لا يمر جميعنا بنفس الخبرات والتجارب، ولذلك من حق كل فرد أو مجموعة أو نادٍ رياضي أن يقرر ويحدد ماهية النجاح بالنسبة له، لكن الأغلبية العظمى من الناس تحدد وتحصر مفهوم النجاح في النتائج، وللأسف تلك النظرة سطحية؛ لذلك، وعلى الأغلب، سيسقط المدرب السويسري رينيه فايلر من تاريخ النادي الأهلي عاجلاً أم آجلاً؛ لأنه لم يحقق النتائج ويحصد البطولات الكبرى التي ينتظرها عشاق وجماهير القلعة الحمراء.
لكن دعونا نستكشف المختلف بين المدرب السابق للنادي الأهلي، رينييه فايلر، وغيره من المدربين الذين تعاقبوا على النادي الأهلي في العقد الأخير.
على مر تاريخ النادي الأهلي، كان أغلب مدربيه براغماتيين بشكل بحت في بعض الأحيان، وأصحاب الأيديولوجيات الكروية الثابتة لم يأخذوا وقتهم في تولِّي مسؤولية الفريق تحت ضغط ومتطلبات الجماهير والإدارة؛ لأن زرع هوية كروية وإشباع الفريق بأيديولوجية ثابتة لا تحيد أو تختلف باختلاف المنافس، عملية تحتاج إلى وقت طويل نسبياً لإتمامها من قِبَل المدرب واللاعبين، وتتطلب الكثير من الصبر والدعم من قِبَل الإدارة والجماهير.
ولكنني مصرّ على أن تقييم المدربين على أساس البطولات فقط أمر غير صحيح، حتى ولو في النادي الأهلي.
للمدرب الأرجنتيني، العبقري عند البعض والمجنون عند البعض الآخر، مارسيلو بييلسا جملة حاذقة، يقول فيها: "كل الطرق تؤدي للفوز، وكل الطرق تؤدي للهزيمة". وهي تعني أن النتائج بلا "كتالوج" معين. وهذا الأمر ينطبق على النادي الأهلي بشكل صارخ وواضح، فسترى النادي الأهلي يكسب المباريات والبطولات مع حسام البدري، ومحمد يوسف، ومانويل جوزيه ورينيه فايلر، وحالياً بيتسو موسيماني، وغيرهم ممن سبقوهم، وذلك رغم اختلاف مدارسهم الكروية وأساليبهم التدريبية. لكن القطعة الناقصة في تاريخ الأهلي المليء بالبطولات والإنجازات هب أن يكون للنادي الأهلي على أرضية الميدان هوية وأيديولوجية ثابتة.
ولأن تكوين الهوية الكروية يتطلب الكثير من الوقت، وهو الأمر غير المتاح في الأندية الجماهيرية التي تبحث عن الفوز بكل البطولات التي تشارك فيها على غرار النادي الأهلي، تلجأ الإدارات إلى التعاقد مع مدربين براغماتيين همّهم الأول هو الفوز ولا شيء غيره. لتلك الأسباب، ما فعله فايلر مع النادي الأهلي، في أقل من موسم، كان إنجازاً عظيماً على مستوى الأداء والهوية والبطولات. رينيه فايلر هو المدرب الوحيد على مر تاريخ النادي الأهلي الذي استطاع أن يزرع وينمي هوية في أروقة النادي البراغماتي، من إدارته لجماهيره.
صحيح أن النتائج هي الهدف الأسمى في نهاية الموسم، لكن العظمة هي تحقيق النتائج المطلوبة بهوية معينة، وأداء ثابت، وأعظم ما فعله فايلر هو الإرث الذي تركه في النادي بعد رحيله، والذي يتمثل في أسلوب لعب استباقي مبني على خصائص الـpositional play أو معظم مبادئه، مع الاعتماد غالباً على أنماط لعب ثابتة وألعاب مركبة أكثر من الاعتماد على الفرديات، صناعة منظومة تحتوي اللاعبين بجودتهم المختلفة، تبرز نقاط قوتهم وتداري على نقاط ضعفهم، أسلوب لعب قائم على عدد وكمية التمرير يغلب عليه الذكاء الجماعي، وهيكل ثابت للفريق، اللامركزية فيه هندسية وليست فوضوية.
لو بحثنا معاً عن المدربين الكبار الذين حصدوا بطولات مع النادي الأهلى، لن نجد أحدهم رحل وقد ترك إرثاً كروياً أو زرع هوية ما.
أسطورة التدريب في النادي الأهلي، مانويل جوزيه، من المدرسة البرتغالية، وهي مشهورة بالتلوّن أو البراغماتية. وعمل أي وكل شيء من أجل الفوز، مرجعيته في التكتيك هي الخصم وما يملك من لاعبين. ولذا لم يترك إرثاً كروياً على مستوى التكتيك عندما رحل، وهو ما يعني أن من أتى بعده، حسام البدري، بدأ من جديد.
الإرث الذي أتحدث عنه هو طريقة اللعب وليس أي شيء آخر، وأنا بالتأكيد لا أقارن بين فايلر وجوزيه، فكل له مدرسته التي لها مميزاتها المختلفة عن المدارس الأخرى.
إرث فايلر الكبير
وبشكل عام، لا يوجد إيمان كبير بالأيديولوجيات الكروية الثابتة في مصر. نادٍ واحد فقط في مصر كان صاحب هوية ثابتة، ظل يلعب الكرة الهجومية والاستباقية لسنين بل لعقود طويلة، لكن ماتت هويته الآن، ويحيا سنين عجافاً، النادي الإسماعيلي الذي يعاني الأمرَّين حالياً.
بالعودة إلى رينييه فايلر، فهو الوحيد الذي وفَّر مسافات شاسعة لمن أتى بعده، وجعل المدرب الحالي بيتسو موسيماني يبدأ من نقطة أبعد بكثير من التي كان سينطلق منها لو كان مجيئه بعد أي مدرب آخر غير فايلر.
لأن فايلر ترك اللاعبين في حالة فنية وبدنية أفضل مما كانوا عليها، وخلّص الفريق من لاعبين كان وجودهم في الفريق متعلقاً بارتباطات عاطفية لا أكثر، ترك الفريق وهو يمتلك عقلاً وذكاء، وما على القادمين من بعده سوى حصد ما زرعه فايلر.
فايلر أضاف الحلقة المفقودة في النادي الأهلي، وحقاً لا أدري إن كان ذلك مقصوداً أم لا، لكن على موسيماني أن يستغل ذلك الإرث في تعزيز الهوية المزروعة واستمرار العمل بها لسنوات من أجل أن تميز الفريق بأسلوب فريد.
"هناك في الجزيرة غارقون في إرث فايلر، مدينون له بالكثير".
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.