في البداية، دعنا نسألك بشكلٍ مباشر وسريع عن اللاعبين البرتغاليين الذين تعرفهم في فرق الصف الأول في الدوريات الخمس الكبرى؟ بالتأكيد تعرف ما لا يقل عن لاعبين أو ثلاثة في هذه الفرق في كل دوري على حدة.
وبالتأكيد أيضاً تلحظ وربما قرأت عن الطفرة التي حققتها مؤخراً الكرة البرتغالية في إنتاج هذا الكم الهائل من المواهب، والتي تتواجد داخل وخارج الدوريات الخمس الكبرى، في فرق المقدمة، وما دونها.
نعلم أن الحديث عن الكرة البرتغالية وما حققته من تقدم في السنوات الأخيرة، قُتلَ بحثاً، لكن لا تقلق، لن نتحدث مجدداً عن طفرة الكرة البرتغالية في العموم، بل سنخوض رحلة داخل ما يُعتقد أنه المصنع الأهم لإنتاج هذه المواهب البرتغالية. والآن هيا بنا.
بنفيكا: تتعلم لتكون الأفضل
"ما نريده لأطفالنا هو الفوز بالكرة الذهبية".
–جواو ميلو مدرب فريق 14 عاماً في أكاديمية بنفيكا.
نعتقد أنه في التصريح المنصرم تكمن القاعدة الذهبية التي بُني عليها أساس المصنع الذي نود الحديث عنه -مصنع بنفيكا للمواهب. داخل أكاديمية بنفيكا للمواهب، تتجلى أحد أهم أسباب الطفرة التي حققتها البرتغال في إنتاج لاعبين أكفاء، على الصعيدين المحلي والدولي.
والسبب في ذلك يشرحه لنا "جواو ميلو"، فيكمل التصريح أعلاه، بأنه في مدينة بنفيكا لم يعد هناك أهم من ملاعب كرة القدم، والأطفال الذين يرغبون في خوض تجربة الانضمام لأكاديمية النادي، لعلَّ الحظ يحالفهم في تحقيق أحلامهم ذات يوم، مثلما حدث مع لاعبين كُثر أمثال: (برناردو سيلفا- وجواو فيلكس- وروبن دياز- وريناتو سانشيز) وغيرهم.
على الجانب الآخر، تفتح الأكاديمية ذراعيها لكل من يريد الانضمام لها، وبمجرد اجتياز الطفل للاختبارات المؤهلة، تضع له الأكاديمية نظاماً صارماً، تحت إشراف مدربين وأكاديميين رياضيين، لتأهيلهم لتمثيل أفضل نادٍ في البرتغال يوماً ما، والأهم من ذلك كما يقول ميلو، أنهم يتعلمون من اليوم الأول كيف يكونون الأفضل؟ كيف يفوزون بالكرة الذهبية؟
يقول بيدرو ماركيز، المدير الفني لفريق شباب بنفيكا، إنهم داخل أروقة الأكاديمية يكونون سعداء عند تحقيق الفئات السنية المختلفة للبطولات المحلية، وعندما يصل هؤلاء الشباب إلى الفريق الأول، لكنه يرى أن السعادة الحقيقية تكون عندما يحقق هؤلاء الشباب طموحاتهم في تمثيل كبرى الأندية الأوروبية، والنجاح معها.
هيكل ضخم
تبدأ الرحلة إلى ملعب نادي بنفيكا -" دا لوز"- من سن الخامسة. يمتلك النادي البرتغالي خمسة مراكز مواهب إقليمية، وهو ما يمكّن النادي من تجنيد اللاعبين في سن مبكرة ومن جميع أنحاء البلاد، وأشهر هذه المراكز هو مركز Viseu.
تنقسم الأكاديمية الرئيسية للنادي إلى قسمين منفصلين، الأول في "لشبونة"، حيث تتدرب الفئات العمرية الأصغر سناً، والثاني في "سيكسال"، وهي موطن لفرق أقل من 14 عاماً وحتى الفريق الأول.
تضم الأكاديمية حالياً، وفقاً لموقع "ذا أثليتك"، أكثر من 500 لاعب، و115 مدرباً تم توظيفهم بعناية؛ حتى يخرج من تحت أيديهم لاعبو الصفوة في البرتغال وخارجها. كما يُوجد 90 موظفاً آخر، متخصصون في كل شيء؛ من الرعاية والتغذية، إلى الطب وعلم النفس.
وفقاً للإحصائيات فإن تكلفة تشغيل الأكاديمية سنوياً يُقدر ب (10-12) مليون يورو، لكن هذه الأموال لا تُنفق هباءً، حيث إنه يتواجد في الفريق الأول حالياً ثلاثة لاعبين من الأكاديمية، وهم (غونكالو راموس- وأنطونيو سيلفا- وفلورنتينو لويس) والتي تُقدر قيمتهم بأكثر من عشرة أضعاف هذا المبلغ، ناهيك عن المبالغ الضخمة التي يتم تحقيقها من خلال بيع اللاعبين المحليين.
نظام صارم
ما يميز مشروع بنفيكا، أنه يُعد مشروعاً حقيقياً طويل الأمد، فلا يذهب النادي للخيار السهل في اختيار لاعبين في سن 16 أو 17 عاماً، وبيعهم بعد عام أو اثنين، وإنما تتمثل طريقتهم في جلب اللاعبين في أعمار مبكرة، والعمل على خلق رابط عاطفي بينهم وبين النادي.
تبدأ هذه العملية المعقدة في أحد المراكز الإقليمية الخمسة التي يمتلكها النادي. على سبيل المثال، جونكالو راموس وأنطونيو سيلفا اللذان ذكرناهما بالأعلى، باعتبارهما أكثر لاعبي الفريق طلباً من الأندية الكبرى الآن، بدأ كلاهما الرحلة بأحد مراكز المواهب تلك، أنطونيو في الشمال، وغونكالو في فارو. ويوضح ذلك الوقت الذي قضاه هؤلاء اللاعبون داخل النادي، والوقت الذي تستغرقه العملية حتى تؤتي ثمارها.
عائلة واحدة
يهتم النادي بكافة التفاصيل الدقيقة باللاعبين، مثل اختيار زملاء الغرفة، فكل لاعب يشاركه لاعب آخر على الأقل، ويبذل فريق الدعم كل ما في وسعهم لجعل التجربة طبيعية قدر الإمكان، وكأن هؤلاء اللاعبين في منازلهم.
يقول ماركيز، الذي عمل سابقاً كمحلل أداء الفريق الأول لمانشستر سيتي، إن
"تطوير اللاعبين فنياً ليس كل شيء حتى تنجح هذه التجربة، ولكن كيفية إدارة التحديات التي يواجهها كل لاعب على حدة، لا يمكنك القيام بذلك إلا إذا كنت قريباً من الأولاد، كعائلاتهم".
يتحدث ماركيز عن الاهتمام بتطوير شخصية هؤلاء اللاعبين بالتوازي مع تطويرهم فنياً، ويضرب لنا عدة أمثلة، مثل أنطونيو سيلفا أحد أنجح لاعبي الأكاديمية حالياً، حيث كان التحدي الذي واجهه بعيداً عن فنيات كرة القدم، كانت المعضلة في تكيفه على الأجواء في بنفيكا، فلم يستطع التأقلم مع الفريق وأجواء الأكاديمية في البداية، فاتفق النادي مع أسرته على أن يعود إليهم، مع توفير نادٍ يمكنه التدرب فيه تحت أعين مدربي الأكاديمية، ثم عاد في السنة التي تلتها وكان أكثر جاهزية.
كان التطور الطبيعي لسيلفا هو اللعب مع فريق بنفيكا تحت 23 عاماً أو فريق B، الذي يتنافس في دوري الدرجة الثانية، لكن بدلاً من ذلك، شارك سيلفا مباشرةً مع الفريق الأول بعد أن فتح روجر شميدت، مدرب الفريق الأول، الباب أمام مجموعة من لاعبي الأكاديمية خلال فترة ما قبل الموسم.
يقول ماركيز: "علمنا وشعرنا بقوة أن أنطونيو من البداية، وما يمكنه تحقيقه في المستقبل، لذلك ساعدناه على تخطي مشكلته الشخصية، كل اللاعبين هنا يمتلكون نفس الفرصة، إذا ما كانوا مؤهلين لذلك".
فلسفة مغايرة لركن الأتوبيس
لعقود عُرف عن المدربين البرتغاليين أنهم يمتلكون فلسفة خاصة في اللعب، تنطلق هذه الفلسفة من حول الدفاع وأهميته، ومن ثمَّ تأتي البقية، والأمثلة على ذلك كثيرة، جوزيه مورينيو، وفرناندو سانتوس، وغيرهم من عشرات المدربين الذين ينتهجون نفس هذه الفلسفة، لكن في بنفيكا أصبح الوضع مغايراً.
يقول فيليب كويلو، مدرب بنفيكا لأقل من 19 عاماً، عن فلسفة لعب بنفيكا في الأكاديمية، وهو موضوع مؤهل جيداً للحديث عنه بعد العمل للنادي لمدة 16 عاماً وتدريب كل فئة عمرية من أقل من 12 عاماً إلى أقل من 19 عاماً:
"تتأصل فلسفة بنفيكا في الرسم الخططي 4-3-3، وهو الرسم الذي يمثل نقطة انطلاق بنفيكا في كرة القدم، لكن بشكل حاسم، يتمتع اللاعبون بحرية التعبير عن أنفسهم. أعتقد أنه من المهم أن تكون لدينا المبادئ التوجيهية التي نعلمها لهم. لكن من المهم عدم المبالغة في التدريب أو الإضرار بالموهبة".
يرى كويلو أن مسار وشكل المباراة يحدده المدرب، لكن في النهاية يتم بناؤه عن طريق اللاعبين أنفسهم، ويعتقد أن الفكرة تكمن في تقديم كرة قدم جميلة تمتع المشاهدين في المدرجات وأمام شاشات التلفاز، وهو عكس ما سماه "نهج جوزيه مورينيو".
يتذكر كويلو حادثة حصلت عندما كان مدرباً لفريق أقل من 12 عاماً، وكان قد أعد تمريناً جديداً لاختبار خروج اللاعبين بالكرة، واعتقد أن اللاعبين سيحتاجون من خمس إلى ست دقائق لابتكار حل، لكن برناردو سيلفا نجم مانشستر سيتي حالياً، والذي كان في الفريق حينها، ابتكر عشرة حلول في غضون ثوانٍ قليلة جداً، وهو ما جعله يعيد طريقة تفكيره ليس حول هذا الموقف فحسب، وإنما حول اللعبة بأكملها.
يؤكد كويلو أن حرية اللاعبين داخل وخارج الملعب هي أهم ما يميز أكاديمية بنفيكا، ولكن بشرط أن تكون هذه الحرية داخل الإطار الذي يحدده المسؤولون سواء فنياً أو إدارياً.
نهايةً، يبدو أننا أمام ما نستطيع تسميته الطفرة الجديدة للكرة البرتغالية، فمع كل هذه المواهب ظلت الكرة البرتغالية لعقود حبيسة لفلسفة لعب واحدة، أضاعت علينا التمتع بكم هائل من المواهب الجبارة، لكن مع الخطوات التي يأخذها نموذج بنفيكا نحو الأمام، خاصةً مع نجاح الفريق الأول في الوصول لربع نهائي دوري أبطال أوروبا هذا الموسم، يبدو أننا سنشهد طفرة حديثة للكرة البرتغالية في القريب العاجل.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.