ثمة ميل عجيب لخلط كرة القدم بالحرب والعسكر، بداية من عادة المشجعين الإنكليز بإنشاد أغاني الحرب العالمية الثانية، حيث ثمة فكرة تقول إن فِرق كرة القدم هي فرع للقوات المسلحة.
ويبدو أن كرة القدم هي كما يقول الكاتب البريطاني جورج أورويل: "هي الحرب ناقص تصويب النار".
لكن في الوقت ذاته، كثيراً ما يتم تصوير الجنود ولاعبي كرة القدم كضدين، فالجنود منضبطون متواضعون يضحون بأنفسهم، فيما لاعبو كرة القدم مغرورون متعجرفون يحبون أضواء البطولة والظهور.
الفكرة أن لاعبي كرة القدم قد يبلون أحسن بكثير لو كانوا كالجنود، وفي الواقع إن أفضل لاعبي كرة القدم في الجيل الماضي كانوا جنوداً، وذلك حسب ما ورد في تقرير لصحيفة The guardian البريطانية.
إيطاليا تحديداً تقدم نموذجاً واضحاً لكيفية استفادة كرة القدم من الجيوش والعكس
في إيطاليا تظل خدمة الجيش الإلزامية منصوصاً عليها قانوناً رغم أن فترتها قلّصت تدريجياً بعد السبعينيات حتى تم إيقافها تماماً في النهاية عام 2004، ما يعني أن لاعبين مثل باولو مالديني وروبيرتو مانشيني اللذين كانا وقتها لاعبين أساسيين في كل من الدوري الإيطالي الممتاز والمنتخب الوطني، تحتم عليهما الالتحاق بالخدمة العسكرية لـ12 شهراً في القوات الإيطالية المسلحة.
عندما تم تبليغ مالديني ومانشيني عام 1988 بضرورة التحاقهما بالخدمة ضج الإعلام والصحفيون بالخبر الجلل وأعقبهم في ذلك مشجعو كرة القدم. كان روبيرتو باجيو يؤدي هو الآخر خدمته العسكرية في الوقت نفسه، وكذلك بين عامي 1995 و1996 خدم كل من فابيو غالانتي وماركو ديلفيكيو وأليساندرو ديل بييرو وفابيو كانافارو خدمتهم العسكرية مرتدين الزيّ الكاكي وحالقين رؤوسهم كقصة شعر المارينز.
لكن هل حملوا السلاح وأطلقوا النار وحفروا الأنفاق حقاً؟
إن كنت تحاول في ذهنك تخيل ديميتريو ألبرتيني يحفر أنفاقاً وخنادق وبيبي سينيوري يفكك أسلحة البنادق النارية ثم يجمعها من جديد، فأنت مخطئ جداً، ذلك لأن لاعبي الكرة المحترفين هؤلاء الذين تبلغوا بضرورة أداء الخدمة العسكرية لم يخدموا في الجيش حسب المتعارف عليه تقليدياً.
فالواضح تماماً أنه لم يكن في مصلحة اللاعبين ولا في مصلحة أنديتهم أن يتعرضوا لإصابة أو لما هو أسوأ منها أثناء أداء المهام العسكرية التقليدية.
كما كان الجيش نفسه يعي تماماً الخطر المحدق بصورته العامة أمام الشعب لو أنه قضى على المشوار المهني للشباب الكروي الواعد، فكان الأفضل بكثير هو التقاط صور سريعة للشباب في مظهر بهيّ بزيهم العسكري، ومن ثم إبقاؤهم في منأى عن الخطر.
وكان يتظاهر أنه يصوب البندقية
وهكذا بعدما انضم هؤلاء إلى الخدمة، لم يبقوا في الثكنات سوى فترة قصيرة نسبياً، كما سمح لهم في تلك الأثناء بأداء التزامات كثيرة أخرى لأنديتهم وبلادهم. يقول ديل بييرو عن الفترة التي قضاها وسط كتائب الرماة: "لقد تظاهرت فقط بأني أصوب، ففي كل حياتي لم أجرب الرمي سوى مرة واحدة على الحمام الطيني، وكان الأمر كارثياً. لن أكون يوماً رامياً ماهراً كباجيو".
فرغم كون باجيو بوذياً فإنه اشتهر بالترفيه عن نفسه بالذهاب إلى الغابات واصطياد الخنازير البرية.
رغم هذا التدليل فقد أدوا دوراً وطنياً كبيراً
لكن الإسهام الرئيسي لهؤلاء اللاعبين الشباب كان اللعب في فريق الجيش الوطني الإيطالي الذي انضم إلى مسابقة كأس العالم العسكرية، وهي مسابقة كرة قدم لفرق الجيوش الوطنية للبلدان، بدأت بطولات هذه المسابقة عام 1946 وهي تقام حالياً كل عامين.
هذا لا يعني أن اللاعبين لم يأخذوا خدمتهم العسكرية على محمل الجد، فجينارو أوليفييري الذي كان وقتها مدرب الفريق العسكري كان مغرماً بالذات بديل بييرو. يقول: "كان كانافارو وقتها مازال في بداية مشواره، أما ديل بييرو فكان لتوه قد فاز بلقب الدوري الإيطالي مع فريق اليوفي، كما كان لاعباً إيطالياً دولياً وسجل أهدافاً في دوري الأبطال".
يضيف أوليفييري: "إن ديل بييرو لم يفعل يوماً شيئاً ليبعد نفسه عن المجموعة، فكنت أقول له: "هيا 10 دقائق وسأخرجك"، لكنه بعد مضي 10 دقائق كان يقول لي: "5 دقائق أخرى يا أستاذ"، ثم بعدها "5 دقائق أخرى"، وهكذا ظل على أرض الملعب الوقت كله. لقد شعر بمسؤولية إسعاد هؤلاء الناس".
رغم أنهم لم يجيدوا حتى تأدية التحية العسكرية لكن الجيش كان فخوراً بهم
"كنا ننظم مباراة في كالابريا من أجل طفل مريض جداً، وكان ديل بييرو في ألمانيا مع اليوفي". هكذا يروي أوليفييري.
ويضيف قائلاً: "لقد اتصلت به وقلت له: لا أعرف هل بوسعك أن تنضم إلينا أم لا، لكن عائلة الولد توسلت إليّ أن أخبرك بأنهم سيقدرون صنيعك جداً".
وبالفعل استقل أليساندرو طائرة من ألمانيا وانضم إلى الفريق.
يعلق المدرب: "لهذا السبب أعشقه، فهذه ذكرى لن أنساها، وقد كانت السلطات العسكرية فخورة بسلوك أليساندرو وزملائه رغم أنهم لم يكونوا جنوداً رائعين، فعندما كانوا يؤدون التحية كانت أصابعهم تصيب أعينهم".
الغريب أن إيطاليا كانت أنجح البلدان بكأس العالم العسكرية لكن حدثت مفاجأة مذهلة
سهل التنبؤ إلى حد ما بأن إيطاليا هي أنجح البلدان في تاريخ كأس العالم العسكرية الذي فازت بلقبه 8 مرات وحلت وصيفة 4 مرات وثالثة 3 مرات، ولعل انتصارها عام 1987 لم يدهش أحداً نظراً للعب جانلوكا فيالي وتشيو فيرارا في صفوف الفريق.
لكن المدهش كان فشل رباعية ديل بييرو وكانافارو وغالانتي وديلفيكيو مدعومة بنيكولا أموروزو وستيفانو فيوري وفرانشسكو فلاكي بالفوز بلقب المسابقة في روما عام 1995.
المفهوم أن إيطاليا ذهبت إلى مسابقة البطولة وافرة الحظوظ والترجيحات للفوز، وقد استهلت البطولة بأبهى لعب فسحقت هولندا 3-0، وفازت على ليبيا 4-2، وفازت على السنغال بنتيجة 8-0، ثم في ربع النهائيات واجهت قبرص وبدا أن الأمور تسير على الوتيرة المرتفعة نفسها مع إحراز ديل بييرو هدف التقدم. لكن قبرص انتفضت وضربت ضربتها مرتين لتهيمن على المباراة بنتيجة 2-1، وهي النتيجة التي انتهت عليها المباراة.
المفاجأة لم تقتصر على ذلك، فالفريق الإيطالي فقد ما يقارب نصف لاعبيه لكن الفوز الكبير تحقق بعد سنوات
المثير أكثر من ذلك هو أن إيطاليا أنهت المباراة بـ7 لاعبين فقط عقب طرد كل من ديل بييرو وكانافارو وديلفيكيو وماركو بيوفانيللي.
وعقب المباراة وفي الممر خارج الملعب تشاجر عدة لاعبين إيطاليين مع الحكم ووجهوا له إهانات، ما أدى إلى توقيف 4 منهم، وهم أموروزو وفلاكي وفيوري وبييريني، ومنعوا من لعب كرة القدم دولياً بأمر من الفيفا.
ونظراً لأنها بطولة مغمورة فإن تفاصيل المباراة غير متوافرة، ولذا يصعب تحديد ما حدث بالضبط، لكن استبعاد لاعب لطيف الكلام خفيض الصوت كديل بييرو الذي طيلة 777 مباراة خاضها في احترافه لم يطرد سوى مرتين، لهو أمر يأبى العقل والمنطق فهمه.
تابع كانافارو وديل بييرو مسيرتهما ليرفعا سوياً كأس العالم في بطولة عام 2006، كما أنهما برفقة ديلفيكيو وفيوري لم تفصلهما سوى دقيقتين عن إحراز بطولة يورو 2000. لعل بذور هذا النجاح زرعت مع روح جماعية مميزة في تلك الثكنات العسكرية في نابولي عام 1995؟ أو لعل الخير في تجاهل ما يقوله لك الناس وفي عدم عقد الكثير من المقارنات بين كرة القدم والعسكر.