حسناً، في مثل تلك القصص يجب أن تقرأ الحكاية من النهاية للبداية، وليس العكس في العادة، الأمر قد يبدو غريباً بعض الشيء، لكن هناك بعض المعادلات الرياضية لكي تجد حلها يجب أن تقرأها بشكل معكوس للوصول لفكرتها، الأمر هنا كذلك، بعض القصص يجب أن تُعكَس، لأن عظمتها تكمن في نهايتها قبل بدايتها.
لك أن تتخيل لاعباً يبلغ من العمر 35 عاماً في موسم 2015/ 16، يقوم بتسجيل 39 هدفاً في 34 مباراة في الدوري الفرنسي، مع صناعة 13 آخرين لزملائه في الفريق، ليذهب لمانشستر يونايتد الإنجليزي الموسم الذي يليه (2016/ 2017)، وهو بالغ من العمر 36 عاماً، فيُصاب بالرباط الصليبي الأمامي والخارجي في آنٍ واحد مع قطع في أوتار الركبة بالكامل، تلك الإصابة اللعينة التي تؤدي لإنهاء مسيرة بعض الشباب البالغين من العمر 25 عاماً وأقل.
لكن تحدث المفاجأة، ليعود بعد 7 شهور فقط، ويقوم بإنهاء الموسم مع مانشستر يونايتد رغم الإصابة وهو خامس هدافي الدوري وقتها!
بعد موسم إضافي آخر مع مانشستر يونايتد يقرّر هذا اللاعب الذهاب للدوري الأمريكي في موسم 2018، وقتها كان بالغاً من العمر 37 عاماً، ليكون الهداف الأول هناك بفارق أميال عمّن يليه، ليسجل في 62 مباراة خاضها مع الفريق الأمريكي لوس أنجلوس جالاكسي 67 هدفاً.
ليقرر ميلان التعاقد مع اللاعب (38 عاماً)، في آخر شهر في 2019، ديسمبر/كانون الأول، ليشارك في 23 مباراة، سجل فيها 14 هدفاً و4 أسيست، ويبدأ رحلة جديدة هذا الموسم من الإعجاز الذي أحدثه في الواقع والمنطق معاً، بتصدره قائمة هدافي الدوري بعد تسجيله 7 أهداف وصناعته 4 أخرى في 4 مباريات، وهو بالغ من العمر 39 عاماً!
حسناً، هذا اللاعب هو زلاتان إبراهيموفيتش، ولن تتحسس الإثارة والمتعة في قصته عدا سرد تفاصيل التحديات التي مرّ بها هذا اللاعب، الفكرة هنا ليست في المواقف فقط، بل في العامل المشترك الذي أدى لحدوث كل تلك المواقف، والأهم كيف استطاع زلاتان التغلب عليها كاملةً، بل الأدهى على الإطلاق بالنسبة له هو كيف استطاع تحقيق إنجازات وسجلات تهديفية أكبر من لاعبين ذوي إمكانات مبهرة وفي ظروف أفضل.
الشخصية
دائماً العامل النفسي أهم من أي شيء في تلك الدنيا المليئة بالمصاعب والتحديات، يقول إما أن تصعد من خلاله لسابع سماء، أو تهبط لسابع أرض، وفي كرة القدم العامل النفسي أهم من أي شيء آخر، وزلاتان إبراهيموفيتش يملك القدر الكافي من الشخصية والثقة والقيادة التي لا تؤدي فقط لتحقيق كل تلك النجاحات، بل بإجباره على ذلك أيضاً، بالإضافة لتكوينه الجسدي الذي يستحق الدراسة.
قبل تقديم زلاتان إبراهيموفيتش بعد توقيع العقد، تحدث مالديني لقناة Milan TV عن أسبابه للتعاقد مع إبراهيموفيتش وتحدثه مع إدارة الروسونيري في ذلك الأمر، حينها كان أساس وجهة نظره ليس عن إمكانيات زلاتان الهجومية أو العطاء الفني للفريق، لكنه كان عن التفكك النفسي وتشتت الفريق الذهني وعدم الاستقرار الفني.
بالتالي يجب تواجد لاعب يكون قادراً نفسياً وفنياً أن يحكم هؤلاء اللاعبين الصغار عديمي الخبرة في غرفة الملابس، لأنهم ليسوا قادرين على تحمل الضغوط بأي شكل من الأشكال، وعندما حدث هذا الأمر مع ميلان وتم التعاقد مع زلاتان، أصبح الفريق مستمراً في تقديم مستويات مميزة مع ستيفانو بيولي، بعد رجوع كرة القدم منذ التوقف بسبب جائحة كورونا وحتى الآن، وحتى قبل الرجوع بفترة ليست قصيرة تمكن الفريق من تقديم أداء راقٍ حينها.
بالطبع تواجد زلاتان ليس السبب الوحيد في تقديم ميلان لمستويات مميزة، لكنه عامل رئيسي ومهم من العوامل التي أدت لتألق الفريق الإيطالي، على المستوى الفني والنفسي؛ استطاع ميلان الوصول لرقم تاريخي آخر في حضرة زلاتان، وهو الوصول لـ24 مباراة دون خسارة، حيث لم يحدث ذلك منذ عام 1990.
واستطاع الفريق تحقيق إحصائية أصعب وأكثر تميزاً، حيث ذكرت شبكة "أوبتا" للإحصائيات أن نادي ميلان أحرز هدفين على الأقل في 10 مباريات متتالية في مختلف البطولات، للمرة الأولى منذ ديسمبر/كانون الأول 1964.
كل هذا ليس وليد اللحظة بالطبع، يحكي زلاتان في كتابه عن مينو رايولا، في أول مقابلة بينهما في مطعم في مالمو السويدية، ذهب زلاتان إبراهيموفيتش لمقابلة وكيل الأعمال الشهير، وإذ فجأةً يخرج مينو ورقة من جيبه ويضعها أمام زلاتان إبراهيموفيتش، ليمارس زلاتان عنجهيته المعروفة، لكن برد هادئ من رايولا أوقفه.
"تلك ورقة لإحصائيات أفضل 5 مهاجمين في العالم، أقل مهاجم استطاع التسجيل في القائمة لم تحرز أنت نصفه، القوة ليست بتلك العنجهية، بل بالأرقام التي تجعلك في أفضل فرق العالم".
ليس متكاملاً
الاستمرارية في مستوى عالٍ لفترة كبيرة من الزمن، هو ذلك الشيء الذي يميز ميسي ورونالدو، بالإضافة إلى أنهما نجمان على المستوى التهديفي، بعيداً عما يميز كل لاعب منهما عن الآخر، لكن الأهم أنهما نجما شباك؛ هناك لاعبون استمروا في الملاعب لوقت طويل على أعلى المستويات في اللعبة إلا التهديف، لم يكونوا من هؤلاء أصحاب اللقطات الأخيرة، لذا لم يذكرهم التاريخ مثلما ذكر هذا الثنائي.
إبراهيموفيتش يمتلك كل مميزات مهاجم كرة القدم، قادر على التهديف والتسجيل المتوالي والصناعة، والأكثر تميزاً بالنسبة له أنه فعل ذلك في منظومات لعب مختلفة تماماً ومع مدربين مختلفين، لكن رغم كل ذلك نرجسيته أفقدته مسيرة أسطورية بكل معاني الكلمة.
في كتاب "طرق أخرى للفوز" الذي يحكي عن كواليس برشلونة أثناء فترة بيب غوارديولا، ذُكرَ فيه أنه في إحدى مباريات الدوري الإسباني، قرر بيب غوارديولا إخراج زلاتان إبراهيموفيتش، لأن مستواه كان سيئاً تلك المباراة. بعد انتهاء المباراة، دخل زلاتان غرف الملابس وصرخ في وجه بيب غوارديولا، وألقى حقائق التدريب على الأرض في موقف لم يحدث مسبقاً مع الإسباني بيب غوارديولا.
لم يتكلم بيب غوارديولا، وفضّل الصمت وتنظيم الأشياء التي تم إلقاؤها أرضاً، لكي يُقرر بيب غوارديولا آنذالك إجلاس زلاتان إبراهيموفيتش حبيساً للدكة بعد ذلك، ويعتمد الإسباني على بويان وبيدرو الصاعدين من اللاماسيا بدلاً من الاعتماد عليه، حتى وصل العند بينهما أقصاه، وتعاقد الفريق مع دافيد فيا في وجود إبراهيموفيتش.
حينها، في النهاية فاض بزلاتان الكيل، ليقرر الدخول على رئيس النادي وقتها خوان لابورتا، ليقول له: "اسمع، إذا لم أخرج من الفريق حالاً انتظروا أن تحدث مشادات كلامية كبيرة مع بيب أمام الكاميرات في أي وقت، وفي أكثر من مرة!". وخرج زلاتان إبراهيموفيتش من النادي مع حسرة الإدارة على صفقة قبل أن تخسر بسببها أموالاً طائلة خسروا أيضاً لاعباً كبيراً.
في عام 2003، طلب آرسين فينجر اختبار زلاتان إبراهيموفيتش كي يتعاقد معه للعب في أرسنال، وقتها لم يكن زلاتان النجم الكبير، كان شاباً له مستقبل واعد، ليس أكثر أو أقل، ليرفض زلاتان إبراهيموفيتش أن يتم اختباره تماماً، قائلاً إنه لا يخضع لاختبارات.
تخيّل نفسك في موضع زلاتان بدلاً منه، أن تأتي لك فرصة اللعب مع جيل أرسنال الذهبي وأنت ما زلت في بداية مشوراك المهني، بل إن أسلوب وطريقة لعب أرسنال كان قريباً جداً من أسلوب أياكس، الفريق الذي بدأ فيه زلاتان حياته خارج السويد، حتى إن جيل أرسنال حينها كان مستعد تماماً لحملك على كفوف الراحة، وتقوم بصنع سجل تهديفي ممتاز لتاريخك الشخصي، فتضع كل هذا جانباً، لتقرر نرجسيتك أن ترفض كل ذلك من أجل إشباع لذتها في نفسك، وتتسب تلك اللذة الملعونة في ألا تستمر مع جيل برشلونة الذهبي -بعيداً عن عند بيب غوارديولا الذي قال وقتها أُفضِّل أن أكون مخطئاً على أن أكون جباناً- أن يكون مخطئاً في قرار مغادرة زلاتان إبراهيموفيتش، لكن لا يكون جباناً في قراراته بعد أن أهانه أمام الجميع بشكل بشع، لمجرد أنه قام بتبديله في مباراة عادية في الدوري الإسباني.
نرجسية زلاتان إبراهيموفيتش لم تكن سيئة على طول الخط معه، بل هي السبب الرئيسي في شخصيته القوية ودفعاته المعنوية للفوز بكل التحديات الصعبة التي عاشها، لكنها حرمته من أن يكون أحد العناصر المهمة لفريقين في ذروة فترة تألقهما عبر التاريخ، وتنقله الدائم بين الفرق حرمه من أن يكون نجماً هدافاً لفريق محدد.
زلاتان إبراهيموفيتش قد لا يكون واحداً من أفضل لاعبي اللعبة عبر التاريخ، قد لا يكون أفضل مهاجم عاصرته أيضاً، لكنه بكل تأكيد صاحب أقوى شخصية لاعب في كرة القدم مناصفةً مع كريستيانو رونالدو، والذي يتفوق عليه هو الآخر في بعض الصفات أيضاً، أسطورة بكل المقاييس.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.