كان فيرينتس بوشكاش بلا شك أحد أفضل لاعبي كرة القدم في كل العصور، فعدا عن أنه كان الهداف الأول لمنتخب المجر القوي في خمسينيات القرن الماضي، فإنّ مسيرته الكروية كان وراءها قصة ملهمة إلى حد بعيد، تخللها اليأس والبطالة وإدمان الكحول والمخدرات.
من هو اللاعب بوشكاش؟
وُلد فيرينتس بوشكاش في 1 أبريل/نيسان 1927، في العاصمة المجرية، بودابست، ولكنه كان يحمل لقب "بيرشيلد"، لأنّ والده ذا الأصول الألمانية، لم يغير لقب العائلة إلى "بوشكاش" حتى عام 1937، وفقاً لما ذكره موقع Nemzeti Sport المجري.
تعلق بوشكاش بحب رياضة كرة القدم منذ نعومة أظافره، إذ كانت نافذة غرفته في المنزل تطل على ملعب نادي "كيسباتش"، ولذلك قضى طفولته البسيطة وهو يشاهد اللاعبين وهم يتقاذفون ويراوغون بالكرة، فكان من الطبيعي أن يقضي جُلّ سنوات صغره في لعب الكرة مع أقرانه بالحي الذي يقطن به، قبل أن تطأ قدماه الملعب الرياضي الحقيقي.
زَوّر هويته ليلعب مع فتيان يكبرونه سِنّاً
في تلك الفترة من ثلاثينيات القرن الماضي، لم تكن للأندية في المجر، أو كما يطلق عليها أيضاً "هنغاريا"، فرق خاصة بالفئات الصغرى، وكان بوشكاش يبلغ من العمر حينها 16 عاماً، لذلك لجأ إلى استعمال هوية مُزورة تحت اسم " ميكلوس كوفاكش" للانضمام إلى نادي "Kispest Athletic Club" الذي يلعب في دوري الدرجة الأولى المجري، وهو نادي الحي ذاته الذي نشأ فيه بوشكاش، قبل أن يُصحح وضعه القانوني فيما بعد، وفقاً لما ذكره موقع Football-the-story.
بوشكاش ترك بصمة واضحة في نادي "كيسباتش" الذي حمل حتى عام 1956، مسجلاً له 357 هدفاً في 354 مباراة رسمية، مع العلم أنّ هذا النادي قد غير اسمه إلى "بودابيست هونفيد" في سنة 1949، بعدما أصبح تابعاً لوزارة الدفاع المجرية.
انضمامه للمنتخب وقيادته لتحقيق ذهبية أولمبياد هلسنكي
تلقى بوشكاش دعوته الأولى للمشاركة مع منتخب المجر، مباشرة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، في صيف 1945، فخاض مباراته الدولية الأولى أمام منتخب النمسا التي انتهت بفوز المجر (2-0).
وكانت تلك المباراة ودية، على غرار باقي كل اللقاءات التي خاضها منتخب المجر بعد نهاية الحرب العالمية إلى سنة 1952، بحيث لم يكن النظام الشيوعي للبلاد يريد في تلك الفترة المشاركة في المسابقات الدولية الرسمية.
ولكن، وبعد تعيين غوستاف سيبيس، في العام 1949 على رأس الجهاز الفني للمنتخب، وبعد الأداء الرائع الذي كان يقدمه الفريق في المباريات الودية، نجح في إقناع مسؤولي البلاد بأهمية المشاركة في دورة الألعاب الأولمبية لسنة 1952، التي أُقيمت بالعاصمة الفنلندية هلسنكي، بحجة تحسين صورة الدولة الاشتراكية وانفتاحها على العالم الخارجي.
وبالفعل، فقد ساهم منتخب المجر لكرة القدم في إبهار العالم الرياضي خلال أولمبياد هلسنكي 1952، عندما تُوّج بالميدالية الذهبية، بعد فوزه في اللقاء النهائي على نظيره اليوغسلافي، بهدفين نظيفين من توقيع بوشكاش وزولتان تشيبور.
فتح التتويج الأولمبي شهية منتخب المجر ومسؤوليه الرياضيين والسياسيين، الذين قرروا المشاركة في نسخة كأس العالم لكرة القدم لسنة 1954، فتأهل الفريق إلى الدورة النهائية التي جرت في سويسرا، دون خوض أي لقاءٍ في التصفيات الأوروبية بسبب انسحاب منافسه منتخب بولندا.
وكان منتخب المجر، الذي كان يُسمى في تلك الفترة، "المنتخب الذهبي"، قد خاض العديد من المباريات استعداداً للمشاركة في مونديال سويسرا 1954، وفاز بها جميعها.
ولعلّ أبرزها تلك التي واجه فيها مستضيفه الإنجليزي يوم 25 نوفمبر/تشرين الثاني 1953، بملعب "ويمبلي" الأسطوري بلندن، وانتصر فيها بنتيجة 6 أهداف لـ3.
وكانت هزيمة المنتخب الإنجليزي في تلك المباراة بمثابة وصمة عارٍ بالنسبة إلى الجماهير والصحافة، لا سيما أنها وقعت في ملعبٍ لم يسبق لمنتخب "الأسود الثلاثة" أن تعرّض فيه لأي خسارةٍ أمام منتخب غير بريطاني (أي اسكتلندا، وويلز، وأيرلندا)، ما تطلب إجراء "مباراة ثأر"، جرت في بودابست يوم 23 مايو/أيار 1954، أي قبل 3 أسابيع فقط من نهائيات كأس العالم في سويسرا، وانتهت أيضاً بفوز المجر بنتيجة ثقيلة (7-1).
حصد جائزة أفضل لاعب في مونديال سويسرا رغم إصابته
دخل منتخب المجر الذهبي نهائيات مونديال سويسرا 1954 في ثوب المُرشح الأول لحصد اللقب، وكان يسير بخطى ثابتة نحو تحقيق حلم جماهيره.
فقد فاز في الدور الأول على منتخبَي كوريا الجنوبية (9-0) وألمانيا الغربية (8-3)، ثم تجاوز عقبة منتخبَي البرازيل (4-2) في ربع النهائي، والأوروغواي (4-2) في نصف النهائي، ليتأهل بجدارة واستحقاق إلى المباراة النهائية لملاقاة منتخب ألمانيا الذي سحقه المجريون في دور المجموعات بنتيجة 8-3.
ولكن آمال المجريين بالتتويج باللقب العالمي تبخرت في النهائي، بعد الخسارة بشكل مفاجئ أمام الألمان بثلاثة أهداف لهدفين -في نهائي عُرف بـ"معجزة بيرن"- رغم أنه كان متقدماً بهدفين نظيفين، بعد 8 دقائق فقط من بداية المواجهة، أحدهما من تسجيل بوشكاش، لتكون المباراة الأولى التي يُهزم فيها، منذ أكثر من 4 سنوات، بعد سلسلة من 32 مباراة من دون خسارة.
وكان منتخب ألمانيا حينها يضم لاعبين من طراز ماكس مورلوك وهيلموت راهن وأوتمار والتر وهانز شايفر.
وعلى الرغم من أنّ بوشكاش لم يسجل سوى 4 أهداف في تلك النسخة، ورغم مشاركته في معظم المباريات وهو يعاني من إصابة في القدم، تعرّض لها خلال لقاء الدور الأول أمام ألمانيا، فإنّ بوشكاش حصد جائزة أفضل لاعب في مونديال سويسرا 1954.
واستمرّ بوشكاش، رفقة منتخب المجر، بالتألق بعد نهاية مونديال سويسرا 1954، وقد باشر سلسلة جديدة من اللقاءات من دون هزيمة، طيلة 18 مباراة، انتهت بتشتّت الفريق لأسبابٍ سياسية.
الانتفاضة الشعبية المجرية في 1956 غيّرت مجرى حياته
في 23 أكتوبر/تشرين الأول 1956، انطلقت الانتفاضة الشعبية المجرية ضدّ النظام الشيوعي للبلاد، والتي استمرت حتى 4 نوفمبر/تشرين الثاني، وانتهت بقمعها من قِبل الجيش المجري بمساعدة الجيش الأحمر السوفييتي.
وعند اندلاع الانتفاضة الشعبية بالمجر، كان بوشكاش موجوداً، رفقة نادي بودابيست هونفيد في مدينة بلباو الإسبانية؛ لخوض مباراة ضمن بطولة أوروبا للأندية.
وقد رفض، شأنه شأن معظم زملائه، العودة إلى البلاد؛ احتجاجاً على قمع النظام العسكري للمتظاهرين المدنيين.
وبطلب من اتحاد الكرة المجري، سطّر الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) عقوبة بحق اللاعبين، وحرمهم من التعاقد مع أندية جديدة لمدة 18 شهراً.
وكان بوشكاش، عند اصدار العقوبة، قد لجأ إلى دولة النمسا المجاورة للمجر، والتي كانت زوجته قد سبقته إليها رفقة ابنتيهما، فأصبح يعيش في مركز للاجئين بدون أي حق في العمل.
وكان يعيل عائلته الصغيرة، بواسطة التحويلات المالية التي كان يرسلها له صديقه، وزميله السابق في المنتخب الوطني، لاديسالو كوبالا، الذي كان قد احترف في نادي برشلونة الإسباني بداية من سنة 1951.
وبسبب ابتعاده عن ميادين كرة القدم، زاد وزن بوشكاش بشكلٍ لافتٍ، كما غرق في دوامة إدمان الكحول والمخدرات، ولم يعد يملك من الشيء الإيجابي سوى ماضيه الكروي المجيد، ولذلك لم يكن أي أحد يؤمن بإمكانية عودته لممارسة رياضته المفضلة، فما بالك باحتراف اللعبة ضمن أقوى الدوريات الأوروبية.
الشخص الوحيد الذي آمن بقدرة بوشكاش على العودة للنشاط الرياضي على أعلى مستوى، هو مواطنه إيميل أوستير ريشر، السكرتير الفني لنادي ريال مدريد الإسباني، الذي ضمه للفريق الملكي في سنة 1958.
وكان إيميل أوستير ريشر يشغل نفس المهمة في نادي بودابيست هونفيد، وقد رفض هو أيضاً العودة إلى المجر في سنة 1956، وفضل البقاء في إسبانيا للعمل مع ريال مدريد.
انضم إلى ريال مدريد في صفقة مفاجأة بعدما أنقص 18 كلغ من وزنه
وبحسب الموقع الرسمي لنادي ريال مدريد، فقد تفاجأت إسبانيا بأكملها بخبر انضمام بوشكاش لفريق ريال مدريد، إذ رأت أنّ لاعباً في سن الـ31 وبوزن زائد عن اللزوم، لا يملك أي مكان ضمن نادٍ كبير بحجم "الميرنغي"، الذي كان يضم في صفوفه في ذلك الوقت عدة نجوم، على غرار الأرجنتيني ألفريدو دي ستيفانو و الفرنسي ريموند كوبا والإسباني فرانشيسكو خينتو.
ولكن سرعان ما نجح بوشكاش في إسكات أصوات منتقديه، فأنقص 18 كغ كاملة من وزنه، في ظرف 6 أسابيع فقط، فأعاد بعث مشواره الرياضي من جديد بأفضل طريقة ممكنة، وأصبح أحد أفضل وأشهر اللاعبين في أوروبا وواحد من أكبر أساطير نادي ريال مدريد.
تميز الموسم الأول لبوشكاش مع ريال مدريد بمساهمته في بلوغ الفريق نهائي بطولة أوروبا للأندية البطلة لكرة القدم لسنة 1959، ولكنه حُرم من خوض المباراة النهائية التي فاز بها الملكي أمام نادي ريمس الفرنسي (2-0)، بمدينة شتوتغارت الألمانية، بسبب رفض حكومة ألمانيا الغربية منحه تأشيرة الدخول لأراضيها بحجة تصريحات سابقة كان قد اتهم فيها لاعبي المنتخب الألماني بتناول المنشطات خلال نهائي مونديال سويسرا 1954.
وكأنّ قضية حرمانه من خوض النهائي الأوروبي لسنة 1959 قد بقيت في ذهن بوشكاش طيلة عامٍ كاملٍ، إذ أخذ ثأره من الألمان، خلال نهائي البطولة ذاتها، الذي جرى في سنة 1960 بمدينة غلاسكو الأسكتلندية أمام نادي إنتراخت فرانكفورت الألماني، حيث سجل النجم المجري 4 أهداف كاملة قاد بها ريال مدريد لتحقيق فوز عريض بنتيجة 7- 3.
واستمر تألق بوشكاش مع ريال مدريد إلى سنة 1966، فنال بقميص "الميرنغي" 5 ألقاب للدوري الإسباني ولقب واحد لكأس إسبانيا و3 ألقاب لبطولة أوروبا للأندية البطلة ولقب واحد لكأس ما بين القارات.
وسجل، خلال مشواره مع الريال، 242 هدفاً في 262 مباراة رسمية، تُوّج بفضلها بجائزة أفضل هداف للدوري الإسباني في سنوات 1960 (26 هدفاً) و1961 (27 هدفاً) و1963 (26 هدفاً) و1964 (20 هدفاً).
لعب مع منتخب إسبانيا ودرب في مصر والسعودية
في سنة 1961 تحصل فيرينتس بوشكاش على الجنسية الإسبانية ، فشارك رفقة منتخب بلده الجديد في نهائيات كأس العالم لكرة القدم، التي جرت في صيف 1962 في تشيلي، ولكن منتخب إسبانيا غادر المنافسة من دور المجموعات، بعد فوز واحد وهزيمتين، ودون أن يسجل النجم السابق للمنتخب المجري أي هدف.
وكان مونديال تشيلي 1962 هو المسابقة الدولية الوحيدة التي شارك فيها بوشكاش بقميص منتخب إسبانيا، بحيث تفرغ بعدها للنشاط ضمن فريق ريال مدريد إلى أن اعتزل رسمياً عند نهاية موسم 1965- 1966، وهو في سن الأربعين.
وبعد اعتزاله اللعب، لم يغادر بوشكاش عالم رياضة كرة القدم، بحيث انتقل للعمل كمدرب، فأشرف على الإدارة الفنية للكثير من الأندية وفي شتى بقاع العالم، بأوروبا وبالأمريكيتين الشمالية والجنوبية وبالشرق الأوسط وبأستراليا، على غرار ريال مورسيا الإسباني وباناثينايكوس اليوناني وروايال فانكوفر الكندي وكولو كولو التشيلي والمصري البورسعيدي المصري وساوث ملبورن الأسترالي، كما درب أيضاً منتخب السعودية من 1976 إلى 1977، و منتخب المجر في العام 1993.
حداد وطني في يوم جنازته.. و"فيفا" أطلق اسمه على جائزة مميزة
لم ينجح بوشكاش في مهمته على رأس الجهاز الفني لمنتخب المجر، بحيث غادر منصبه بعد تعرض الفريق لـ3 هزائم في 4 مباريات، لكن تلك التجربة كانت فرصة مواتية له للعودة للعيش في بلده الأصلي بشكلٍ نهائيٍ.
فقد اعتزل بوشكاش التدريب رسمياً بعد انتهاء مهمته مع منتخب المجر، فاستقر ببودابيست، وعيّنته حكومة بلاده سفيراً للرياضة المجرية في العالم، وظل في هذا المنصب الشرفي إلى أن وافته المنية في ديسمبر/كانون الأول 2006، نتيجة التهاب رئوي، وبعد معاناته من مرض الزهايمر لمدة 6 سنوات.
وقد أعلنت الرئاسة المجرية الحداد الوطني في يوم جنازته التي حضرها جمع غفير من الشعب المجري، إضافة لكبار مسؤولي البلاد، يتقدمهم الرئيس لاسلو شويوم والوزير الأول فيرينتس غورتشاني، فضلاً للعديد من الشخصيات الرياضية العالمية، على غرار رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم لذلك الوقت، جوزيف بلاتر، وأسطورتي الكرة الفرنسية، ميشال بلاتيني، والألمانية، فرانتز بيكانبور.
ويبقى فيرينتس بوشكاش ضمن الذاكرة الجماعية لمحبي الرياضة العالمية، وقد كرمه اتحاد الكرة الدولي (فيفا) بإطلاق اسمه "بوشكاش"، في العام 2009، على الجائزة التي يمنحها سنوياً لصاحب أجمل هدف في العالم.