"أن تكون إنجليزياً؛ فهذا يعني أنك قد فُزت بأول جائزة من يانصيب الحياة.. والباقي أمره سهل!"
الإنجليز، دوناً عن غيرهم من باقي الشعوب، يعرفون جيداً ما هو الفارق بين أن تولد في حدود إنجلترا وبين أن تكون لك جذور خارجها، وعلى عكس ما تحاول وسائل الإعلام الإنجليزية ترسيخه؛ فإن الحقيقة تنكشف في وقت مُناسب دائماً، خاصة لمن يختلف لونه عن اللون الإنجليزي التقليدي.
المهم.. في نيجيريا، وبعد أن وجد أدينيكي ساكا نفسه محاصراً بالظروف المعيشية الصعبة والحاجة المُلحة للهرب إلى مساحة جغرافية أفضل، حاله كحال معظم سكان نيجيريا، كانت إنجلترا هي تلك المساحة التي حلم بها.
هناك، وُلد بوكايو ساكا، بصبغة نيجيرية كاملة، من حيث الاسم واللون وحتى الجذور، و"بوكايو" هي كلمة تعود إلى اللغة اليوروبية المستخدمة في جنوب نيجيريا؛ والتي تعني "يضيف شيئاً إلى السعادة".
في لندن تحديداً، كانت أكاديمية أرسنال تفتح ذراعيها لاستقبال الطفل الصغير، الذي كان يبلغ من العمر حوالي ست سنوات ليس إلا، وسار فيها سير الحالم بأن يقف يوماً ما بجوار صورة تيري هنري أو دينيس بيرجكامب ويلتقط صورة معهما على أقل تقدير.
حياة وأحلام عادية، يحق لأي إنسان أن يحلم بهما، وهو ما تحقق له في عام 2018، بعد التدرج في الفئات السنية في صفوف أرسنال؛ وجد بوكايو نفسه في صفوف الفريق الأول لأرسنال وبات أساسياً أيضاً.
وتتبدل مراكزه، تارةً ظهيراً وتارة أخرى كجناح، وفي كل المرات التي يُشارك بها يتألق مع المنتخب الإنجليزي في فئاته السنية المختلفة ويقدم مردوداً يؤكد أنه سيكون نجم أرسنال والمنتخب الإنجليزي مستقبلاً.
واستدعاه جاريث ساوثجيت، مدرب المنتخب الإنجليزي، لخوض غمار أهم بطولتين تخوضهما إنجلترا في عامي 2021 و2022 على التوالي؛ يورو 2020، وكأس العالم 2022 في قطر.
بوكايو ساكا مات واقفاً!
لحُسن حظ ساكا- وسوء حظه أيضاً- كان ويمبلي هو من يحتضن المباراة النهائية من هذه النسخة لليورو؛ يعني أن إنجلترا على أعتاب حلم تاريخي لم يتحقق لها أبداً، وستتمكن من ملامسته تحديداً في أرضها!
إنجلترا التي لم تفز أبداً، طوال تاريخها الطويل، بأية مسابقة كبرى لكرة القدم، اللهم إلا كأس العالم المشبوه في 1966 حين تداعت عليهم الاتهامات بأنهم سرقوا الكأس؛ وضعت آمالها بالكامل على ساكا وكل من يرتدي قميصها في هذه النسخة بالذات.
وتقدمت إنجلترا خطوات ثابتة نحو ما أرادت، ووصلت إلى أنها استطاعت أن تهزم عُقدتها ألمانيا وتقصيها من ويمبلي، وكل خطوة تزيد من اتساع الحلم ومن تدفق الأمل.
وهنا كانت إيطاليا، وفي ويمبلي، وركلات الترجيح التي تخشاها إنجلترا منذ أن عرفت كيف تُلعب كرة القدم، وعلى الخط، كان جاريث ساوثجيت يدفع بجيدون سانشو وماركوس راشفورد لترجيح كفة إنجلترا، وأهدر كل واحد منهما ركلته، ويأتي دور بوكايو ساكا، اللحظة الأخيرة التي تُحدد كل شيء.
لم يعرف بوكايو كيف سدد الكرة، وكيف رآها تتحرك بالعرض البطيء لتستقر في يد حارس منتخب إيطاليا دوناروما، وكيف كانت أوجه الناس خلف المرمى حينها، وكيف احتفلت إيطاليا في قلب إنجلترا وكيف سكتت إنجلترا كلها بسبب تلك اللحظة.
ظل يبكي طوال الليل، أمام عدسات الكاميرات وبعيداً عنها، ولم يكن يعرف أن ما حدث في ويمبلي غادره إلى ما هو خارجه…
بوكايو ساكا.. أن تكون إنجليزياً فهذا يعني أنك لست أسود
ربما يتعرض ذوو البشرة السمراء أحياناً للعنصرية حتى في بلدانهم، لكن في أوروبا فإن غطاء العنصرية ينكشف إذا ما فعل أحدهم شيئاً يُجرّده من رداء الوطن.
لم يتخيل ساكا أن ينتهي به الحال غريباً في بلده الذي وُلد به، وشعر، للمرة الأولى، أن ما سدده في ويمبلي تراكم عليه في مواقع التواصل الاجتماعي: إهانات، شتائم، عنصرية، حملات ممنهجة لتدمير نفسيته! لدرجة أن وصل بهم الحال لوصفه بالقرد!
هناك دراسات كثيرة تؤكد أن ساكا هو واحد من أبرز اللاعبين الذين تعرضوا للعنصرية منذ ظهورهم الرسمي مع فريقهم، والأمر جعله يتحدث علانيةً قائلاً: "لن أدع مثل هذه الأمور تكسرني".
كانت هذه اللحظة هي ما جعلت ساكا يُدرك أنه ليس إنجليزياً 100%، وأن نيجيريا هي جزء لا يتأصل من ثقافته.
لم ينس بوكايو أبداً جذوره التي يستمدها من والديه، وفي نيجيريا وقع عقد شراكة مع المنظمات العلاجية هناك للقيام بعمليات جراحية في الفتق وأورام المخ لبعض المناطق الفقيرة لعلاج الأطفال تحديداً الذين لم يجدوا وسيلة للعلاج بسبب الفقر الشديد!
بوكايو ساكا.. قائد حلم أرسنال للتتويج بالدوري الإنجليزي الممتاز
بعد ما حدث في اليورو، دعمه زملاؤه في صفوف أرسنال والمنتخب الإنجليزي، خاصة أن ساكا قد نال النصيب الأكبر من العنصرية فوق زميليه: جيدون سانشو وماركوس راشفورد.
من الصعب على أي إنسان حينها أن يتعافى بسهولة من مثل هذه الأمور، خاصة إذا شعر بالغربة في وطنه!
لكن ساكا، هو أحد أولئك الذين لم يتركوا المنشفة أبداً، لم يستسلم لما حدث ولم يتركه يأخذ ما منحه الله له من موهبة ومن سلوك، وبدأ من جديد بأحلام جديدة كأنه يلعب الكرة لأول مرة في حياته.
ومعه، تحول أرسنال، الذي ينافس عادةً على المركز الرابع ويحافظ عليه ويعتبره ملكاً له، إلى الفريق الذي يحلم بالظفر بالدوري الإنجليزي بعد إنجازه التاريخي عام 2004 بالتتويج بالدرع الذهبي للدوري.
ساكا، ورغم صغر سنه وما تعرض له، إلا أنك تشعر أنه يلعب بطموح يفوق سنه، يلعب كأنه أفضل لاعب في الميدان ويؤمن بذلك فعلاً.
ومن الأرقام التي تُوضح دوره بالنسبة لأرسنال، هي مساهماته الكبيرة التي قدمها لأرسنال هذا الموسم تحديداً للمنافسة: حيث سجل 10 أهداف وصنع 9، ويحل ثالثاً في قائمة أفضل المساهمين في الدوري الإنجليزي الممتاز بعد إيرلينغ هالاند وهاري كين، بل ويقترب بشدة من هاري كين.
ساكا هو أبسط مثال على المحاولة مهما عادته الظروف، بعد يورو 2020 ظن الجميع أن ساكا سيتأثر كثيراً بما حدث له في ويمبلي، لكنه في مختلف الملاعب الإنجليزية حالياً يترك بصمة واضحة، مفادها أن أرسنال يمتلك رجلاً، رغم صغر سنه، يمكنه أن يُحقق أحلام الشعب الأحمر في لندن، مهما بدا الأمر صعباً!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.