عودة الحياة لليورو بعودة إيركسن إلى الحياة؟

عربي بوست
تم النشر: 2021/06/13 الساعة 16:04 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/06/15 الساعة 07:30 بتوقيت غرينتش
لحظة سقوط كريستيان إريكسن لاعب الدانمارك (رويترز)

حبس عالم الكرة أنفاسه إثر مواجهة الدنمارك أمام فنلندا، برسم اليوم الثاني من منافسات بطولة اليورو أو "كأس أمم أوروبا"، عندما سقط اللاعب الدنماركي كريستيان إيركسن إثر أزمة قلبية مفاجئة في نهاية الشوط الأول؛ مما أدى إلى توقيف المباراة قبل استئنافها مجدداً بعدما دبت الحياة في نفس نجم الدنمارك الذي أحدث سقوطه مغشياً عليه هلعاً كبيراً في نفوس اللاعبين والجماهير والمتفرجين، الذين وقفوا على صور ومواقف إنسانية عفوية من الطاقم الطبي واللاعبين ومخرج المباراة في الملعب. وصور أخرى للتضامن من لاعبين ومدربين ومتابعين في وسائل الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي، تعكس قيمة النفس البشرية وقداستها وقدرة الطب والعلم على صناعة المعجزة، وقيمة التعليم والتربية والأخلاق العالية في المواقف الصعبة التي يمر بها الإنسان.

سقوط لاعب كرة مغشياً عليه داخل المستطيل الأخضر صار بعد ذلك حدثاً ثانوياً، أمام كل الذي أعقب  عملية السقوط والذي صنع الفارق منذ الدخول السريع للمسعفين إلى تغطية اللاعبين لزميلهم وهو ملقى على أرضية الميدان، وعندما تم نقله إلى المستشفى لمنع التقاط صور له، إلى امتناع الجماهير عن التقاط صور للاعب وهو ساقط، ثم تصرف مخرج المباراة الذي تعمد عدم إظهار لقطات مقربة للاعب وهو يتلقى الإسعافات الأولية، وتجنب إعادة لقطة سقوطه، مكتفياً بإظهار صور زوجته رفقة قائد المنتخب الدنماركي سيمون كاير وهو يحتضنها ويخفف عنها، وهي كلها تصرفات إنسانية راقية تحترم النفس البشرية والخصوصية، وتخفف من وطأة الصدمة على عائلته ومحبيه، وعلى المتفرجين في المدرجات والمشاهدين عبر شاشات التلفزيون الذين توقفت قلوبهم بدورهم قبل أن تعود للخفقان مجدداً بعد عودة الحياة لكريستيان إيريكسن.

لقد تجاوز العالم الحديث عن سقوط اللاعب وأسبابه، وراح الجميع يؤكد على أهمية القيم والثقافة والتعليم، وقيمة العلم والنفس البشرية في المجتمعات المتحضرة، والتي تجسدت في التصرفات الرزينة لزملاء إريكسن استناداً لثقافتهم وتربيتهم وشجاعتهم في مواجهة الموقف، وتجسدت في التدخل السريع للمسعفين المدججين بكل الوسائل الطبية الضرورية التي سمحت لهم بإنعاش قلب اللاعب على أرضية الميدان بواسطة الصاعق الكهربائي وحقن مواد منشطة للقلب أعادت الحياة إلى نفس الرجل قبل أن ينقل إلى المستشفى لاستكمال العلاج والتعافي، بالموازاة مع حرص شديد على إصدار بيانات دقيقة وفي وقتها من طرف الاتحاد الدنماركي والاتحاد الأوروبي لكرة القدم لطمأنة الناس حول تطور الوضع الصحي لللاعب دون كذب أو تهويل، وحرص على استئناف المباراة بعد الاطمئنان على سلامة اللاعب. 

المنظومة الكروية والصحية والتربوية والتعليمية وحتى الأخلاقية والإنسانية في كوبنهاغن تصرفت بطريقة عفوية منسجمة، أنقذت حياة إنسان في خطر واحترمت خصوصياته ومشاعر الناس، وأكدت لنا أن الكرة ليست مجرد لعبة تتقاذفها الأرجل، بل هي ثقافة وحضارة وعلم وتربية نفتقدها في مجتمعاتنا المتخلفة التي تختفي كل مرة وراء القضاء والقدر لتبرير ضعفها وعجزها وفشلها في بناء الإنسان وحماية أرواح الناس وتوفير أسباب الحياة الكريمة لهم. من يؤمن بقضاء الله وقدره عليه أن يؤمن أيضاً بما أمرنا به الله من سعي نحو تقديس العلم وتربية وتثقيف الناس وتلقينهم أبجديات الإسعاف والتضامن والتعاطف عند المصائب، وعليه أن يؤمن بأن الحياة حق مثلما هو الموت حق، وبأن الصبر والثبات لا يعني الاستسلام للمرض والفقر والموت، ولا يعني التهرب من مسؤولياتنا الأخلاقية في مواجهات التحديات.

الوزير الأول الدنماركية لخصت الواقعة في جملة قالت فيها إن "الصدمة الوطنية تحولت إلى إنجاز وطني" في إشارة إلى المسعفين والأطباء وتصرفات اللاعبين وتضامن الدنماركيين وتعاطف العالم معهم في محنة تحولت إلى منحة لديهم، صنعت معجزة، وأعطت درساً للعالم أجمع في كل المجالات وليس فقط في كرة القدم، وفي كيفية التعامل مع سكتة قلبية للاعب كرة فوق أرضية الميدان، أبدع أثرها المسعف والطبيب واللاعبون ومخرج المباراة وكل من كانت له علاقة بالواقعة، دون نسيان التعاطف الجميل من طرف الأسرة الكروية العالمية التي أكدت أن ممارسة الكرة هي ثقافة وتربية وأخلاق وهي كل القيم الإنسانية مجتمعة.           

لقد عادت الحياة لليورو بعودة اللاعب إلى الحياة واستأنفت مباراة الدنمارك ضد فنلندا لتستمر الفرجة والمتعة وتستمر معها دروس الحياة والفنيات حتى ولو حامت الشكوك حول قدرة إيريكسن على لعب الكرة مرة أخرى، فهل تستفيق ضمائرنا وقلوبنا وعقولنا لنستثمر في الإنسان قبل البنيان، ونسخِّر أموالنا وجهودنا لبناء منظومة صحية وتربوية وتعليمية وفكرية تنقذ البشرية من العبث الذي نعيشه في كل المجالات؟ وهل بمقدورنا استيعاب هذا الذي يحدث من حولنا والاستفادة من دروس الحياة التي نقرؤها أو نسمعها ونشاهدها كل يوم؟ أم نستسلم ونترك قلوبنا تتوقف هماً وغماً وضعفاً وجهلاً دون أن نقدر على إسعافها؟

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

حفيظ دراجي
المُعلق الرياضي الجزائري
إعلامي شهير، ومُعلق رياضي جزائري.
تحميل المزيد