ملك روما الحريف.. راح زمن اللعب يا توتي

عربي بوست
تم النشر: 2020/09/30 الساعة 13:23 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/09/30 الساعة 13:23 بتوقيت غرينتش
بليتشر

العائلة مجتمعة حول تلفاز قديم، تشاهد مباراة بين فريقين، أحدهما يرتدي اللون الأزرق والآخر يرتدي اللون البرتقالي، تبدو المباراة هامة من انتظار الجميع لها. طفل صغير لم يتخطّ الست سنوات بعد يجلس في المقدمة بالقرب من شاشة التلفاز، يشاهد مباراة لكرة القدم، يبدو من عينيه أنها المرة الأولى له، لم تكن المباراة بين فريقين أحدهما يرغب في الفوز فقط، بل كانت هناك مباراة أخرى مشتعلة بين أطراف العائلة، طرف يحاول إقناع الطفل الصغير بالإعجاب باللاعب رقم 10 في الفريق الأزرق، والآخر يحاول إقناعه بشتى الطرق بروعة اللاعب رقم 10 في الفريق البرتقالي. صراع آخر ربما تخطت حدته أحداث اللقاء، من منهم سينتصر ويقنع الطفل بالإعجاب بلاعبه المفضل.

فجأة والجميع في حالة تأهب شديدة لنتيجة المباراة التي ذهبت إلى ضربات الترجيح يدخل لاعب من الفريق الأزرق ليسدد ضربة جزاء بطريقة رائعة للغاية، ينال بها إعجاب الطفل الجالس أمام شاشة التلفاز، ومعها يأتي صوت خافت ملؤه الإعجاب: "أبي… لقد أحببت هذا اللاعب صاحب الشعر الطويل الذي يرتدي الرقم 20 في الفريق الأزرق".
من كان اللاعب الذي تُفضله -أيها الصغير- على دينيس بيركامب وأليساندرو ديل بييرو؟

لُمح هذا السؤال على وجوههم التي ترمقه في ذهول شديد، ولكنها كانت إجابة قاطعة، حسم بها الطفل قراره، ومنح حبه للاعب لم يُجِد نطق اسمه بعدُ، ولا يعرف اسم الفريق الذي يلعب له، لكن ومنذ تلك اللقطة بدأت القصة، قصة ارتباط طفل صغير بنجمه المفضل الذي اختاره عكس رغبة الجميع.

الحريف

الجميع بالطبع يعرف فارس، حريف محمد خان الشهير، الموهوب الذي غزا الشوارع راكضاً وراء الكرة الصغيرة المصنوعة من الإسفنج والخيط، ولكن لا أحد يعلم كيف كان فارس، الطفل الصغير، يمكننا أن نسميه فرانشيسكو توتي، الطفل الذي لم تكن تخلو قدمه من كرة القدم أينما حل وارتحل، في الشوارع المرصوفة بالحصى، بين الكاتدرائيات، في الأزقة، في أي مكان تطأه قدمه.

في روما أنت دائماً أمام خيارين لا ثالث لهما، إما أن تكون أحمر أو أزرق، إما أن تنضم لمعسكر الجيالوروسي أو معسكر البيانكو سيليستي، لا يوجد خيار آخر، ولكن في عائلة فرانشيسكو كان هناك خيار وحيد فقط، حب روما، توارثته أجيال العائلة، من الجد "جيانلوكا" إلى أبيه، الذي نقل بدوره حب فريق العاصمة إلى أبنائه ريكاردو وفرانشيسكو. روما بالنسبة لعائلة فرانشيسكو أكثر من مجرد نادٍ لكرة القدم، روما جزء من العائلة، كأنها الدماء والأرواح التي تسرى في أجسادهم.

عادل إمام في فيلم الحريف

في السابعة من عمره ذهب توتي إلى ملعب الأولمبيكو بصحبة والده للمرة الأولى، كانت هذه التجربة التي شكلت هذا الترابط الدائم بين توتي وبين روما.

"أستطيع الآن أن أغمض عينيّ وأستعيد هذا الشعور، أتذكر الألوان، الهتافات، القنابل الدخانية، وكل شيء حدث حينذاك. لا أعرف كيف أصف هذه التجربة لكنها أضاءت شيئاً ما في داخلي. ولو كان بإمكاني وصف الأمر بكلمة واحدة فلا يوجد ما هو أنسب من الجمال".

فرانشيسكو توتي عن زيارته الأولى لملعب الأوليمبيكو

الأم تحدد المصير 

صوت طرقات على الباب يكسر الهدوء والصمت غير المألوفين بأيام العطلة في منزل فرانشيسكو، يُفتح الباب، يدلف من الباب رجلان بزي رسمي ومعهم ظرف به مجموعة من الأوراق، كانوا مسؤولين من نادي آي سي ميلان، يريدون الحصول على توقيع اللاعب الشاب الذي لم يبلغ الـ13 من عمره بعد.

لا.. لا.. لا.. لا، فرانشيسكو لن يلعب سوى في روما، هكذا كان رد الأم "فيوريلا" على عرض مسؤولي ميلان، هذا العرض الذي يعني حصد العائلة الكثير من الأموال، ورغم ذلك تم رفضه بشكل قاطع.

بعد تلك الزيارة بعدة أسابيع تابع كشافة نادي روما إحدى مباريات الأشبال، ووقع اختيارهم على الفتى النحيل لينضم لفريق الناشئين في النادي العاصمي، أخيراً تحقق حلم العائلة، فرانشيسكو سيرتدي الأحمر والأصفر.

يجري الزمن ونصل إلى يوم 28 مارس/آذار 1993، حينما أمر المدرب "بوسكوف" الشاب اليافع صاحب الـ16 عاماً أن يقوم لإجراء عمليات الإحماء وتجهيز نفسه للمشاركة، هنا بدأت الخطوات الأولى لمسيرة الملك في إمبراطوريته المفضلة، مشاركة امتدت لـ3 دقائق فقط، لكنها كانت كفيلة لتكون مصدراً لسعادة عائلة فرانشيسكو.

"عندما دخلتُ أرض الملعب في المباراة الأولى شعرت بالفخر باللعب في منزلي.. شعرت بالفخر من أجل جدي وعائلتي".

فرانشيسكو توتي عن مشاركته الأولى مع روما

التوهج الأول والرهان الأكبر

صيف 2000، الأنظار تتوجه نحو الجارتين هولندا وبلجيكا المستضيفتين لبطولة اليورو، يفاجئ "دينو زوف" مدرب الأزوري العالم الكروي بوجود توتي في قائمة المنتخب الإيطالي المشارك في البطولة. تتوالى المباريات ويقدم توتي مستويات رائعة، يُسجل الأهداف ويقدم التمريرات المفتاحية لزملائه، يكسب رهانه مع فييري ونيستا أمام هولندا في نصف النهائي ويسجل ضربة ترجيح على طريقة "بانينكا"، مع تمريرة الكعب الشهيرة التي تسببت في الهدف الأول لإيطاليا في النهائي، تلك التمريرة التي كادت أن تمهد الطريق أمام إيطاليا للفوز باللقب القاري الغائب عن خزائنها من أزمان بعيدة، ولكن دائماً النهايات في حياة توتي حزينة للغاية، ولم تكن أبداً أبداً بنفس وهج البدايات.

كان توتي أكثر لاعبي إيطاليا تسجيلاً للأهداف في البطولة برفقة فيليبو إنزاغي، ورجل المباراة النهائية بالرغم من وجود ديل بييرو، وزيدان، وهنري على أرضية الملعب، وكذلك تم اختياره في الفريق الأفضل للبطولة. وبالرغم من انتهاء اليورو بخسارة إيطاليا في النهائي أمام فرنسا، فإن البطولة جعلت أعين العالم تتفتح على جوهرة إيطالية جديدة.

"كان توتي بلا شك وريث باجيو. حتى ذلك الحين كنت أعرف أنه يتمتع بالمميزات اللازمة لذلك، وأن مسيرته وأرقامه تؤكد ذلك".

المدرب دينو زوف عن فرانشيسكو توتي

ملك روما 

ينتهي اليورو ويعود توتي إلى روما، تزامناً مع إعلان نادي العاصمة عن التعاقد مع المهاجم الأرجنتيني "جابرييل باتيستوتا" قادماً من فيورنتينا، يبدأ الموسم والثلاثي الهجومي للفريق المكوّن من (توتي- مونتيلا- باتيستوتا) يبدأ في العمل، مدّ روماني عنيف أشبه بهجوم جيش أوكتافيوس لتوسيع رقعة الإمبراطورية الرومانية، مَن يقدر على إيقاف هذا المد الكاسح بقيادة فابيو كابيلو؟!

يستمر فرانشيسكو في توهجه، وبدا كأنه يقدم لنا نوعاً جديداً من السحر على طريقة معشوقه "إنيو موريكوني". يقدم توتي تمريراته ورؤيته المميزة للملعب، قدراته الهائلة في المراوغة، لمسات الكعب الشهيرة، تسديداته الصاروخية، والأهداف الخيالية التي سجلها بكل مهارة، حتى أتت اللحظة التاريخية، الجولة الأخيرة من الكالتشيو، روما يواجه بارما في الأولمبيكو، في مناسبة استثنائية للغاية، لا يعيشها جمهور روما كثيراً، إنها مباراة التتويج بالسكوديتو، الضيف الغائب منذ الثمانينات عاد للعاصمة مرة أخرى، ومن هنا تُوج توتي ملكاً أبدياً على روما.

"توتي ليس للبيع، إنه رمز المدينة مثله مثل مسرح الكولوسيوم سيبقى راسخاً في مكانه هنا إلى الأبد".

فابيو كابيلو، عن شائعات بيع توتي بعد يورو 2000

لعنة وهدية وذهب 

بعد الفوز بالاسكوديتو، استمر توتي في توهجه المعتاد، مازال بنفس الشغف، يركض ويسجل الأهداف الخيالية، ويصنع أخرى بطريقة مثيرة، يقدم تمريراته الرائعة، وينشر فنونه وسحره في الأولمبيكو وغيره من الملاعب الإيطالية الشهيرة. استمر ذلك حتى يوم 19 فبراير/شباط 2006، اللحظة الفارقة في مسيرة توتي، عندما أصيب إصابة خطيرة في كاحل قدمه اليسرى سيغيب على إثرها عن باقى الموسم، وأصبحت مشاركته في مونديال 2006 محل شك كبير، لكن المحنك مارتشيلو ليبي يظهر كساحر، ويقدم لتوتي واحدة من أعظم الهدايا في تاريخه، وهي وجوده في القائمة النهائية المشاركة في كأس العالم.

تنهال الانتقادات على رأس مارتشيلو ليبي، كيف تستدعي توتي للمنتخب وهو مصاب ولم يلعب أي مباراة؛ بل لم يلمس الكرة مطلقاً منذ 4 أشهر كاملة، وقدمه بها شرائح معدنية، ما الذي ينتظره ليبي من توتي، الذي طُرد أمام كوريا الجنوبية في مونديال 2002 وجعل الأزوري يلعب بـ10 لاعبين ضد أصحاب الأرض والحكم؟

ماذا ينتظر ليبي من توتي بعد طرده في افتتاح مباريات الأزوري في يورو 2004 وإيقافه بعدها لـ3 مباريات، وكان سبباً في توديع المنتخب من الدور الأول؟

ولكن كعادته في المواعيد الكبرى واللعب تحت الضغوط ظهر توتي أساسياً في تشكيلة المنتخب على حساب أليساندرو ديل بييرو، لم يظهر توتي كشبح في الملعب رغم الإصابة التي كان يعاني منها، ولم يخذل مارتشيلو ليبي. ساهم توتي في مونديال 2006 بـ5 أهداف من إجمالي 12 هدفاً، سجلها المنتخب الإيطالي في البطولة، وكان أكثر اللاعبين صناعة للأهداف برصيد 4 أهداف، كما تم اختياره في الفريق المثالي للبطولة، وكان مؤثراً للغاية، ورد الهدية لمارتشيلو ليبي بهدية أغلى منها، وقاد منتخبه للفوز باللقب العالمي الرابع في تاريخ إيطاليا. 

شهرة غير مكتملة

يكفي فقط ذكر اسم فرانشيسكو توتي في أي نقاش كروي، لتذهب أذهان الجميع إلى شيء واحد فقط؛ الانتماء الأبدي لروما، ورفضه جميع العروض للرحيل عن الجيالوروسي. كانت تلك إحدى النقاط المحورية في مسيرة توتي، ولكنها أخذت الجانب الأكبر من الشهرة، شهرة كانت تستحقها موهبة توتي الفريدة.

على صعيد الجانب الفني كان توتي من علامات الكرة الإيطالية البارزة، كان يمكنه صنع شيء من لا شيء، الكرة تلعب في عقله قبل أن تملس قدميه. توتي هو لاعب هجومي متكامل، لعب في كل مراكز خط الهجوم (صانع ألعاب، جناح، مهاجم وهمي، مهاجم ثان) بنفس الكفاءة والعبقرية المعتادة.

تحت قيادة فابيو كابيلو لعب توتي كصانع ألعاب تحت ثنائي هجومي في الرسم التكتيكي 3/4/1/2، كان فرانشيسكو النقطة المحورية لكل حركة هجومية للفريق، تحمل العبء الهجومي وحده. تحت توتي تواجد ثنائي في خط الوسط مهمته الوحيدة قطع الكرات وإرسالها إلى فرانشيسكو، الذي يقوم بدوره المعتاد، إما التسجيل أو صناعة الأهداف، والنتيجة سكوديتو تاريخي لروما وتوتي وفابيو كابيلو.

توظيف توتي موسم 2000/2001 تحت قيادة فابيو كابيلو

الأمر اختلف نوعاً ما مع مارتشيلو ليبي في مونديال 2006، الطريقة التي يرى بها ليبي الكرة مختلفة تماماً عن كابيلو، لعب ليبي بخطة تكتيكية 4/4/2، مع صانعي لعب في الفريق بيرلو كريجيستا، وتوتي كتريكواريستا، مع وجود غاتوزو في نصف الملعب ليغطي المساحات، ولا يكتفى من الركض في كل بقاع الملعب، توتي يتحرك للخلف قليلاً أو على الأطراف، بيروتا يتحرك بين الخطوط، ويصبح في كثير من الأحوال مهاجماً متأخراً خلف لوكا توني، ويقوم توتي بإمداد الثنائي الهجومي بالكرات خلف دفاع الخصم، هكذا كانت استراتيجية مارتشيلو ليبي، والنتيجة إيطاليا بطلة العالم والنجمة الرابعة تزين قمصان الأزوري.

توظيف توتي في مونديال 2006 تحت قيادة مارتشيلو ليبي

أظهر توتي أن بإمكانه اللعب في أكثر من نظام تكتيكي مختلف بأدوار مختلفة عن بعض، بنفس التأثير والفاعلية، توتي رغم أنه قضى نصف مسيرته في مركز صانع الألعاب فإنه استطاع تسجيل أهداف أكثر من مهاجمين مثل باتيستوتا، روبرتو باجيو، وأليساندرو ديل بييرو، بالرغم من مشاركاتهم في عدد مباريات أكثر من ملك روما. 

توتي لا يجب تذكره فقط بسبب لعبه لنادٍ واحد فقط طوال مسيرته، بل يجب تذكر توتي لأنه آخر صانع ألعاب كلاسيكي جمع بين القدرات الفنية الخارقة والاستمرارية، ويجب تذكر توتي لأنه كان المرجع الأول لمركز المهاجم الوهمي وكيفية تطبيق أدواره.

"كل لاعب لديه بعض العبقرية، ولكن هناك فان جوخ واحد فقط، ولا يوجد أحد مثل توتي".

جيوفاني تراباتوني عن فرانشيسكو توتي

ساهم توتي في مسيرته بـ523 هدفاً (سجل 316- صنع 207) في 843 مباراة خاضها بقميص روما ومنتخب إيطاليا.

زمن اللعب راح خلاص

كانت تلك آخر كلمات فارس، حريف محمد خان، قبل أن يلهث وراء الكرة للمرة الأخيرة. وعلى هذا النحو يمكننا تسمية ما حدث ليلة 28 مايو/أيار  2017، عندما اجتمع الجانب الأحمر من روما لتوديع ملكهم الأبدي في الأولمبيكو، بدموع غزيرة وصمت مهيب والكثير من الحسرة.. وداع مليء بكل مظاهر الألم والحب، الحكاية تصل فصلها الأخير بعد 25 عاماً، حكاية حب متبادل رغم قلة النجاحات وقسوة النهايات.

"الآن انتهى الأمر بالفعل، على الرغم من ذلك أجد نفسي غير مستعد لنطق هذه الكلمات، وكارهاً لتقبل هذه الفكرة، لكن هذا هو الواقع، سأخلع قميص روما للمرة الأخيرة، وسوف أطويه بعناية وترتيب لأحتفظ به، أعتقد أنكم قادرون على تخمين لعبتي المفضلة في الصغر؟ بطبيعة الحال كانت وما زالت كذلك حتى اليوم"
فرانشيسكو توتي، في خطابه الوداعي خلال مباراته الأخيرة.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

محمد رفعت
كاتب ومحلل رياضي
كاتب ومحلل رياضي
تحميل المزيد