لأسباب يطول شرحها، وحسب الموقع الرسمي لنادي برشلونة، فإن بويان كريكيتش، ورغم أنه وصل نادي برشلونة في التاسعة من عمره، فإنه سجل ما يقارب 900 هدف مع الفئات السنية المختلفة لنادي برشلونة.
كل شيء كان يوحي بأن موهبة بويان كريكيتش ستعود بنفع كبير على ناديه برشلونة، وعليه هو نفسه، وبمجرد أن يظهر لأول مرة مع الفريق الأول سيختفي أي شخص يُقارن به من ضخامة موهبته، وسيحجز مقعداً أساسياً في الفريق الأول من مباراته الأولى.
أول ظهور لبويان بقميص برشلونة كان في عمر 17 سنة و19 يوماً، كسر حينها الرقم القياسي في الظهور المُسجل باسم زميله ليونيل ميسي، وأصبح أصغر لاعب في تاريخ برشلونة تمثيلاً للفريق.
كانت التكهنات منتشرة حوله بأنه "ميسي القادم"، رغم أن صلته بميسي تمتد إلى قرابة بعيدة، في كتالونيا، بالتحديد سنة 1846، تزوج ماريانو بيريز ميراليس من السيدة تريزا لوبيرا مونجيت.
أنجبا أطفالاً، كان من ضمنهم رامون بيريز وجونسال بيريز، من ناحية رامون بيريز، ابنه جوسيب بيريز، سافر صوب الأرجنتين، وهناك تزوج وأنجب ابنة سمّاها روزا ماريا بيريز.
روزا تزوجت من رجل اسمه أوزيبيو ميسي، وأنجبا خورخي ميسي، وهو والد ليونيل ميسي.
من ناحية جونسال بيريز، ابنه خاومي بيريز، أنجب طفلاً هو سالفادور بيريز، بدوره أنجب سالفادور ابنة سمّاها لويزا بيريز، وهي أم بويان.
شاءت الأقدار أن يلتقي هذا النسل، رغم تباعده، يتقابل أحفاده في الفترة من 2008-2011 في برشلونة، كلاعب اسمه ليونيل ميسي، والآخر اسمه بويان كركيتش، حيث إن جد ميسي الأكبر، وجد بويان الأكبر، كانا شقيقين.
"ميسي القادم" كان اللقب الذي صاحب بويان منذ تسليط الأضواء عليه في فريق الشباب، ولم يكن يعرف بويان أن اللقب سيجلب عليه لعنات لم يُردها، وسيضعه تحت ضغوطات لم يتوقعها.
كان بويان كريكيتش يلعب ويستمتع، يُقدم مباريات رائعة في فريق برشلونة للشباب والمنتخب الإسباني للشباب، حتى أتت بطولة يورو تحت 17 سنة، التي فازت بها إسبانيا، وكان بويان هو قائد تلك الملحمة.
لم يعد وجه بويان كريكيتش غريباً منذ تلك اللحظة المجيدة، التي تحولت إلى ضريبة يدفعها حتى وإن لم يرغب في ذلك، وصُوبت ناحيته عدسات الكاميرات، واتجهت نحوه أبواق الصحافة، وأصبح نجماً حقيقياً كما تمنى منذ صغره، لكن جسده وأفكاره كانت أقل بكثير من كل هذا الضغط.
بعد أن مثل برشلونة في سنه الصغيرة، تم استدعاؤه للمنتخب الإسباني الأول لخوض وديات ما قبل بطولة يورو 2008، تحديداً تلك المباراة الودية التي جمعت المنتخب الإسباني بنظيره الفرنسي.
شعر، ولأول مرة في حياته، قبل مباراة قد تكون مهمة رغم كونها ودية، أن قلبه لا يرحمه، يدق بسرعة جنونية، وقدمه لا تحمله، يشعر بأن جسده متوتر بطريقة لم تحدث من قبل، مع شعور غريب بالقيء والغثيان ودوخة شديدة وفقدان الوعي.
في البداية، وبحكم أنها تحدث له لأول مرة، ظن بويان أنها حالة عادية ستذهب إلى حال سبيلها حينما يقاومها، لكن فيما تبقى من وديات زادت الحالة، وأدرك بويان أنه لن يستطيع تحمل ما يحدث.
الفرصة التي يحلم بها أي لاعب شاب في إسبانيا، تأتي على طبق من ذهب، أو لنقُل تأتي بعد اجتهاده للوصول إليها؛ لويس أراجونيس يستدعي بويان لقائمة إسبانيا النهائية ليورو 2008.
لكن المفاجأة أن بويان لا يرغب في المشاركة ويعتذر، ويرفض الفرصة ويمنحها كهدية لشخص آخر سيستغلها أفضل استغلال، وفي الجهاز الفني للمنتخب الإسباني لم يفهم أحد ما يفعله هذا الشاب من جنون!
في اليوم التالي لاعتذاره عن خوض غمار هذه المهمة الصعبة على قلبه، نشرت الصحافة أخبارها التي تؤكد بأن بويان لا يتحمل المسؤولية، ولم يُلبِّ نداء المنتخب حينما استدعاه، دون الإفصاح عن أية تفاصيل أو التركيز على طبيعة حالته.
وكانت مباراة فرنسا الودية هي المباراة الوحيدة التي مثل بها منتخب إسبانيا في تاريخه كله.
لم يعد بويان مصاباً بحالته الحديثة عليه فقط، بل أصابته أيضاً سهام الصحافة وأفكار الجهاز الفني، وأن لا أحد يفهم ما يمر به ويُدرك لماذا انعزل فجأة دون سابق إنذار!
ولم تدُم أيضاً رحلته الجميلة مع برشلونة؛ إذ خرج في عمر العشرين من الفريق صوب رحلة جديدة، بالتأكيد كانت أقل، لكنها أرحم من تلك التي تُمارس فيها كل الضغوطات التي يرفضها جسده.
"خليفة ميسي" كافية لتدميرك
كانت رغبة بويان أن يكون بويان، لا أن يكون ميسي ولا حتى أن يكون خليفته، خاصة أن ميسي يكبره بثلاث سنوات فقط، وقال: "أنا أعرف نفسي، أنا بويان، بويان كريكيتش، ولست ليونيل أندريس ميسي، ميسي يُسجل هاتريك في كل مباراة ويصنع في نفس المباراة، لكنني سأكتفي بما أقدمه، لا تطلبوا مني أكثر مما أقدم، لأنكم تريدون رؤية رجل آخر بمسمى تحبونه!".
من برشلونة إلى روما، ومن روما إلى ميلان، ومن ميلان إلى أياكس، ومن أياكس إلى ستوك سيتي، ثم ينتهي به الحال في كندا ثم اليابان.
بسبب ما حدث له في مباراة فرنسا الودية لم يستطع بويان أن يُمثل دولة أخرى، هي صربيا، بلد والده؛ لأن الاتحاد الأوروبي لكرة القدم رفض فكرة أن يُمثل بلدين مختلفين.
وتحولت النعمة التي حسده الناس عليها إلى كابوس يطارده طوال حياته، يكفي أن تعرف أن مسيرته حالياً قد انتهت إكلينيكياً؛ إذ تخلى عنه ناديه الياباني فيسيل كوبي في مطلع عام 2023 الحالي، وأصبح بويان بلا ناد فعلياً.
الرجل الذي أسهم في سداسية برشلونة التاريخية عام 2009، تحول بعد كل هذا العُمر إلى مجرد عاطل لا يستطيع أن يلمس الكرة، لأنه بلا نادٍ ولا مؤسسة يتبعها.
الرجل الذي قالوا إنه سيقود أجيال إسبانيا التاريخية إلى تكرار ما فعلته في مونديال جنوب إفريقيا، ويورو 2008 و2012، لم يلعب إلا مباراة ودية وحيدة بقميص المنتخب، ولم يستطع التجرد من ماضيه أيضاً، فلا هو مثّل بلده الذي وُلد فيه، ولا هو استطاع أن ينتمي لنفس البلد الذي أنجب والده.
وظلَّ بويان هكذا سجينَ أفكار وتطلعات الجماهير بأنه "خليفة ميسي"، وسجين أفكاره التي تُخبره بأن عليه الهرب كلما واجهه تحدياً جديداً، وسجين البلد، وسجين الضغط النفسي الذي لم يستطع أبداً أن يهزمه، باختصار هو سجين كل شيء حوله، حتى نفسه…
وفي سن الـ32 أعلن بويان كريكيتش اعتزاله لعب كرة القدم نهائياً، لتتحول قصته التي كان من المفترض أن تُصبح قصة تُناطح قصة ميسي، وأن يُصبح أسطورة لنادي برشلونة، إلى شخص مُتخبط كُتب عليه أن يبقى مُشرداً بين كل المناطق التي حط الرحال بها.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.