائماً ما تكون تلك القضية الأهم التي لا يتحدث إلا عنها، ويحب التعبير عن رفضها علناً، بل استنكاره للأشخاص الذين لا يملكون الشجاعة الكافية للدفاع عن الشخص الذي يتعرض لذلك؛ حيث وصفهم بأنهم "متواطئون"، وأنه من الواجب معاقبة هؤلاء الأشخاص أيضاً.
كما أنه قبل نهائي دوري أبطال أوروبا كتب على إنستغرام "لكم، أيها الذين عانيتم معي من العنصرية، الذين بكيتم مثلي، أنا في نهائي دوري الأبطال، وإن شاء الله سأقوم برفع كأس البطولة عالياً وسترفعونه معي" ليكتب سطراً جديداً في التغلب على العنصرية داخل ملاعب كرة القدم.
"أنطونيو روديغر" المسلم السيراليوني
عندما بلغ أنطونيو روديغر 15 عاماً أصرّ على زيارة سيراليون مع والده ووالدته بعد انتهاء الحرب الأهلية، وهو ما كان نقطة فارقة لديه في انتمائه لوطنه الأصلي ورغبته في التأثير فيه، وتذكيره بأصوله الإفريقية التي ما زال يعتز بها رغم تمثيله للمنتخب الألماني.
فلم يتردد بعد نجاحاته وتألقه في إطلاق العديد من المشاريع في بلده الأصلي سيراليون.
مؤسسته الخيرية التي تهدف لتحسين حياة المواطنين في قضايا مثل التعليم والبنية التحتية ومكافحة الفقر، بل أيضاً لتوفير بيئة رياضية مناسبة.
بدء عدة مشاريعٍ تهدف إلى تطويرٍ في التعليم يستفيد منها ما يزيد على مليوني طفل، وكان أكبر دليلٍ على ارتباطه ببلده الأم صورته بالعلم السيراليوني في وقت بطولة أمم إفريقيا ودعمه لفريق بلاده.
ابن سيراليون الذي أظهر ديانته الإسلامية في عدة مناسبات، ويتذكر الجميع سجداته بعد تسجيل الأهداف مع المنتخب الألماني أو مع تشيلسي، خصوصاً بعد التتويج بدوري أبطال أوروبا، وزياراته المتكررة لمكة المكرمة بغرض العمرة.
بمسيرةٍ تمتلئ بالإنجازات عبر دولٍ ودورياتٍ وتحدياتٍ مختلفة، وبتاريخٍ يملؤه الفخر ضد العنصرية والكراهية والبغض، سيظل اسم أنطونيو روديغر علامة في أذهان الجميع، خصوصاً أن صاحب الثلاثين عاماً ما زال يقدم مستويات مرتفعة، وما زال له من الإنجازات والألقاب ما سيملأ خزائنه ويسطره ضمن أهم لاعبي كرة القدم عبر التاريخ.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.