بيليه وأساطير “الزمن الجميل” في لبنان

عربي بوست
تم النشر: 2023/01/05 الساعة 10:11 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/01/05 الساعة 10:11 بتوقيت غرينتش

إيه ضيعانك يا بيليه ـ كما نقول نحن اللبنانيين ، وضيعان أيامك، أيام الزمن الجميل في لبنان!

كنا نشاهدك بالأسود والأبيض أيام الزمن الجميل، أيام كنا ننعم بالكهرباء وبالنقل المباشر للمونديال على شاشة تلفزيون لبنان. 

أذكر سنة 1958 عندما فزت يا بيليه، في 29 يونيو/حزيران من ذاك العام، لأول مرة بالمونديال، كم كان الزمن جميلاً. 

بيليه

صحيح أنه بعد أيام قليلة، أي في 15 يوليو/تموز، قامت "ثورة" ضد الرئيس كميل شمعون، واندلعت حرب أهلية مصغّرة في لبنان، فانفجر البلد بعد 15 سنة فقط من استقلاله، وشهدنا يومها نزول المارينز الأمريكيين على شاطئ الأوزاعي جنوبي بيروت، لأننا كنا، كالعادة، فريسة لسياسة الأحلاف والاحلاف المضادة في العالم وفي الإقليم، متحيرين بين حلف السنتو- بغداد وحلف عبد الناصر، ولكن كان الزمن جميلاً.

أذكر يا بيليه كيف كنّا، في تلك الأيام، نركب في الترامواي ببضعة قروش، ونشتري سندويش الفلافل بأقل من ذلك، ونشاهد أفلام أودري هيببورن في سينما ريفولي في وسط بيروت.

أذكر أننا كنا نمضي الصيف في مصايف صوفر أو في بحمدون الرائعة، مع الرعايا العرب الذين كانوا ما زالوا يأتون للاستجمام في جبال لبنان. إيه، كان الزمن جميلاً… 

أذكر سنة 1962 عندما فزت يا جوهرة البرازيل لثاني مرة بكأس العالم، كم كان الزمن جميلاً. صحيح أننا كنا ما زلنا في لبنان – كما بقية العالم العربي – تحت صدمة انفصال "الإقليم الشمالي" – أي سوريا – عن مصر، وفشل تجربة الوحدة العربية التذويبية القمعية فشلاً ذريعاً مع الجمهورية العربية المتحدة، ولكن كان الزمن جميلاً. صحيح أنه بعد أسابيع قليلة من فوزك العالمي الثاني، اندلعت حرب اليمن العبثية بين مصر والسعودية، ولكن كان الزمن جميلاً.

كنا نتمشى في سوق النورية في بيروت، وننده للحمال: سلّ! تعا سلّ! فيأتي حاملاً سلّاً كبيراً من القش على ظهره، يضع فيه مشترياتنا، ثم يرافقنا للمنزل، قبل أن يعود لمنزله في إحدى ضواحي البؤس، والفقر، والحرمان، وإهمال دولة وقسم كبير من مجتمع الزمن الجميل. كم كان الزمن جميلاً! 

أذكر سنة 1970 عندما فزت يا بيليه للمرة الثالثة بالمونديال، كم كان الزمن جميلاً. صحيح أننا كنا ما زلنا خارجين من حرب 1967 ومن أكبر هزيمة بتاريخ العرب الحديث، مع خسارة الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية، وغزة، وسينا، والجولان، ولكن كان الزمن جميلاً. 

صحيح أنّ البعث كان وصل للحكم في الجوار، في كل من سوريا والعراق، وكان قد بدأ بإرساء كابوس دولته البوليسية في هاتين الدولتين، ولكن كان الزمن جميلاً.

صحيح أنه بعد أسبوع من فوزك الثالث اندلعت أحداث أيلول الأسود الدامية في الأردن بين الجيش الأردني ومنظمة التحرير الفلسطينية، وبعدها انتقلت منظمة التحرير لإرساء دويلتها في لبنان، الذي كانت دولته تشرعن الامتيازات الدستورية لطوائف على حساب أخرى بذريعة "الضمانات"، ولكن كان الزمن جميلاً. كنا نسهر في مهرجانات بعلبك، ونسبح في بيسين فندق الفينيسيا في قلب بيروت، بعد جلسة طربية على ضفاف بيسين عاليه. كان الزمن جميلاً.

ما أقبح هذا "الزمن الجميل"… 

كلا يا بيليه، أنا لا أذكر شيئاً من كل ذلك، ولا ريب أنّك لاحظت اللهجة التهكمية فيما قد سبق. 

أنا يا بيليه من جيل وُلد بعد سنوات من انتهاء الزمن الجميل، أنا من جيل لم يعرف يوماً هذا الزمن الجميل، أنا من جيل يسمع ليل نهار، منذ أكثر من 40 سنة، عن زمن متخيَّل، عن ميثولوجيا زمن، إذا ما راجعنا الوقائع التاريخية، يتضح أنه، على الأقل، لم يكن في الحقيقة بالجمال والروعة التي يصفونه بها. 

أنا يا بيليه من جيل يدفع، منذ أكثر مما يقارب النصف قرن، ثمن أخطاء الزمن الجميل؛ هذه الأخطاء التي رفض أن يراها عندئذ من ما زالوا يتغنون بها ليل نهار، وهم ما لبثوا يغفلونها، محولين زمنهم لميثولوجيا متخيَّلة غير واقعية يلجأون إليها بدل العمل لتغيير واقعهم. 

"الزمن الجميل"، يا بيليه، أصبح اليوم مجرد صور بالأبيض والأسود للبنان ولعاصمته، نعلقها على جدران غرفنا أينما كنا في العالم، أو ننشرها على وسائل التواصل. 

 "الزمن الجميل"، يا بيليه، أصبح اليوم على هيئة كائنات فضائية، توحي للمشاهد، من كثرة النفخ بالبوتوكس، أنها آتية مباشرة من المريخ، وهي تنشد على شاشات الفضائيات من مسرح دولة خليجية، في حفلة رأس السنة، بكثير من النشاز الغنائي وضياع في الأداء بين الفنانين لا يقدم عليه حتى هواة مبتدئين، زمن لبنان الجميل. 

فنّ الزمن الجميل، يا بيليه، لم يتجدد منذ عقود، ولم يُعِد اختراع نفسه، وقد أصبح فناً لا يخلو من الكثير من الماضوية، ومن اجترار لمخيال زمن ولى، ولن يعود. ولكن يريدون أن يقنعونا، يا بيليه، بأن هذه هي الحضارة، وهذه هي الثقافة، وأنّ هذا هو الانفتاح، وأنّ هذا هو النموذج الذي يحتذى، وعلينا أن نصمت، وعلينا أن نصفّق، لا سيما لمواويل التزلف في مدح الملوك والرؤساء، وعلينا أن ننبهر، وكأننا، يا بيليه، شعوب جاهلة، لم تطلع على أفكار مدرسة فرنكفورت الفلسفية النقدية، لا سيما أدورنو وهوركهايمر في نقدهما لما أسمياه "الصناعة الثقافية" في المجتمع الرأسمالي. لا ريب، إنه زمن التفاهة يا بيليه. 

أعرف يا بيليه أنّ هذا الكلام لن يعجب الكثيرين في لبنان، لأنه يمس بصميم معتقدات راسخة ومرتكزات تاريخيةـ نفسية أصبحت بمصاف المحرمات الثقافية التي لا يجوز التشكيك بصحتها، ولكنها، في الحقيقة، لا تغدو كونها أساطير أصبح من الضروري جداً تفكيكها، لا سيما في بلد ينازع أقله منذ 3 سنوات. 

ألم يقل سيغموند فرويد، يا بيليه، في معرض تحليله لما أسماه "الذكريات الحاجبة" لدى الأطفال، إنها تشبه تماماً ذكريات طفولة الشعوب التي تظهر في الأساطير والميثولوجيا الوطنية؟ ألم يقل مؤسس علم النفس الحديث هذا إنّه عندما تخضع الذكريات التي يحتفظ بها الإنسان للفحص التحليلي، فمن السهل ملاحظة أنه لا يوجد ضمان لدقتها، إذ إنّ الذكريات تكون غالباً مشوهة بشكل لا لبس فيه، أو غير مكتملة، أو خضعت لعملية تغيير في زمانها ومكانها؟ ألم يعتبر أنّ كل هذا يُلزمنا بالاعتراف بأن ما يوجد فيما يسمى بذكريات الطفولة المبكرة ليس بقايا أحداث حقيقية، بل تطوراً لاحقاً لهذه الآثار، والذي يجب أن يكون قد حدث تحت تأثير قوى نفسية مختلفة والتي تدخلت بعد ذلك؟

إنّ الحنين لماض لن يعود هو أمر إنساني طبيعي جداً، يا بيليه، ولكن أسطرة هذا الماضي وتحويله لميثولوجيا يلجأ لها شعب بأكمله بدل العمل على تغيير واقع مأساوي يتأقلم معه، يحوّل الماضي إلى عبء يحول دون بناء الحاضر والمستقبل.

 وهذه هي الحال أيضاً في كثير من جمهوريات يوغوسلافيا السابقة مثلاً، حيث ما زال الكثيرون يمجدون زمن تيتو ويعيشون خيالياً فيه، ويأملون في قرارة أنفسهم عودته، فيصبح هذا الماضي عائقاً أمام الحاضر والمستقبل، يجب التحرر منه. 

إنّ الفكر النقدي أصبح أكثر من ضرورة من أجل تحرير المخيال الجمعي اللبناني من هذه الأساطير يا بيليه، والعيش في الواقع، بدل المراوحة في الأوهام الماضوية من خلال رفد خطاب ميثولوحيا "الزمن الجميل" وأوهامه العذبة التي تساهم في انعدام إرادة اللبنانيين الجماعية لتغيير واقعهم، والاكتفاء بالتحسر والمراوحة في الحاضر. 

لبنان، يا بيليه، الذي أنتج منذ حوالي 40 سنة، أي في بداية ثمانينيات القرن الماضي، في عز الحرب الأهلية العبثية، فكراً نقدياً تجلى في الفنّ (الفنّ لنقد الفنّ)، لا سيما في مسرحية "شي فاشل" لزياد الرحباني، لا بد أن يولد فيه فكر من نفس النوعية من جديد.

 تجرأ زياد الرحباني في هذا العمل، بكثير من الشجاعة، على نقد أساطير "الزمن الجميل" في لبنان، لا سيما على تفكيك الخطاب الفني الذي يغذي هذه الميثولوجيا الوطنية، موجها سهام تهكمه نحو مسرحيات وأغاني والديه وعمه بشكل خاص، سيما أنه قد بان فراغ هذا الخطاب مع اندلاع الحرب الأهلية سنة 1975.

أنت يا بيليه من زمن لم أعرفه في بلدي، من زمن صحيح أنه كان أجمل من زمني، ولكنه زمن حوّل زمني لجحيم، في حين أنّ الكثيرين، ومن ضمنهم حتى أشخاص لم يعرفوه يوماً، ما زالوا يسمونه ـ بأل التعريف ـ الزمن الجميل.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

ساجي سنّو
حقوقي وكاتب سياسي لبناني
حقوقي وكاتب سياسي لبناني مقيم في باريس
تحميل المزيد