هكذا يبدو شعورهم في هذا الصيف المثالي المؤقَّت في كرواتيا.
ترفرف ألوان العلم الكرواتي الثلاثة على أسطُح السيارات وتُعلَّق خارج الحانات، ليلةً بعد ليلة يرتدي الكِبار والشبَّان قميص المنتخب ذاته ويعيدون سرد قصصٍ يحكون فيها كيف كان شعورهم وقتها، أن يحتفلوا بانتصاراتهم في ميدان رئيسي تُضِيؤه الشُعلات الوهَّاجة (الشماريخ) الحمراء. يمسحون دموعهم فيما يشاهدون إعادات بث المباريات السابقة.
وحتى وقد تبقَّت الآن مباراةٌ أخيرة -نهائي بطولة كأس العالم- فإنَّهم يستمتعون منذ الآن بحلاوة الساعات الأخيرة السابقة للحدث، واضعين الخطط، يتحدَّثون عن اللاعبين، ويسهرون لوقتٍ متأخِّرٍ بالخارج، ويعترفون من وقتٍ لآخر بأنَّ كرواتيا لم تكد تشهد بهجةً كهذه من قبل.
نحنُ على بعد خطوةٍ من الجنة
وقال فلادو فوروسيتش، وهو صحفي ومؤلف كرواتي: "لا يضاهي هذا الشعور سوى ما كان في شهر أغسطس/آب من عام 1995. ذلك عندما انتصرنا في حرب الاستقلال. الآن نحنُ على بعد خطوةٍ من الجنة".
بالنسبة لبقيَّة العالم، فإنَّ صعود فريق كرواتيا لمباراة نهائي كأس العالم المُقامة اليوم الأحد،15 يوليو/تموز، يبدو كقصةِ مستضعفٍ وُهِبَ قدراتٍ سحرية. قد فازت الدولة التي لا يتجاوز تعداد مواطنيها عدد قاطني ولاية كنتاكي الأميركية، على مدار 26 يوماً، بمبارياتٍ أكثر ممَّا فازت به الولايات المتحدة خلال 68 عاماً مضت. أصبحت كرواتيا أصغر دولةٍ تصل إلى نهائي كأس العالم منذ وصول منتخب أوروغواي عام 1950.
لكن في الداخل الكرواتي، يُناقَش أداء منتخب البلاد لا كقصَّةٍ خيالية بل كسعادةٍ مؤجَّلة، انفعالٍ دبَّ في أمةٍ كانت في حاجةٍ ماسة له.
شبابها غادروا أفواجاً بحثاً عن العمل
تنعم دولة كرواتيا بالسلام والسياحة والديمقراطية، لكنَّ السبعة والعشرين عاماً الفائتة والتي تلت الاستقلال لم تسِر كما هو مُخطَّط له قط. اقتصادها مثلاً، بعد أعوامٍ من الركود وسوء الإدارة، هو الآن أصغر على نحوٍ ملحوظ مما كان منذ عشرة أعوام.
ومنذ ذلك الوقت، انخفض تعداد سكان كرواتيا بنسبة 6 بالمئة، إذ غادرت أفواجٌ من الشباب البلاد بحثاً عن العمل. وإن كان في ذلك عزاء، فإنَّ بعضاً من الشباب المرتحل كانوا لاعبي كرة قدم. إذ أنَّهم هم أيضاً سافروا إلى الخارج. لعب هؤلاء في فرق الصفوة بمدينتي برشلونة ومدريد بإسبانيا ومدينة تورينو الإيطالية، وأصبحوا بين أفضل لاعبي العالم، ما مكَّنهم من العودة إلى بلادهم، والانضمام إلى صفوف المنتخب، ثم الفوز بست مبارياتٍ على التوالي، ناجين من كلِّ خطرٍ داهم تلو الآخر حتى نُسِي كل ما عداهم في كرواتيا.
قالت مونيكا هيرسغ، 22 عاماً، وهي تعمل في شركةٍ للاتصالات: "أخشى أنِّي سأموت جرَّاء سكتةٍ قلبية". وفي دليلٍ على السطوة المخدِّرة لكرة القدم، رفعت مونيكا الجزء السفلي من معصمها، وقد كان به أثر حرق سيجارة برتقالي ورمادي اللون.
قالت مونيكا: "الأرجح أنِّي لُسِعت بشكلٍ ما أثناء مباراتنا ضد روسيا الأسبوع الفائت. لكنِّي لم أشعر به حتى وصلت البيت. كان الجوُّ مُعبَّأً بالأدرينالين. وكانت هُناك بيرة مسكوبة عليّ. لم أشعر بأيِّ شيء".
لم يتوقع الكرواتيون هذا الحدث
سيعترف لك الكرواتيون أنَّهم لم يتوقَّعوا حدوث كل هذا. قد تعثَّر اتحادهم لكرة القدم تحت وطأة الفساد، وكان المنتخب الوطني قد أصبح رمزاً لعِلَّات البلاد. لكن في المباراة الثانية للمنتخب في البطولة، سيطرت كرواتيا على اللعب في مواجهة الفريق الأرجنتيني الجبَّار.
وفي جولة أدوار ما بعد المجموعات، نجا المنتخب الكرواتي بفارق ضربات الترجيح أمام فريقيّ الدنمارك وروسيا. ومع فوزهم على المنتخب الإنكليزي وإخراجه من البطولة، بدا كما لو أنَّ البلاد بأكملها قد ارتدت ألوان قميص المنتخب الشطرنجيّ، حُلِقَت الرؤوس لتُشبهه، والتحفت به السيارات، وارتداه وزراء المنتخب في اجتماع مجلس الوزارة.
قالت إحدى الصحف قبل يومين من مباراة المواجهة مع فرنسا: "النصر لنا!"، ولتدعَم مزعمها، أفردت الصحيفة صفحتين كاملتين لتحليل راحة يد مدرِّب الفريق زلاتكو داليتش. وبحسب المقال، فإنَّ خطوط يدِّ المدرَّب تشي بأنَّ قدره هو "الصعود إلى القمة".
إنَّك الآن ترى وجوهنا تشع بالابتسام فقط
وقال درازين لاليتش، وهو أستاذٌ بجامعة زغرب يدرِّس السياسة والرياضة: "إنَّك الآن ترى وجوهنا تشع بالابتسام فقط. وهذا لعلمك أمرٌ غير اعتيادي. إنَّه أحد أكبر النجاحات التي حقَّقتها دولة كرواتيا خلال 27 عاماً. أولاً، كسبنا الحرب. ثانياً، أسَّسنا دولةً ديمقراطية. ثالثاً، انضممنا إلى الاتحاد الأوروبي. ورابعاً، من وجهة نظري، صعدنا إلى نهائي كأس العالم. صار الناس الآن يعرفون ماذا تكون هذه الدولة الصغيرة ذات الأربعة ملايين مواطن".
كرواتيا دولةٌ يحكمها حزب يمين وسط يحظى ائتلافه بالأغلبية بفارقٍ صغير على نحوٍ يشي بالخطورة، وكذلك ما يميِّز الشباب فيها هو شعورٌ باللامبالاة السياسية، وليس القومية. ويُصنَّف معدَّل البطالة بها، والبالغ 8.9 بالمئة، بين أعلى المعدَّلات في دول الاتحاد الأوروبي.
وحتى بمعايير أوروبا المتطرَّفة، فقد لعبت كرة القدم دوراً رئيسياً في هُوية كرواتيا. ويشير العديد من الكرواتيين أنَّ تفكُّك دولة يوغوسلافيا -وبداية حربٍ استمرت لأربعة أعوام بين القوات الصربية والكرواتية- قد سبقته اشتباكات بمدرَّجات وأرض الملعب بين مجموعات من المُشجِّعين القوميين من زغرب (كرواتيا) وأخرى من بلغراد (صربيا) في مباراةٍ لكرة القدم عام 1990. وكان فرانيو تودجمان، أوَّل رئيسٍ لدولة كرواتيا، عاشقاً لكرة القدم وسبق أن قال إنَّ بإمكان اللعبة أن تشكِّل هوية البلاد مثلها مثل الحرب، ووصف أوَّل جيلٍ من لاعبي كرة القدم الكرواتيين بأنَّهم السفراء الفعليون لبلادهم.
الجيل الحالي مِن لاعبي كرواتيا هو من يعكس الشرائح المعقدة بالبلاد
لكنَّ هذا الجيل الحالي مِن لاعبي كرواتيا هو من يعكس الشرائح المتعددة والمعقدة بالبلاد. أحد اللاعبين، وهوَ ماريو ماندزوكيتش، نشأ في ألمانيا بعد أن فرَّت عائلته من الحرب. وآخر، هو لوكا مودريتش، قضى جزءاً من طفولته في فندقٍ كان قد جرى تحويله لموقعٍ لاستضافة اللاجئين، وقُتِل جده على يد القوات شبه العسكرية الصربية.
كانوا غاضبين من "مودريتش" !
وقُبيل بدء بطولة كأس العالم، كان يمكن أن يكون مودريتش، قائد الفريق الرشيق البالغ طوله 172 سنتيمتراً، شخصيةً تلتفّ حولها البلاد. لكنَّه لم يكن. وبدلاً من ذلك، تورَّط اللاعب في
أكثر قضايا الفساد إثارة في كرواتيا.
تضمنت القضية تهماً موجهة لسلوك الإداري التنفيذي الرياضي زدرافكو ماميتش، وهو سمسار بيع وشراء لاعبين قضى سنواتٍ يوقِّع مع لاعبين كرواتيين ثم يبيعهم إلى نوادٍ أوروبية كبرى مُحقِّقاً هامشَ ربحٍ كبيراً.
ووفقاً للتهم المُوجَّهة له، فإنَّ ماميتش -الذي هرب آنذاك إلى البوسنة ليتجنَّب قضاء عقوبة السجن- اختلس ملايين الدولات بحجَّة أنَّها نفقات نقل اللاعبين. لكن مودريتش عندما شهد في محاكمته قدَّم شهادةً تعارضت مع تصريحاتٍ أدلى بها مُسبَّقاً وكانت تُدين ماميتش أكثر مما قال أمام المحكمة. أُدين مودريتش بتهمة شهادة الزور، وانتقد بعض الكرواتيين اللاعب، قائلين إنَّه كان يحمي شخصيةً مكروهة على نطاقٍ واسع.
لكنَّ الأمر لم يتطلَّب سوى أربعة أسابيع من لَعِب كرة القدم حتى سامح عموم الشعب مودريتش.
وقال ساسا بارت، وهو شريكٌ بشركة استشارية في العاصمة زغرب: "يرى الناس هذه المعجزات الصغيرة التي يقوم بها على أرض الملعب".
عندما حل الفريق في المركز الثالث بكأس العالم 1998
حظت كرواتيا بأعوامٍ سابقة من النجاح الرياضي، ومن ضمنها حلولها بالمركز الثالث ببطولة كأس العالم عام 1998، لكنَّ منتخب هذا العام هوَ من صعِد إلى علوٍ لم يُشهَد من قبل. يتوقَّع الكرواتيون أنَّه في يوم الإثنين، اليوم التالي للمباراة، سواء فاز منتخبهم أم خسر، فإنَّ معظم الشركات والمحال لن تشتغِل. يومها سيهبط الفريق عائداً إلى زغرب وسيتَّجه بالحافلة إلى ميدانٍ رئيسي بالعاصمة. وقدَّرت إحدى الصحف أنَّ عدد مستقبليهم قد يبلغ 100 ألف شخص.
قال سيرو بلازيفيتش، مدرِّب منتخب كرواتيا لكرة القدم في عام 1998: "نحن بحاجةٍ لهذا الفوز. الأميركيون، والإنكليز، والفرنسيون، كلُّهم لديهم دولٌ كبرى تملك قنابل نووية. هم بالفعل على رأس العالم. ليسوا بحاجةٍ للهرب من لعنة أن يكونوا أمماً مجهولة. لكننا كرواتيا. كُل ما نمتلكه هو لاعبونا المتكاتفون".