"لا يمكننا أن نطلب من الشعب الأرجنتيني الآن سوى أن يسامحنا على ما فعلناه".
إذا علمت أن ذلك التصريح للاعب كرة قدم، سيذهب ذهنك مباشرة إلى تخيل المباراة النهائية التي خسرها هذا اللاعب مع زملائه في اللحظات الأخيرة، أو الأداء المخيب للآمال لمنتخب بلاده وخروجه من الأدوار الأولى لبطولة دولية هامة. ""
لكن ماذا لو أخبرتك أن هذا التصريح منسوب للأرجنتيني "أوبالدو فيلول" حارس مرمى منتخب بلاده الفائز بمونديال 1978 المُقام في الأرجنتين؟
أطلق فيلول هذا التصريح بعد الفوز بالمونديال بحوالي 40 عاماً. أطلقه في ملعب فريق ريفربليت: المونيمونتال، الملعب ذاته الذي رفع فيه كأس العالم. لكنه في هذه المرة يقف في الملعب بجوار عجوزين أرجنتينيتين تجاوزتا الستين من عمرهما. يقف فيلول مقدماً اعتذاره لهما وللشعب الأرجنتيني بأسره عن الفوز بمونديال 1978.
فما قصة هاتين العجوزين؟ ولماذا يعتذر فيلول عن أهم إنجاز كروي قد يضيفه لاعب كرة قدم إلى تاريخه وتاريخ شعبه؟
عشرة مبانٍ بين الفرح والقهر
المكان: ملعب المونيمونتال الخاص بفريق ريفربليت.
الزمان: 25 يونيو/حزيران من عام 1978.
الحدث: نهائي كأس العالم بين منتخبي الأرجنتين -صاحب الأرض- وهولندا.
يمتلئ الملعب عن آخره بالآلاف من الشعب الأرجنتيني. نهائي كأس العالم على أرض بلدك حدث فريد بالطبع. انتهت المباراة بفوز الأرجنتين بثلاثة أهداف مقابل هدف واحد. كادت أرض المونيمونتال أن تهتز. انفجر الملعب بصرخات الآلاف الصاخبة فرحاً بفوز فريقهم بالمونديال.
لكن على بُعد 10 مبان خرسانية فقط، وتحديداً تحت الأرض، كان يسمعهم آلاف آخرون من المعتقلين السياسيين في سجن سيئ السمعة. سجن مدرسة الميكانيكا البحرية، معسكر الاعتقال السري الذي تم فيه إيواء عدد لا يحصى من السجناء السياسيين المختفين وتعذيبهم على يد جنود "خورخي فيديلا".
الأرجنتيني فيديلا هو صاحب واحدة من أكثر الديكتاتوريات العسكرية دموية في تاريخ أمريكا الجنوبية، بعد انقلاب عسكري على النظام الديمقراطي في الأرجنتين عام 1976.
"أتذكر صراخ الجماهير بكلمة "جووول" وأنا في السجن في تلك الليلة. كان صراخهم يشعرني بالاختناق والانهزام. كنت أشعر أنه مهما تعالت صرخاتي أثناء تعذيبي، لن يشعر بي أحد من هؤلاء الجماهير."
- أحد المعتقلين في سجن مدرسة الميكانيكا البحرية في وثائقي "التاريخ الموازي" المُذاع عام 2003.
حاول فيديلا الفوز بتلك البطولة بأي شكل لتلميع صورة ديكتاتوريته أمام الصحافة العالمية التي عجت صفحاتها بأخبار المذابح والاختفاءات والاعتقالات التي يقوم بها.
الأمر وصل به للنزول إلى غرفة ملابس منتخب بيرو قبل مباراتهم الأخيرة في دوري المجموعات مع الأرجنتين، والتي احتاج فيها لاعبو التانغو للفوز بأربعة أهداف أو ما يزيد للتأهل. وهو ما حدث بالفعل، لكن بسيناريو غريب للغاية.
اتهمه الجنرال "بيرموديز" الديكتاتور العسكري لدولة بيرو حينها بتهديد لاعبي بيرو وتخويفهم. أما لاعبو بيرو أنفسهم فقد أجمعوا أن حضوره في غرفة الملابس كان مخيفاً لهم، ولم يكن حديثه معهم مألوفاً على الإطلاق.
السحر الأسود لكرة القدم
في كتابه "كيف سرقوا اللعبة؟"، قال الكاتب الإنجليزي "ديفيد يالوب" إن السحر الذي يتم وصف اللعبة به، طالما كان فيه جزء سيئ يمكن تسميته بـ"السحر الأسود". العنصرية، الفساد المالي، موت الجماهير في المدرجات، كلها أشياء يمكن إدراجها تحت بند السحر الأسود للعبة.
استغلال الانقلابات العسكرية لكرة القدم كي تغض أبصار الناس عن جرائمها، هو قمة هرم السحر الأسود لكرة القدم. أسوأ ما في تلك الحالات أنها تظهر العنصر البشري في أضعف حالاته وأكثرها قسوة وأقربها للطبيعة الحيوانية.
تميل الحكومات لمصالحها الاقتصادية وتغض الطرف عن حياة الشعوب الأخرى. اللاعبون يبحثون عن المجد الشخصي ويكتفون -عن عمد- بلعب دور الترس الصغير في الآلة العملاقة والتظاهر بعدم القدرة على التغيير.
حتى الجمهور العادي يلجأ لحيلة الفصل بين كرة القدم ومن يستغلها لصالحه السياسي؛ فالتغافل عن تلك العلاقة سيضمن له متعة الكرة من ناحية، والشعور الإنساني بإنكار الإهانة التي يتعرض لها يومياً من أي نظام مستبد من ناحية أخرى.
ففي مونديال 1978، كان هناك 20 معتقلاً فرنسياً في سجون فيديلا بالأرجنتين. مع ذلك أصرت فرنسا على المشاركة بمنتخب بلدها في المونديال بالرغم من المعارضة الشرسة من اليسار الفرنسي لتلك الخطوة. معارضة وصلت لمحاولة خطف المدير الفني للمنتخب الفرنسي آنذاك "ميشيل هيدالغو" وهو في طريقه لطائرة المنتخب المتجهة للأرجنتين.
أما على مستوى اللاعبين، فيوهان كرويف لم يمنعه من قيادة هولندا في هذه النسخة المونديالية المشبوهة سوى تعرضه لمحاولة خطف هو وزوجته تحت تهديد السلاح، وفقاً لتصريحاته لراديو كتالونيا عام 2008. لكنه كان على استعداد للذهاب دون الاهتمام بما يحدث في معتقلات فيديلا، لو لم تتعرض حياة أسرته شخصياً للخطر.
لاعبو الأرجنتين أنفسهم، وهم الأقرب للأحداث، فضلوا مشاهدة شعبهم من بعيد والمشاركة في كرة القدم فقط دون النظر لغيرها. يقنعون أنفسهم أنهم التروس الصغيرة للغاية في الآلة الكبرى التي يتحكم بها فيديلا، مع أنهم كانوا العنصر الأكبر على قلب المشهد.
انقلب السحر على الساحر
"لم نكن نعرف ما الذي يحدث في البلاد. بعد اعتقال أشخاص من عائلتي واختفائهم عقب مونديال 1978 بعامين، أثار ذلك اشمئزازي. صافحت فيديلا بيدي لحظة تسليم كأس العالم لنا، والآن أفضل قطعها كلما رأيت ذلك المشهد."
ليس الجناح الأرجنتيني هاوسمان هو من انقلب عليه السحر الأسود لكرة القدم بعد أن كان يستمتع به، لكن أيضاً الحارس الأرجنتيني. في عام 1979، كان حارس المرمى يتطلع إلى الابتعاد عن ريفر بليت، استدعاه كارلوس لاكوست، ذراع ماسيرا اليمنى، وهو متعصب لميلوناريو، لحضور لقاء.
"اتصل بي لاكوست، وأخرج مسدساً ووضعه على الطاولة وأخبرني أنه بإمكانه أن يجعلني أختفي ولن يعرف أحد مكاني أبداً. كنت مجرد طفل ولم أفهم الأمور بشكلها الصحيح، وكلما تذكرت أنني شاركت في ذلك شعرت بالحزن."
ما يتغافل عن إدراكه أغلب أطراف اللعبة في حضرة الديكتاتوريات العسكرية في ملعب كرة القدم، أن القبضة الحديدية تلك ستنال منه عاجلاً أم آجلاً، باختلاف مدى قسوتها. سينقلب السحر الأسود للكرة عليك إن آمنت به.
الآن عرفنا مواقف جميع أطراف اللعبة، عدا الطرف الأهم: الجمهور. هل تتذكر المشهد الذي بدأنا بها قصتنا؟ نعم، الحارس "أوبالدو فيلول" مع السيدتين العجوزين في ملعب نهائي مونديال 1978 بعد 40 عاماً من ذلك الحدث.
كانت تلك إحدى حلقات سلسلة قامت بها مجلة "Papelitos" الأرجنتينية. سلسلة جمعت فيها 78 قصة من المونديال المشبوه. كل قصة تجمع بين طرفين: أحدهما مشارك في المونديال، والآخر عانى من قسوة القمع أثناء المونديال.
السيدة الأولى كانت تبلغ من العمر 24 عاماً وقت المونديال، وقد فقدت زوجها الذي اختفى قسرياً على يد قوات فيديلا قبيل بدء المونديال. تقول تلك السيدة إن أباها وإخوتها كانوا يبحثون معها عن زوجها صباحاً، ويشجعون المنتخب الأرجنتيني بكل حماس ليلاً، وهذا ما كان يثير استغرابها.
"أتذكر أن والدي لن يسمح بتفويت مباراة أبداً ولم أستطع حتى المشاهدة لأن الشيء الوحيد الذي كنت أفكر فيه هو اختفاء زوجي. عشت في حزن لأننا كنا نعلم أن الكثير من الأشياء يتم التستر عليها في كأس العالم."
السيدة الثانية مرت بظرف مشابه حينما كانت تبلغ 22 عامًا. فقدت ابنها وابنتها أثناء المونديال، وكان أيضاً أفراد عائلتها يتابعون المونديال بكل شغف بالرغم من الظروف المحيطة بهم.
لم يبالغ ديفيد يالوب حينما وصف هذا الجانب المظلم من اللعبة بالسحر الأسود، فاللعبة التي تجعل الإنسان يتناسى جُرم من حرمه من ذويه لمدة 90 دقيقة، تُعد بمثابة الكنز للديكتاتوريات العسكرية، خاصة مع الشعوب العاطفية مثل شعوب أمريكا اللاتينية.
ليست الأرجنتين وحدها
حالة الأرجنتين تلك لم تكُن الأولى من نوعها، وبالطبع لم تكن الأخيرة. الأمر يتكرر منذ كأس العالم 1938 عندما مارس موسوليني الأمر ذاته مع لاعبي منتخب إيطاليا، وصولاً للأنظمة الحاكمة الحالية في العالم.
دائرة مفرغة يدور بها الجميع وتؤول إلى النتائج نفسها. في مصر على سبيل المثال، بعد قدوم النظام الحالي بحوالي ثلاث سنوات بدأ في التفكير في كرة القدم كإحدى وسائل تحسين صورته بعد اتهامات بانتهاكات عنيفة لملف حقوق الإنسان. ثلاث سنوات هي المدة ذاتها بين تولي فيديلا مقاليد الحُكم في الأرجنتين وتنظيم كأس العالم 1978.
اهتمام حكومي بالغ بمنتخب مصر في كأس الأمم الإفريقية بالغابون عام 2017، وحضور الرئيس المصري أغلب مباريات البطولة مع الجمهور أمام شاشات عملاقة بأسوان. ثم تصدر حكومي لمشهد صعود مصر لكأس العالم 2018 بروسيا. ثم تصدر حكومي آخر من رئيس الدولة ورئيس الوزراء ووزير الدفاع ورئيس أركان الجيش المصري في معسكر كأس الأمم الإفريقية المقامة في مصر عام 2019.
ثم بدأت بعد ذلك مرحلة السحر الأسود. اللاعبون وعناصر اللعبة ككل منفصلون عن الواقع. يتغافلون نسبياً عما يحدث حولهم وعن أخذ موقف أخلاقي شجاع-وهم غير ملزمين بذلك بالمناسبة. ثم ينقلب السحر عليهم، كما رأيت في أزمة محمد صلاح مع صورته الشهيرة على طائرة المنتخب المتجهة لروسيا، ومن خلفه رئيس نادي الزمالك الذي واجه تهميشاً قاسياً عليه بعد أن كان إحدى أدوات النظام ذاته.
الجمهور أيضاً يدور في نفس الدائرة المفرغة تلك. فكما كان بعض أقارب المعتقلين ينفصلون عن الواقع الفاشي خلال 90 دقيقة يلعب فيها منتخب بلادهم في المونديال، تجد قطاعاً عريضاً من الجمهور المصري يدعو للفصل بين الرياضة وأي انتهاكات إنسانية تحدث في البلاد.
صور كربونية تتكرر في التاريخ الحديث للإنسانية منذ أن ظهرت لعبة كرة القدم، تلك اللعبة التي تمتلك هذا السحر الأسود القادر على فصل الإنسان عن واقعه بمجرد انطلاق صافرة الحكم وحتى نهاية اللقاء.
نحن لا نأمل في تغيير قناعات الناس في تلك المساحة؛ لأنه وكما يبدو أعنف بكثير من قدرتنا على الإقناع. لكن كل ما نأمل به أن يأتي اليوم الذي يحكي فيه المعتقلون في أي بلد يمر بتلك الحالة عن شعورهم وهم يسمعون صرخات الجماهير في المدرجات كجزء من ماضيهم المنقضي بالفعل. تماماً مثلما فعل معتقلو مدرسة الميكانيكا البحرية في الأرجنتين في بداية الألفية الجديدة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.