يتلوّى الطريق تصاعدياً أثناء الخروج من بلدية كاستيلديفيلس، بعيداً عن ضجيج وسط المدينة وبعيداً عن الشاطئ، في اتّجاه التلال. وتزداد مساحة المنازل تدريجياً مع كل منعطف. فتتحوّل حلقات كرة السلة إلى ملاعب كاملة. وتتدحرج الحدائق المُشذّبة بعناية فوق المنحدرات. بينما تنسدل أزهار الجهنمية فوق الجدران. ويقطن ليونيل ميسي آخر منزلٍ إلى جهة اليسار.
وليس هذا العقار الوحيد الذي يملكه في كاتالونيا؛ إذ يمتلك ميسي المنزل الذي يعيش فيه والديه بحي غافا مار، ويمتلك شقةً في حي بيدرالبيس الفاخر بالمدينة، لكن كاستيلديفيلس لطالما كانت موطنه منذ زمنٍ بعيد؛ إذ قال إنّها المكان "المثالي" للعيش، حيث يُوجد البحر والشاطئ والجبال، إلى جانب هدوء وسكينة المدينة المنتجعية الجميلة والمتواضعة في آنٍ واحد.
وهناك قام هو وزوجته أنتونيلا بتربية أطفالهم الثلاثة، ويعيش أصدقاؤه بالقرب منه، إذ يذهب عادةً إلى التدريب أو المباريات في نفس السيارة مع جاره لويس سواريز. وهناك متاجرٌ تبيع البقالة الأرجنتينية. بينما تعرف بعض مطاعمه المفضلة، بالقرب من الشاطئ، أنّ ميسي في الطريق حين يتّصل أحد أصدقائه. وحينها يطلبون من رواد المطعم عدم إزعاجه أثناء تناوله الطعام، ويخبرونهم أنّه سيسعد بالتقاط الصور معهم أثناء مغادرته.
وهذا هو ما تخلّى عنه ميسي يوم الثلاثاء، 25 أغسطس/آب، حين بعث هو وممثلوه تأكيداً رسمياً إلى مسؤولي برشلونة بنيته الرحيل عن النادي. وهو بذلك يُنهي أكثر من مجرد علاقة ممتدة مع النادي منذ عقدين، حيث شهدت تحوّله من طفلٍ في الـ13 من عمره وقّع عقده على ظهر منديل إلى أفضل لاعبٍ شهدته كرة القدم على الإطلاق كما يُزعم.
وهو بذلك يكسر أكثر من مجرد رابط تكافلي بين لاعبٍ وفريق. فبرشلونة ليس برشلونة بدون ميسي. ولكن هل سيكون ميسي هو ميسي بدون برشلونة؟ لقد صعد بهذا الفريق إلى عتبات العظمة، وصعد بالنادي إلى مكانةٍ بارزة لا مثيل لها، ولكن العكس كان صحيحاً أيضاً لفترةٍ طويلة: إذ لم يكُن برشلونة مجرد منصة ومسرح بالنسبة له، بل كان أشبه بشخصيةٍ في قصته.
ميسي يشعر باليأس
وهناك الكثير من التضحيات الكافية بالطبع، ولكن فكرة الرحيل عن كاستيلديفيلس في حدّ ذاتها هي خير برهان على مدى جدية ميسي، ومقدار يأس الموقف من وجهة نظره، وحجم الغضب المتراكم في داخله. وهو لم يعُد مستعداً فقط للتخلّي عن صاحب عمله، واستبدال قميص فريقٍ بآخر، بل صار مستعداً للرحيل عن الحياة الكاملة التي بناها لنفسه.
وليس خافياً على أحد أسباب وصول الأمور إلى هذه النقطة؛ إذ كان برشلونة قبل بضع سنوات هو المعيار الذهبي لكرة القدم، وإمبراطورية بدا وكأنّها ستحكُم لألف عام، أو ما يُعادل الأبدية في قواميس النُخب الرياضية.
ولكنّها سقطت الآن، وتمزّق إرث الفريق العظيم الذي كان يضُم ميسي وأندريس إنييستا وتشافي هيرنانديز، قبل أن يتبدّد بسبب استقطاب النجوم البغيض والرؤية قصيرة المدى وتفشّي المصالح الشخصية.
وحين انتشر خبر طلب ميسي الرحيل؛ أعلن قائده السابق في الفريق كارليس بويول -أحد أيقونات برشلونة- دعمه للاعب في مواجهة النادي. وفعل سواريز وأرتورو فيدال أيضاً الشيء نفسه، بعد إبلاغهما بعدم الحاجة لهما في الكامب نو. بينما خرجت الجماهير في مسيرةٍ إلى مقر النادي وطالبت باستقالة مجلس الإدارة الحالي، أو مجموعة المسؤولين التنفيذيين الذين سيذكرهم التاريخ إلى الأبد على أنّهم سبب إبعاد أفضل لاعبٍ في التاريخ عن النادي.
مانشستر.. الوجهة القادمة
وبات برشلونة مكاناً متداعياً، في حين ذهب التعاطف بأكمله إلى ميسي. ولا عجب في أنّ الكيل قد فاض به. فبالرغم من صعوبة تخيّله مرتدياً قميص فريقٍ آخر بألوانٍ أخرى، ومرارة فكرة انفصال اللاعب والفريق -حتى خارج برشلونة- لكن اللاعب مدينٌ لنفسه بالبحث عن فريقٍ آخر ونادٍ يستطيع أن يحظى فيه بالخريف الذهبي الذي تستحقه مسيرته.
ويُمكن لذلك الفريق أن يكون مانشستر سيتي على الأرجح، من أجل لمّ الشمل مع بيب غوارديولا، إذ ساعد اللاعب والمدرب بعضهما البعض على إخراج أفضل ما لديهما. أو ربما باريس سان جيرمان، حيث سيتسنّى له اللعب من جديد إلى جوار نيمار.
أو حتى إنتر ميلان، النادي الذي وضع نفسه حلاً احتياطياً أولاً له أكثر من أيّ نادٍ آخر، باعتباره خياراً سريعاً في حالة الطوارئ. ومن المحتمل أن تكون هذه الفرق قادرةً على تلبية طموحاته بالحصول على لقب دوري الأبطال الخامس الذي يتوق إليه.
ولا نقصد نزع الشرعية عن هذا الرأي حين نقول إنّها ليست الصورة الكاملة؛ إذ يُمكن للعديد من الآراء أن تكون صحيحةً في الوقت ذاته. فمثلاً كان نادي برشلونة يُدار بشكلٍ مُروّع على نحوٍ واضح منذ بعض الوقت، كما أنّ مسؤوليه التنفيذيين يستحقون غالبية -إن لم يكُن كل- الإساءات التي تُلقى في اتجاههم.
ورغم ذلك، فإنّ مطالبة ميسي -المنطقي- بتعزيز صفوف الفريق المحيط به لم تكُن سهلة التحقيق بهذه الدرجة؛ إذ يمتلك برشلونة أغلى فاتورة أجور لاعبين في كرة القدم. ويفخر بكونه أقرب من أيّ فريقٍ آخر للوصول إلى إيرادات سنوية تُقارب المليار يورو (1.19 مليار دولار)، لكن غالبية تلك الإيرادات تذهب إلى أجور نجومه.
ثورة برشلونة
ويستحوذ ميسي بمفرده على نسبةٍ كبيرة من تلك الإيرادات، وهو يُقدّم بالطبع قيمةً كبيرة تُبرّر تلك النسبة. لكن إصلاح الفريق وإحداث ثورةٍ في صفوفه يستوجب رحيل بعض اللاعبين. ولا نتحدّث هنا عن لاعبين هامشيين أو شباب، بل نعني لاعبين من مستوى سواريز وفيدال وإيفان راكيتيتش.
وهذا أمرٌ صعبٌ بما فيه الكفاية نظراً لقلة النظراء الذين يتقاضون أجوراً تُقاربهم، ولكنّه كان مستحيلاً في الوقت ذاته على النادي سياسياً حتى الأسبوع الماضي، وفي أعقاب الهزيمة المُذلّة من بايرن ميونيخ.
وربما يرجع الأمر إلى التحذيرات من أنّ تلك التغييرات لن يُرحّب بها ميسي، أو نتيجة الافتراضات بأنّ ميسي لن يُرحّب بها. ومن المستحيل أن نعرف ذلك على وجه اليقين -فمن المثير للاهتمام أنّ قرار ميسي جاء بعد إبلاغ سواريز وفيدال أنّهما سيُسمح لهما بالرحيل- لكن التأثير يظل واحداً إلى حد كبير.
إذ حُوصِر برشلونة، بعبارةٍ أخرى، وسط معضلةٍ مستحيلة: فكيف ستُعيد بناء الفريق مع الاحتفاظ بأعلى النجوم أجراً؟ وكيف ستُنشِّط صفوف فريقك مع الاحتفاظ في الوقت ذاته بنفس اللاعبين والإبقاء عليهم في التشكيلة الأساسية؟ ونُكرّر: هذا لا يعني أنّه يجب التغاضي عن عثرات النادي. ولكن حقيقة سوء أداء المجلس لا تعني أنّه لم يكُن يتحرّك وسط ظروفٍ صعبة.
ولا يُمكن بالطبع لوم ميسي على تراجع برشلونة -فهذه رؤيةٌ أكثر سطحية من أن نأخذها على محمل الجد- ولكن من المغري التساؤل هنا حول ما إذا كانت هذه الخاتمة حتميةً إلى حد ما.
إذ لا يُمكنك ارتقاء سلم العظمة دون دفع الثمن: فالأندية المحظوظة بالحصول على مديرٍ فني رائع تقضي بعض الوقت في حالة تخبّط أثناء محاولة استبداله. والفرق التي تقضي عدة مواسم على عرش كرة القدم مع جيلٍ رائع من اللاعبين؛ تُعاني عادةً من أجل العثور على خلفائهم. وهذه قاعدةٌ محفورة في البرمجة السرية لكرة القدم، وجزءٌ أساسي في خوارزمياتها.
لكن عظمة ميسي كانت ضخمةً لدرجة أنّ الفاتورة وصلت أثناء وجوده وقبل مغادرته، بعد أن اختلطت الأمور بين ما هو في مصلحة ميسي وما هو في مصلحة الفريق، لأنّ النادي صار يرغب بشدة في إبقائه سعيداً لدرجة أنّه لم يعُد يرى ما يجب فعله على أرض الواقع لإبقائه سعيداً.
النهاية
وبالتالي وصلنا إلى النهاية الأسبوع الجاري؛ إذ قرّر ميسي أنّ عليه الرحيل، وأنّه لم يعُد قادراً على حمل هذا الفريق وهذا النادي فوق أكتافه. وربما وجد أيضاً أنّ العظمة لها ثمنها الشخصي أيضاً: فأينما ذهب، لن ينجح في الفرار فعلياً مما بات يُعرف بـ"اعتمادية ميسي".
إذ سيُعيد أي نادٍ يُوقّع له تشكيل نفسه حول ميسي. كما سينتظر منه أيّ فريقٍ ينضم إليه أن يحل المشكلات أولاً وقبل كل شيء. لقد شعر أنّ برشلونة لم يعُد "المشروع الناجح" الذي يتوق إليه. ولكن أينما ذهب، سيجد أنّه يُنتظر منه إنجاز الكثير من النجاح بنفسه. وهذا هو ثمن كونك ليونيل ميسي.
وبرشلونة على أعتاب مرحلةٍ أكثر صعوبة؛ إذ اختار هو استكشاف ما يُمكن أن يصل إليه بدون برشلونة، وهو سؤالٌ لم يكُن ليضطر أن يُجيب عليه لو لم تسِر الأمور على هذا النحو. لكن برشلونة كان يعلم أنّ هذا اليوم سيأتي. ربما ليس الآن، وليس بهذه الطريقة، ولكنّه كان سيأتي على أيّ حال. ويجب على النادي الآن مواجهة فكرة الحياة بدون ميسي.
لا يُوجد لاعبٌ أكبر من ناديه بالطبع، ولكن ميسي كان قريباً من تلك المكانة؛ إذ كان ميسي هو الفريق طيلة أكثر من عقدٍ كامل. وعلى مدار أكثر من عقدٍ كامل كان رمزاً لبرشلونة، وما يُمثّله برشلونة، وما يعنيه برشلونة. لقد كان المكان المثالي بالنسبة له، لكنّه لم يعُد كذلك بعد الآن.
أحلام مانشستر سيتي
قبل أيامٍ من إعلان ميسي، أجرى رئيس مانشستر سيتي خلدون المبارك مقابلته السنوية مع القناة الداخلية للنادي. وهي مبادرةٌ رائعة -يُستحسن بالعديد من نظرائه تقليدها- ولكنّها أبعد ما يكون عن الاستجواب.
وقدّم اعترافاً بارزاً خلال المقابلة؛ إذ قال المبارك إنّ السيتي جاهزٌ في الصيف الجاري للخروج عن سياسته العامة التي تنُص على التوقيع مع لاعبين لتطويرهم، وربما يبحث عن التعاقد مع نجومٍ جاهزين. (وحينها اعتقد البعض أنّه يقصد مدافع نابولي كاليدو كوليبالي، ولكن الحديث يُمكن أن ينطبق على ميسي أيضاً الآن).
وهذا أمرٌ مقبولٌ تماماً بالطبع، إذ يُفترض بسياسات التعاقد تلك أن تكون بمثابة إرشادات توجيهية فقط، أو وسيلة لضمان التحقيق عن كثب في أمر القرارات التي لا تُلائم سياستك. ولكنّ الأمر يُذكّرنا بقرار مانشستر يونايتد التوقيع مع روبن فان بيرسي في ما ثبت لاحقاً أنّه آخر مواسم أليكس فيرغسون التدريبية.
إذ تعاقد مانشستر سيتي مع غوارديولا من أجل الفوز بدوري الأبطال، وكان هذا التعاقد يُشبه التعاقد مع ميسي، حيث إنّه أفضل مدربي جيله ومعه مجموعة قوية وكبيرة من اللاعبين الشباب على طرازٍ عالمي، لذا فمن المستحيل أن يفشل السيتي.
لكن غوارديولا لم يصل حتى إلى نصف النهائي بعد مرور أربع سنوات. ولا يبدو أنّ النادي أو المدرب جاهزين على ما يبدو للمخاطرة من جديد في الوقت الحالي. وهذا هو العامل المشترك في ما يتعلّق بالمشروعات والسياسات: أنّها قابلةٌ للتطبيق بقدر رغبتك فقط.
– هذا الموضوع مُترجم عن صحيفة New York Times الأمريكية.