هدف في الدقيقة الأولى للمنتخب الدنماركي يشعل الأجواء، ثم تعادل كرواتيّ في الدقيقة الرابعة يزيد من سخونة اللقاء. هكذا كانت افتتاحية المباراة التي اعتقد متابعو الكرة حول العالم أنها ستعوّضهم عن المباراة المملة التي جمعت إسبانيا بروسيا ضمن الدور الثاني من كأس العالم 2018.
إلا أن التوقعات خابت، وتحولت المباراة إلى سجال ممل في منتصف الميدان، مع أفضلية نسبية للمنتخب الدنماركيّ. لكن كلا الفريقين امتلك كمية كافية من الجبن والخوف، تمنعه من الهجوم وفتح الخطوط واللعب من أجل الفوز.
منذ الدقيقة الرابعة للمباراة تشعر وكأن الفريقين في انتظار صافرة الحكم للذهاب إلى ركلات الترجيح! دون إبداء أي رغبة أو شن محاولات جادة من أجل التسجيل.
لكن بدا أن المباراة قرَّرت ألَّا تبوح بكل ما لديها حتى اللحظات الأخيرة. في الدقيقة الـ 115 يمرر الكرواتي لوكا مودريتش الكرة إلى المهاجم أنتي ريبيتش لينفرد بحارس المرمى الدنماركي كاسبر شمايكل ويراوغه، لكن قبل أن يطلق رصاصة الرحمة على المغامرة الدنماركية، قام ماثياس يورغنسن بعرقلة ريبيتش، ليعلن الحكم عن ركلة جزاء.
لن يتقدم لتسديدها سوى القائد لوكا مودريتش بالتأكيد. يتقدم لوكا والدعوات القادمة من زغرب تملأ المدرجات. على الناحية الأخرى يقف كاسبر شمايكل في المرمى، ابن الحارس التاريخيّ للمنتخب الدنماركي ونادي مانشستر يونايتد بيتر شمايكل، الذي يتابع ما يجري من المدرجات.
شمايكل الابن تبدو على وجهه علامات الثقة بشكل عجيب؛ بينما بدا أن مودريتش يأخذ أنفاسه بصعوبة واضحة، شمايكل يصعب الأمور على مودريتش، ويتراقص بقدميه على خط المرمى، وكأنه في حصة تدريبية، وليس في مباراة حاسمة في كأس العالم.
يسدد لوكا على يسار الحارس، يرتمي شمايكل في نفس الزاوية ويحتضن الكرة.
تذهب الكاميرا مباشرة إلى الأب الموجود في المدرجات، الذي كان يصرخ من أعماق قلبه، وكأنه هو من تصدى لركلة الجزاء وليس صغيره.
لم تنته القصة عند هذا الحد؛ كرة القدم ليست فيلماً كلاسيكياً ينتصر فيه الخير على الشر في النهاية، ولا وجود لروميو ليتزوج من جولييت.
تنتهي الأوقات الأصلية بالتعادل، ويعلن الحكم الاحتكام إلى ركلات الحظ، ضربات الترجيح لحسم نتيجة الموقعة.
يدخل نجم توتنهام والمطلوب في برشلونة، كريستيان إيريكسين، لتنفيذ الركلة الأولى. هنا ظهر بطل جديد لقصة هذه المباراة؛ دانييل سوباسيتش، حارس المرمى الكرواتي الذي يحول مسار الكرة لتصطدم بالعارضة، وتخرج، ليعلن أن كاسبر ليس هو المنقذ الوحيد.
ولأن لكل فعل رد فعل، مساوياً له ومعاكساً في الاتجاه، تصدَّى جونيور شمايكل لركلة جزاء ميلان باديلي.
لتبدأ معركة جديدة بين سوباسيتش من جهة وكاسبر من الجهة الأخرى.
يسجل كلا المنتخبين الركلة الثانية والثالثة بنجاح. ثم تأتي الركلة الرابعة لصالح المنتخب الدنماركي، يتقدم اللاعب لاسي شون، وقفته مضطربة، وعيناه زائغتان، وسوباسيتش لن يجد فرصة أفضل من ذلك لكتابة التاريخ، وبالفعل يتصدى لركلة الجزاء الرابعة. بات المنتخب الكرواتي حينها على مرمى حجر من ربع نهائي المونديال للمرة الأولى منذ مونديال "فرنسا 1998".
تعود الكاميرا إلى المدرجات مرة أخرى، بيتر شمايكل جالس بتسليم للقدر، يعلم جيداً أن ابنه فعل كل ما بوسعه لتتأهل الدنمارك، لكن في بعض الأوقات لا يمكننا التحكم في كل شيء على المستطيل الأخضر.
يتقدم جوسيب بيفاريتش ليسدد الكرة، يضبط المستديرة على قدمه اليسرى، يتقدم بينما كاسبر يناظر ويدقق، يرتمي كاسبر إلى اليمين ليمنع الكرة من الولوج إلى الشباك.
سريعاً، تذهب الكاميرا إلى وجه الأب، لنجده في حالة من الذهول والدهشة، ولسان حاله يقول حتى أنا ما كنت لأقوم بكل هذه المعجزات في مباراة واحدة.
يعطينا المخرج لمحة سريعة عن حال الحارس الكرواتيّ، الذي بدا معجباً للغاية بما يقوم به كاسبر، في 1 يوليو/تموز، لكنه بدا راغباً في رفع مستوى التحدي. في تلك اللحظات كان يتقدم نيكولاي يورغنسن لتسديد الركلة الخامسة لصالح الدنماركيين. يورغنسن كان قد قتله التوتر قبل الوصول إلى نقطة الجزاء.
حينها لم يجد سوباسيتش بُداً من إنهاء هذه المعاناة، وإراحة الشعب الكرواتيّ، مرتمياً إلى اليمين، وتاركاً قدميه ممدودتين إلى نهايتهما ليحميا منتصف المرمى، بهذه الوضعية سيوقف الحارس المغامرة الدنماركية مؤقتاً، حتى يأتي إيفان راكيتيتش ويسدد الركلة الأخيرة بنجاح، لتعبر كرواتيا إلى الدور ربع النهائي.
تاركاً الأب في حالة من الحزن على خروج منتخب بلاده، والفخر لما قدمه ابنه اليوم أمام العالم أجمع. ليكتب الحارسان تاريخ مباراة لن تتكرر مرة أخرى.