500 ألف يورو صافية من الضرائب.. هذا ما يجنيه لاعب المنتخب البرازيلي نيمار دا سيلفا، ليس شهرياً وبالطبع ليس سنوياً في باريس سان جيرمان الفرنسي، وإنما أسبوعياً بعد انتقاله بمبلغ 222 مليون يورو قيمة الشرط الجزائي في عقده مع برشلونة الإسبانيّ.
وهو ما يساوي أكثر من ضعف قيمة انتقال النجم الحقيقيّ الفرنسي، بول بوغبا، من يوفنتوس الإيطالي إلى مانشستر يونايتد الإنكليزي، 105 ملايين يورو.
يأمر فيُطاع؛ هذا هو حال النجم البرازيليّ في باريس الذي لم يعجبه طباخ النادي الباريسي عند وصوله، فيغيّره ويجلب آخر برازيلياً. ولم يعجبه أن يقوم نجم أوروغواي إدينسون كافاني بتسديد ضربات الجزاء والركلات الحرة، فيأخذها منه "غصباً" أمام أعين المدرب والجماهير والمشاهدين. لم تعجبه الخطة التي وضعها المدير الفني الإسباني أوناي إيمري؛ لأنها لا تعطيه صدارة المشهد، فيغيرها بأخرى تجعله هو الـ "سوبر ستار".
لا يهم أي شيء، المهم أن يرضى "الملك"، المهم أن يرضى نيمار جونيور وأبوه الذي يجني من وراء ابنه الملايين.
هنا نتناول جانبين لهذه القصة الـ "نيمارية"؛ جانباً رياضياً، وآخر اجتماعياً لا يخص نيمار وحده، لكنه أفضل ممثل له.
الجانب الرياضي.. مَن توّج نيمار؟
في تعريف الشهرة؛ لا يهم كيف تستحق الشهر بقدر ما يهم أن يعرفك أكبر قدر ممكن من الجماهير. فالشهرة وضع حياديّ؛ إذ لا توجد شهرة خبيثة وأخرى طيبة، الشهرة هي الشهرة، وهي أن يكون اسمك مألوفاً عند أكبر عدد ممكن من سكان كوكبنا.
لكن دائماً وأبداً كانت الشهرة مرتبطة بإرث ما؛ فقد يصبح أحدهم مشهوراً لسبب ما، قد يكون هذا السبب هو موهبته، قوته، قدراته العقلية، وسامته، أو ثروته.
الأرجنتيني ليونيل ميسي مشهور لما قدمه خلال سنواته الطويلة مع برشلونة، وأنه كان محور الفريق الكتالوني دائماً ومُنقذه في وقت الأزمات، فاستحق شهرته.
البرتغالي كريستيانو رونالدو، أيضاً، مشهور لما حصده من بطولات، ولكونه "ماكينة" أهداف لا تتوقف ومساعدته لريال مدريد في حصد 4 بطولات دوري أبطال أوروبا.
هذه الشهرة ينبني عليها اهتمام الجماهير بكل ما يخص النجم؛ ملابسه وصديقته، وسكنه ونومه، وكل تفاصيل حياته، في حالة ميسي ورونالدو فالأمر مفهوم، فهذان اللاعبان أعطيا كرة القدم أكثر من 10 سنوات من المنافسة الرياضية بشكل لا يُصدق وبمستويات غير مسبوقة.
لكن نيمار استيقظ من نومه يوماً ما في العام 2013، فوجد نفسه في كتالونيا، يعامل مثل رونالدينيو، يلعب بجوار ميسي. لم يعد الموهبة القادمة من سانتوس البرازيليّ، وينتظر منها أن تثبت نفسها وتقدم أداء يرتقي لمستوى هذه الموهبة، بل أصبح النجم نيمار. أصبح نجماً تطارده الأضواء بلا أي سبب حقيقي، الكل يهتم بمعرفة تفاصيل حياة الشاب الصغير المثيرة. صار بطلاً قبل أن يخوض أية معارك بعد.
ولأن الإنسان مفتون دائماً بإيجاد وخلق الأسباب التي تبرر له أوضاعه المعيشية بما يغنيه عن تأنيب الضمير، خلق نيمار السبب وأبدع في تطبيقه، ألا وهو "الحماقة".
لم تشهد الكرة العالمية مثالاً صارخاً على التفاني في تضييع الموهبة مثلما يفعل نيمار، يضيع الفتى البرازيليّ موهبته الفذة بشكل مثير للدهشة ليس فقط بانتقاله من الدوري الإسباني إلى الدوري الفرنسي الأقل مستوى، لكن في كل حركاته على أرضية الملعب، منذ ادعاءات الإصابة بشكل صار مثيراً للغثيان، أو الاستعراضات التي لا يتوقف عنها حتى إن كان فريقه بحاجة ماسة إلى تدخل عاجل منه، أو محاولته الحصول على ضربات الجزاء بشكل مستمر.
نيمار لم يقُد فريقه لبطولة مثلما فعل ويفعل ميسي ورونالدو باستمرار، ولم يقدم موسماً خيالياً خلال مسيرته كالذي حظي به محمد صلاح رفقة ليفربول.
نيمار لم يفعل شيئاً حتى الآن يضع اسمه بين كبار اللاعبين، سوى الإعلانات، فوزه مع برشلونة بالدوري والكأس ودوري أبطال أوروبا لا يعد معجزة وليس مبهراً، فبرشلونة كان يفوز بالبطولة من قبل مجيئه، كما الحال مع باريس سان جيرمان، الذي يفوز بالدوري الفرنسيّ قبل أن يبدأ.
فرصة نيمار الوحيدة لإثبات نفسه هي إما الفوز بدوري أبطال أوروبا رفقة باريس سان جيرمان، أو الفوز بكأس العالم رفقة البرازيل. وهو ما فشل فيه حتى الآن، وحتى يتغير الحال يبقى نيمار موهبة ضائعة ومشوشة، لم تتوّج بشيء، ولا يبدو في الأفق أن ذا الـ 25 ربيعاً يطمح إلى تغيير هذا الوضع.
الجانب الاجتماعي.. لماذا يحصد كل هذه الأموال؟
تقوم حجة عالمي الاجتماع ولبرت مور وكينغسلي دافيز الأساسية على أن عدم العدالة الاجتماعية أمر لا مفر منه، وأنها موجودة بوجود المجتمع، وأنه لا يتخيل مجتمع من دونها، هذا أولاً.
ثانياً: يرى كلاهما أن عدم العدالة الاجتماعية ضرورية ولا غنى عنها في المجتمع؛ لأنها تقوم بملء أدوار ووظائف لا غنى عنها. فعدم العدالة واختلاف الطبقات الاجتماعية ومعدلات الدخل في نظرهم هي محركات رئيسية لأفراد المجتمع تجعلهم في حالة منافسة دائمة على الفرص والوظائف من أجل تحسين أوضاعهم الاجتماعية أو المادية، وأن بدونها سيفقد المجتمع محركاً رئيسياً؛ ما يجعل المجتمع مهدداً بالدخول في حالة ركود؛ إذ تموت الدوافع داخل البشر، وتصبح حياتهم بلا أمل أو هامش تطور وحرية.
ويعتمد "نظام العوائد"، أي الأموال والوضع الاجتماعي التي يتلقاها أحدهم نظير ما يقوم به من عمل في النظام الرأسمالي، على عدة قواعد تحدد القيمة المالية التي يجب أن يحصل عليها الفرد، أو المكانة الاجتماعية التي سيتمتع بها نتيجة الوظيفة التي يشغلها:
أولاً: أهمية العمل أو الدور الذي يقوم به بالنسبة للمجتمع. فإذا كانت الوظيفة التي يقوم بها الفرد مهمة للمجتمع، فإنه يجب أن يحصد الكثير مالياً واجتماعياً، وإن كانت ليست مهمة، فإنه سيتحصل على القليل. ومن أجل تجاوز الحجة القائلة بأن كل الوظائف والأدوار مهمة للمجتمع، قام دافيز وموور بتعريف الوظائف المهمة بأنها الوظائف الصعبة التي لا يمكن أداؤها بكفاءة عالية سوى ببذل الكثير من الجهد، وأن الوظائف غير المهمة أو التي ليس لها أهمية كبيرة للمجتمع هي الوظائف التي يمكن أداء متطلباتها بسهولة.
وبالحديث عن لاعبي كرة القدم، فلا أعتقد بأي شكل من الأشكال، أنها تلك الوظيفة الصعبة التي تحتاج إلى مجهود خارق؛ كي يتحصل اللاعبون على كل هذه الأموال والمكانة الاجتماعية. حتى وصل الحال أن لاعبي كرة القدم صاروا قدوة للأجيال الصغيرة يقلدونهم في كل شيء، وصاروا مثار إعجاب الجميع واحترامهم، وأحياناً يصل الأمر إلى تقديسهم!
ثانياً: المسؤولية المترتبة على المكان أو الوظيفة التي يشغلها الفرد. فكلما زادت المسؤولية الملقاة على كاهل الأفراد، فإنه يجب أن يحظوا بامتيازات أكثر مالياً واجتماعياً. فرئيس الوزراء أو رئيس الجمهورية المسؤول عن شعب بأكمله ودولة بأسرها لا يمكن أن يكون له مرتب متواضع، أو أن يعامل معاملة عادية مثله مثل أي فرد في المجتمع؛ لأن مسؤوليته أكبر من أي مسؤول آخر.
الأمر نفسه يسري على جميع الوظائف والأدوار في المجتمع.
السؤال هنا: هل يتحمل لاعبو كرة القدم مسؤولية كبيرة إلى الحد الذي يجعلهم يحصدون كل هذه الأموال وأن تحاصرهم الأضواء في كل مكان ويصبحوا حديث العالم كله مثلما حدث في صفقة انتقال نيمار إلى باريس سان جيرمان؟ قطعاً لا. والمشكلة الأكبر أن نيمار لا يتحمل هذه المسؤولية بما يعادل ما يحصده من مكانة اجتماعية أو موارد مالية.
أتذكر أن أحد الفلاسفة قال يوماً، "كرة القدم هي أهم شيء تافه في الحياة"، وأن الألماني يورغن كلوب مدرب ليفربول الإنكليزي قال يوماً، "كل ما نقوم به هو إعطاء الناس المنهكين من الحياة 90 دقيقة من المتعة، نحن لا نوقف الحروب ولا نشفي المرضى، ولكن نحاول إسعاد الناس عن طريق ركل الكرة".
لاعبو كرة القدم مسؤولون عن إسعاد الناس وتقديم وجبات كروية دسمة للمشجعين والمشاهدين، لكن يجب أن يتذكر الجميع أن كرة القدم لا تفعل أي شيء أكثر من هذا، وأن خسارة مباراة أو الفوز بها ليس نهاية العالم، سواء للمتابعين أو اللاعبين أنفسهم.
ثالثاً: المهارات المتطلبة من أجل مزاولة الوظيفة؛ اعتمد دايفز موور على مثال الطب، وكيف أن الحصول على رخصة لمزاولة الطب يحتاج إلى الكثير من التدريب والدراسة للحصول على المهارات التي تؤهل أحدهم ليصبح طبيباً، وأنها مكلفة للغاية أيضاً ومرهقة أيضاً، كما أن مزاولتها تحتاج للكثير من المجهود. أي أنه كلما زادت التكلفة المادية والوقت والمجهود المطلوب للحصول على المهارات المطلوبة لأداء الدور أو الوظيفة، يجب أن تزيد تلقائياً العوائد التي يحصل عليها الفرد.
وبإسقاط هذا على حالة نيمار جونيور دا سيلفا، فسيكون من غير المقبول مقارنة ما يقوم به بأي وظيفة أخرى، فلاعب كرة القدم في أغلب الأوقات يبدأ بالحصول على هذه المهارات المطلوبة، إما عن طريق الممارسة الكثيرة للعبة كرة القدم، سواء في الشارع أو في الملاعب، أو حتى عن طريق التدريب الذي ليس سوى ممارسة محترفة للعبة، أو يكون اللاعب موهوباً فطرياً.
وبالقياس من هذه الزاوية، فإنه لا يوجد مبرر حقيقي لكل هذه الأموال التي يتلقاها لاعبو كرة القدم في زماننا.
من كل ما تقدم ذكره، هل يمكن قبول أن يتقاضى أمثال نيمار كل هذه الأموال؟