في نفس توقيت إطفاء الشعلة الأولمبية إيذاناً بانتهاء دورة ألعاب طوكيو كانت شعلة ميسي التي تنير كتالونيا تطفأ هي الأخرى ويختفي نورها من فوق الكامب نو لتعلن نهاية حقبة زمنية مليئة بالبطولات والإنجازات والتتويجات العظيمة للاعب كرة القدم الأفضل في التاريخ، أمر لم يكن في الحسبان ولم يتوقعه أحد ولم يخطر ببال أي مشجع للفريق الكتالوني أو من المهتمين بكرة القدم.
وقف العالم على أطراف أصابعه وهو يشاهد خوان لابورتا يتحدث ليعلن عن نهاية حلم كل عاشق لبرشلونة منّى نفسه بتجديد تعاقد ميسي وإنهاء مسيرته داخل الفريق مثل كل الأساطير السابقين، ولكن ليس كل ما يتمناه مشجع كرة القدم يدركه، كانت المبررات حاضرة والأسباب جاهزة والشعارات الرنانة مثل "لن أضحي ببرشلونة من أجل لاعب مهما كان من هو" تتلى على مسامع الحاضرين، ولكن هل كان للأمر أبعاد أخرى خفية؟
البداية كانت وعود لابورتا الانتخابية
في بداية حملته الرئاسية للقدوم كرئيس لنادي برشلونة صرح خوان لابورتا مراراً وتكراراً أنه سيقدم عرض تجديد لميسي (لا يمكن رفضه) كما صرح وقال، أكد الرجل على أهمية اللاعب للفريق وعول عليه لبناء المشروع الرياضي الجديد للنادي واستغل صداقته للحصول على تأييد الكثير من أعضاء برشلونة الداعمين لفكرة بقاء ميسي السنوات الباقية من عمره الكروي.
إذاً لابورتا لم يقدم برنامجاً انتخابياً جيداً ولم يعد الناخبين بالكثير وتركزت حملته الانتخابية على أمرين، سمعته الرياضية والإدارية الحسنة حين قاد برشلونة للمجد، وعلاقته الجيدة بليونيل ميسي والتي ستكون هي حجر الأساس في التجديد للاعب وبقائه في الفريق.
كان لابورتا على علم بكل ما مر ببرشلونة من أزمات اقتصادية وقضايا وفساد إداري ورياضي كبير وسوء اختيار لعناصر الفريق الكروي، ومع ذلك وعد الجميع بالتجديد لميسي وببناء فريق كروي تنافسي حوله. يعلم الجميع أن سيئ الذكر ماريا بارتوميو هو المسؤول عما وصلت إليه برشلونة من أزمات، ولكن ألم يكن يعرف لابورتا بكل ذلك؟
بداية الصعوبات في توفير الضمان المالي
بعد نجاح لابورتا ومجلسه بدأت أولى الصعوبات بمحاولة توفير الضمان المالي الذي تشترطه رابطة الدوري الإسباني لاعتماد نجاح أي من مجالس الإدارة المنتخبة وهو يعادل 15% من ميزانية النادي، وهو ما يعادل 125 مليون يورو فشل في توفيرها لابورتا بصورة سريعة ومرت الأيام، وكادت تنتهي المهلة المتاحة لتدبير المبلغ المالي وبالتالي إعادة الانتخابات مرة أخرى، وهو ما كان قد يدخل النادي في دوامة لا نهائية من عدم الاستقرار الإداري، ولكن لابورتا استطاع تدبير المال اللازم بعد عناء، ولكن كان هذا الأمر نذير خطر نحو الصعوبات التي سيواجهها الرجل في تدبير النفقات اللازمة للفريق.
الفرحة في البرازيل والحيرة في كتالونيا
في الوقت الذي عاش فيه ليونيل ميسي فرحة طاغية بإحراز أول لقب له مع منتخب الأرجنتين، وهو لقب كوبا أمريكا، كانت مكاتب الكامب نو تعج بالعمل والبحث المستمر عن توفير النفقات اللازمة للفرق الرياضية، وعلى رأسها فريق كرة القدم الذي تلتهم ميزانيته 90% من إجمالي مدخولات برشلونة السنوية بسبب السياسات العجيبة التي كان ينتهجها الرئيس السابق بارتوميو وشراء ولاء العديد من اللاعبين بعقود مرتفعة أكبر بأضعاف مما تدفعه الأندية الأخرى لضمان تأييدهم له وتغاضيهم عن خطاياه بحق النادي، ذهب ميسي إلى ميامي الأمريكية بصحبة أسرته مع لويس سواريز وفابريجاس وترك لابورتا مع فلورنتينو بيريز.
في تلك الأثناء التي كان ميسي يمارس فيها السباحة على شواطئ ميامي كان بارتوميو يغرق بين أطنان من العقود المستمرة للاعبين انتهت صلاحيتهم الكروية ويتقاضون ما لا يتقاضاه نجوم الصف الأول في الدوري الإنجليزي، لا أحد فيهم وافق على تخفيض أجره باستثناء بيكيه فقط وسيرجيو بوسكتس بنسبة أقل، لاعب مثل أومتيتي رفض الخروج مُعاراً ورفض تخفيض راتبه شأنه شأن العديد من اللاعبين الآخرين، الأمر الذي انعكس بالسلب حتى على صغار اللاعبين مثل إيلاييش موريبا الذي رفض التجديد للفريق إلا بعد رفع عقده أسوة بما يراه من أرقام خزعبلية يتقاضاها من لا يلعبون ولا ينتجون بعد أن وضعها لهم من لا يفقهون شيئاً عن الإدارة.
CVC التي قصمت ظهر البعير
اجتماعات دوري السوبر الأوروبي لا تتوقف بين بيريز ولابورتا وأنيللي، والتصميم واضح على معاداة الاتحاد الأوروبي، ولكن في نفس الوقت يطفو على السطح عرض مقدم من مؤسسة تشتهر بالانتهازية، وهى صندوق الاستثمار الدولي (cvc) الذي له سوابق عدة في رعاية الرياضة والإنفاق عليها.
عرض الشركة كان الحصول على 10% من حقوق الليغا التجارية وحقوق رعايتها لمدة خمسين عاماً مقابل قرض، نصيب برشلونة منه لن يتخطى 300 مليون يورو كان يستطيع بهم أن يسجل ميسي ويدفع له مقدم تعاقده طبقاً لما صرح بيه خافيير تيباس رئيس رابطة الدوري الإسباني صاحب الفكرة والداعم لها، وفي المقابل ستعاني الأندية من سداد القروض لسنوات كثيرة بالإضافة لعدم تحكمها في حقوق الرعاية، ولا البث التلفزيوني، وبالتالي لن تستطيع التحكم في قرارها ولا مصيرها وستصبح دمية في يد الرابطة والصندوق الاستثماري، وقتها سيصبح دوري السوبر مجرد حلم بعيد المنال لا يستطيع النادي تنفيذه؛ لأنه لا يملك قراره المالي والإداري.
في مطار ألبارات برشلونة هبطت ثلاث طائرات هامة:
طائرة أقلت خورخي ميسي والد ليونيل لوضع اللمسات الأخيرة لتوقيع عقد نجله.
وطائرة ليونيل ميسي القادمة من إيبيزا الإسبانية بعد نهاية عطلته قادماً للتوقيع على التحديد لبرشلونة.
والطائرة الأهم كانت تقل فلورنتينو بيريز للاجتماع في أحد أشهر مطاعم الأسماك في برشلونة.
قالت الصحف الإسبانية إن فلورنتينو بيريز رئيس ريال مدريد هو الذي تحكم في قرار خوان لابورتا وطلب منه رفض عرض الليجا، وبالتالي تحمل تبعاته كاملة وأهمها معاداة خافيير تيباس والرابطة، وهذا معناه الدخول في أتون حرب سيكون ضحيتها الوحيدة هو ليونيل ميسي، الأمر هنا أشبه بكفتي ميزان وضع تيباس في إحداهما عرض الليجا cvc المشترك وفي الأخرى ميسي وكان على لابورتا أن يختار أحدهما، إما القبول بعرض الليجا والمغامرة بمستقبل برشلونة لخمسين عاماً مقبلة، أو رفض العرض وبالتالي صعوبة التجديد لميسي والمغامرة أيضاً بمستقبل الفريق بالرجل الذي كان ينقذه لعدة سنوات ولكنها مغامرة بشكل أقل.
لابورتا كان سريع القرار وأطاح بالعرض أرضاً وفجَّر قنبلة كبيرة انتشرت في وسائل الإعلام سريعاً أن برشلونة لا يستطيع تجديد عقد ميسي، وأنه يتمنى التوفيق للاعب في البحث عن نادٍ جديد. أغلب المتابعين اعتقد أن الأمر للضغط على خافيير تيباس للموافقة على رفع السقف المالي لبرشلونة وإنقاذه من المعاناة في تسجيل اللاعبين الجدد، لكن شيئاً فشيئاً اتضح في المؤتمر الصحفي لرئيس النادي الكتالوني في اليوم التالي أن الأمر حقيقي وأن برشلونة لم يضغط على تيباس، وأن ميسي بالفعل في طريقه للخروج من برشلونة.
سرعة تثير الريبة
سارت الأمور بسرعة بشكل غير طبيعي. ميسي يعود للمدينة ووالده يصل برشلونة في نفس اليوم الذي يعلن فيه لابورتا عن عدم التجديد. في اليوم التالي مؤتمر صحفي ولا تعليق آخر، لتخرج كل وسائل الإعلام وتعلن أن ميسي فتح التفاوض مع باريس وتجزم وسائل إعلام أخرى أن الاتفاق انتهى وبقى الكشف الطبي والتوقيع، لا يوجد صفقة بكل هذا الحجم والأهمية تنتهي المفاوضات فيها وتصاغ العقود وتعلن فيها كل الأطراف عن نيتها ويتم التوقيع والكشف الطبي في غضون أيام قليلة أبداً، خاصة أنها للاعب مثل ميسي يمتلك جيشاً من المساعدين والمحامين وله شروط كثيرة خاصة بحقوق الرعاية والإقامة والراتب والمكافآت والامتيازات وحقوق استغلال صورته، بعضها قد يوافق عليه الفريق الباريسي وبعضها ما هو قابل للنقاش وإعادة الصياغة، وبالتالي مستحيل أن يتم كل ذلك في وقت قصير.
ظهرت عدة تفسيرات لهذا الأمر مدعومة ببعض الدلائل، منها فيديو شهير للمحلل الرياضي التونسي طارق دياب منذ عدة أشهر وهو يصرح بأن ميسي لن يجدد لبرشلونة وأنه أنهى اتفاقه مع باريس نهائياً، وأكد أنه لن يرتدي حتى الرقم 10 وهو بالفعل ما حدث حرفياً.
كل ذلك كان يحدث وقت أن كان برشلونة في مرحلة صياغة عرض جيد يرضي ميسي ولا يثقل كاهل النادي بالمزيد من الديون، صحف إسبانية عدة أكدت على لسان خاومي لوبيز عضو مجلس إدارة برشلونة أن فلورنتينو بيريز عمل جاهداً مع فيران ريبيتير المدير التنفيذي للنادي الكاتالوني من أجل إقناع لابورتا بالموافقة على رحيل ميسي حتى لا يضع برشلونة في ورطة الموافقة مضطراً على عرض cvc، ويترك بيريز وحيداً ضد التيار وفي نفس الوقت يوجه له ضربة قوية أخرى قد تسقطه أرضاً بتسهيل خروج كيليان مبابى من باريس سان چيرمان بعد قدوم ميسي للعب لنادي ريال مدريد، وبذلك يكون أكبر المستفيدين من كل ما حدث هو ريال مدريد نفسه، وإن كان هذا الأمر ممكن الحدوث، ولكني أرى أنه تصور غير حقيقي بالمرة، ذلك لأن بيريز انفض من حوله الجميع ولم يعد في قاربه إلا لابورتا وليس من مصلحته خسارته الآن على الأقل من أجل تنفيذ حلم إقامة دوري السوبر الذي يراه بيريز ولابورتا طوق النجاة الوحيد وسط زوابع وعواصف مان سيتي وباريس سان جيرمان وتشيلسي.
استقال خاومي لوبيز وأصدر فلورنتينو بيريز بياناً صريحاً أكد فيه أنه لم ولن يتدخل في قدوم أو رحيل لاعب من برشلونة وأن الأمر ليس قراره وهو ما يتماشى مع العقل والمنطق.
بكاء ميسي الذي تحول إلى ضحكات
بكى ميسي في المؤتمر الصحفي وغسل يده من عدم التجديد لبرشلونة بإعلانه أنه تخلى عن 50% من عقده دون جدوى، وأن اللوائح منعته من التجديد، لكن أين كانت تلك اللوائح قبل أن ينتهي عقد ميسي فعلياً في 1 يوليو/تموز 2021؟ ولماذا وهو مدرك باللوائح ولابورتا المحامي المخضرم وجيوش جرارة من المديرين والمسيرين وخبراء اللوائح لم ينتبهوا إلى أن العقد حين ينتهي تماماً ويصبح ميسي لاعباً حراً سيضع الجميع في ورطة لقيده من جديد داخل سجلات الاتحاد الإسباني؟ أم أن الأمر كان موضوعاً بعناية وتم الاتفاق عليه مسبقاً؟
يقول البعض إن ميسي كان يريد الخروج وسعى إليه منذ عام وأرسل بورو فاكساً بصفة رسمية للإدارة السابقة يبلغهم فيها بالخروج من النادي، وهو ما لم يتحقق بعد إصرار بارتوميو الرئيس السابق عليه والتلويح بمقاضاته، إذاً نية الخروج كانت موجودة في الأساس وميسي لو أتيح له ترك الفريق حينها كان سيخرج فعلاً ويتجه للعب بأحد الأندية الأخرى، والحجة وقتها جاهزة وحاضرة وهي أزمته مع الإدارة، ولكن مع الإدارة الجديدة ليس هناك أزمات ولا شركات مؤجرة لمهاجمة اللاعب في صفحات السوشيال ميديا، وإنما هناك علاقة صداقة وود كبيران. إذاً كان لابد من البحث عن مخرج آخر بشكل أفضل خصوصاً أن الفريق يعاني مالياً وإدارياً وفنياً بشكل كبير منذ عدة سنوات ولا ينظر إليه أكبر المتفائلين كمنافس قوي على الألقاب وهو ما يتعارض مع تفكير ميسي التنافسي.
تحولت أنهار الدموع التي ذرفت في المؤتمر الوداعي لضحكات وابتسامات بعد وصول اللاعب لباريس، لم أرَ ميسي نادماً ولا حزيناً ولا مستاءً وإنما رأيت رجلاً وكأنه خرج لتوه من قبضة حديدية محكمة لآفاق رحبة تملؤها السعادة، أزعم أنني رأيت حزناً كبيراً على وجه أرثر ميلو لاعب برشلونة السابق حين أُجبر على ترك برشلونة والانتقال ليوفنتوس أكبر مما رأيته على وجه ميسي رغم أن أرثر لم يلعب مع الفريق إلا عاماً ونصف العام فقط.
ميسي زاد الطين بلة حين خرج في المؤتمر الصحفي السابق لتوقيعه وهو يقول إن مواجهة البارسا في الكامب نو ستكون غريبة، لكنها ستكون مثيرة وحافلة، لم يرفضها ميسي ولم يقل أمام الجماهير إنه لا يتمناها بل تحدث عنها وكأنها شيء عادي، أعلم أن هذا هو الاحتراف وأعلم أن كرة القدم أصبحت بلا قلب، ولكن ميسي ليس اللاعب العادي القادم للاحتراف من نادٍ لنادٍ، ميسي الذي كُتب عقد انتقاله الأول على منديل ورقي أعطاه النادي الكثير وانتشله من براثن الفقر والمرض ووفر له حياة كريمة وهو بدوره أعطى للنادي الكثير لا أحد ينكر ذلك، لذلك كان من المفترض أن يكون أكثر دبلوماسية حين يأتي الحديث عن برشلونة، خاصة أن ميسي وأولاده لن يستطيعوا العيش في باريس حيث البرودة في الجو والمشاعر، ولن يذهب إلى روزاريو مرة أخرى ويترك أوروبا، وإنما هي سنوات معدودة ويعود لبيته في برشلونة وحديقته وطقس المدينة المعتدل ودفء المشاعر والفائض الكبير من الحب الذي أعطته إياه المدينة حين سكنها هو وعائلته منذ أن كان في الثانية عشرة من العمر.
الأمر كله ملتبس، تختلط فيه المشاعر بلغة العقل، وتتأرجح فيه الكتابة بين الاحترافية والهواية وتنساق فيه الكلمات وحدها للتعبير عما يجول بخاطر الكاتب والمحبين والعاشقين أكثر من قيادتها والتحكم فيها للوصول لبر الأمان حين يرضى كل من يقرأ المقال عن كلماته سواء اختلف مع رحيل ميسي أو اتفق معه.
الشيء الوحيد الواضح للجميع هو أن رحيله خسارة مؤلمة لكل من رآه يكبر أمامه، حين سمع أول مرة عن ناشئ في عمر السادسة عشرة مروراً بمباراته الأولى الرسمية لهدفه الأول بتمريرة من رونالدينيو، لأفراحه المتتالية مع برشلونة وانتكاساته المتلاحقة مع المنتخب الأرجنتيني مروراً ببطولات وإنجازات ومهارات وأرقام قياسية أراد القدر أن تتوقف عند عتبة معينة ولا تتخطاها، الخسارة ستطال المتابعين للكرة وستطال العاشقين لبرشلونة، ستحرم جماهير الكامب نو من الهتاف له وسيحرمها هو من قيادة الفريق لمنصات التتويج وسيعاني النادي مادياً من ضعف عقود الرعاية المرتبطة بتواجده داخل الفريق.
خسارة برشلونة كبيرة، وخسارة جماهيره أكبر، وأزعم أن خسارة ميسي هي الأقل بين كل هذه الأطراف؛ لأنه حتى ولو لم يؤدِّ فنياً بالشكل المعتاد فهو ربح تجارياً أموالاً كثيرة مسبقة قبل أن تلمس قدماه أرض الملعب، لكنه فقد الكثير من الحب والتعاطف الجماهيري، ذلك التعاطف الذي تجلت قمته حين كان يلعب في نهائي "كوبا أمريكا" منذ أيام قليلة وفرح كل محبيه وعاشقيه بتتويجه باللقب الأول في حياته للمنتخب الأرجنتيني وكأن ميسي فردٌ من عائلتهم.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.