خلال القرن الرابع عشر، قدّم المؤرخ العربي عبد الرحمن بن محمد بن خلدون نظرية حول الطريقة التي تنهض بها الإمبراطوريات ثم تنهار. وتفيد هذه النظرية بأنه بعد أن تسيطر قبيلة بدوية على عاصمة أو منطقة ما، يصبح هؤلاء الغزاة الطبقةَ الحاكمة.
وأفاد العالم العربي أنه بعد 3 أجيال تقريباً، يصاب المحاربون الذين كانوا يوماً ما يخوضون غمار المعارك، بالضعف والهوان. أحفاد هؤلاء الحكام لم يضطروا يوماً للدفاع عن أرضهم، وهو ما يستغله الغزاة ليطردوهم منها.
على الرغم من أن كرة القدم ليست حرباً، إلا أن هناك تشابهاً كبيراً بين هذه النظرية وميل الفائزين بكأس العالم لكرة القدم إلى فقدان قوتهم على نحو مفاجئ بحسب تقرير لصحيفة The Independent البريطانية. ففي غضون 4 سنوات، يمكن لتشكيلة تضم أفضل اللاعبين في العالم التنحي عن عرش الكرة العالمية والتقهقر وبلوغ مرحلة من الفتور والفراغ.
سبق أن حدث مثل هذا الأمر لمنتخبات مثل فرنسا سنة 2002، وإيطاليا في 2010 وإسبانيا في 2014، ليحين الآن دور ألمانيا. ومهما فعلنا لا بد أن يعيد التاريخ نفسه، ومع ذلك لا نتعلم من أخطائنا، ويبدو أن يواخيم لوف سمح لسجلات التاريخ بالنيل منه.
عقب الهزيمة التي مني بها المنتخب الألماني على يد كوريا الجنوبية 0-2، بدا المدرب يواخيم لوف خائر القوى. وقد كان المدرب القادم من منطقة الغابات السوداء في ألمانيا، الذي اعتاد ارتداء سترة تغطي عنقه، حجر أساس ثورة كرة القدم الألمانية الجديدة التي بدأها المدرب يورغن كلينسمان.
قدم كلينسمان أوراق اعتماده لكرة القدم الألمانية، وبدأ في إعداد الـ "مانشافت" وفق طريقة حديثة للغاية، وهو ما يمكن تشبيهه بالقوة المجهولة القادمة من المحيط. بالنسبة للألمان ولى الزمن الذي كان فيه الانتساب للمنتخب الوطني حكراً على اللاعبين الكبار من ذوي الخبرة في الدوري الألماني.
وبالاعتماد على المساعدة التي قدمها يواخيم لوف، تمكن كلينسمان صاحب اللكنة الأمريكية المميزة من تقديم المنتخب الألماني بشكل مختلف كلياً عن المعهود خلال المباراة الافتتاحية لمونديال 2006، حيث ضم كوكبة من اللاعبين الشبان في خط الهجوم.
لم تفز ألمانيا بكأس العالم 2006، لكن لوف أخذ هؤلاء اللاعبين الشباب وبعد 8 سنوات من الجهود المضنية وإضافة لاعبين مميزين من الدوري المحلي، تمكن أخيراً من تكوين فريقٍ استطاع التغلب على كل الفرق الأخرى ليتوج بكأس العالم في البرازيل. باستيان شفاينشتايغر وفيليب لام وسامي خضيرة ومانويل نوير كانوا في ذروة مستواهم، ليتوجوا في نهاية المطاف باللقب الأغلى في عالم كرة القدم.
عقب الفوز بكأس العالم، كان يتعين على لوف نسيان هذا التتويج والبدء من جديد. وبدلاً من الاستناد على الإنجازات الكبرى التي حققها، كان يتوجب على المنتخب الألماني إيجاد بديلين للاعبيْن سامي خضيرة وباستيان شفاينشتايغر، والتأكد من أن اللاعبين البديلين جاهزان للدفاع عن اللقب، لكن لوف لم يقم بذلك.
خلال حملة الـ "مانشافت" في بطولة أوروبا 2016، التي انتهت بخروج لاعبي يواخيم لوف على يد الفرنسيين في نصف النهائي، افترض الكثيرون أن المدرب الهادئ المطمئن يتحكم في زمام الأمور، لكن الأمر المؤكد هو أن المشكلة بدأت من هناك.
لم يكن الفريق الألماني يتمتع بخدمات فيليب لام آنذاك، بينما اكتفى شفانشتايغر، البطل الآخر من تشكيلة 2014، بلعب دور المشجع الجالس على دكة الاحتياط حتى حلول الدور ربع النهائي، حيث ساعد منتخب بلاده على تجاوز نظيره الإيطالي، الذي لطالما مثل عقدة للألمان في المسابقات القارية.
لكن في مباراة الدور نصف النهائي، كان لاعب خط الوسط وراء تسجيل الخصم الهدف الافتتاحي، عندما ناور بالكرة في منطقة الجزاء، ثم فقد جوشوا كيميتش، البديل الشاب للام، الكرة في منطقته في وقت لاحق من المباراة ليمنح فرنسا النصر النهائي بتسجيل هدف ثانٍ في المباراة.
ربما تجاهل لوف علامات التحذير حينها، لكنها أصبحت أكثر وضوحاً حين كان يشاهد أداء أبطاله العالميين وهو يتقهقر شيئاً فشيئاً على الساحة المحلية خلال العامين التاليين. ففي الموسم الذي تلا كأس أوروبا 2016، لم يسجل توماس مولر إلا 9 أهداف لبايرن ميونخ. وعلى الرغم من أن عدد الأهداف زاد بشكل طفيف تحت إشراف يوب هاينكس في العام التالي، إلا أن المهاجم الألماني بدا كظلٍ لنفسه، وابتعد عن تقمص "مهندس المساحات الفارغة"، الذي سجل 10 أهداف في 7 مباريات في كأس العالم.
منذ كأس أوروبا 2016، استقر خضيرة في نادي يوفنتوس، الذي كان له دور في خفض وتيرة لعب خضيرة في وسط الملعب. كما كان مسعود أوزيل محور نقاشات ومحل سخرية من قبل مشجعي آرسنال، بالإضافة إلى غياب نوير حارس المرمى الشهير، لموسم كامل بعد إصابته بكسر في مشط القدم.
على الرغم من كل هذا، تمسك لوف بلاعبيه، فقد حافظ نوير على مركزه على الرغم من تقدم مارك أندريه تير شتيغن الواضح في برشلونة، وفضل خضيرة على إمري جان، الرجل الذي وقع معه يوفنتوس ليحل محل خضيرة. كما تم التغاضي عن مهاجمي خط الوسط الماهرين على غرار سيرجي غنابري وأمين يونس وليروي ساني لصالح مولر وأوزيل، واللاعب المصاب الذي يبلغ من العمر 29 عاماً، ماركو رويس.
في حين أن جميع هؤلاء اللاعبين الكبار لم يقدموا أداء سيئاً طوال الوقت، سيما أوزيل ورويس، بيد أنهم جسدوا تغير عقلية لوف كمدرب. لقد أصبح الرجل الذي مثّل الذراع الأيمن في ثورة ألمانيا الفتية مدرب منتخب أزعج وآلم مشجعيه في روسيا هذا الصيف.
في كل ظرف تقريباً، تم اختيار لاعب قديم معترف به مكان لاعب حديث السن. ومثله مثل بقية لاعبي المنتخب الذين راقبهم على خط التماس خلال المباريات الثلاث الحاسمة، كانت خطوات لوف متوقعة إلى جانب افتقاره لعنصر الإلهام.
على الرغم من وجود بعض الاستثناءات القليلة، قدم كل من جوشوا كيميتش وتيمو فيرنر وليون غوريتزكا ونيكلاس زوله أداء رائعاً وكانوا يمثلون مواهب شابة، ويميلون إما للعب في صفوف بايرن ميونخ أو بالتأكيد في طريقهم إلى النادي البافاري هذا الصيف أو في الصيف القادم.
وفي نهاية المطاف، لم يعتقدوا أبداً أن المدرب الألماني مهتم ببناء فريق جديد من الصفر.
لا يزال بقايا فريق 2014 في مقدمة ووسط هذا المنتخب، على الرغم من أنهم استمتعوا بوقتهم منذ وقت طويل في السيطرة على كرة القدم وهم الآن في طريقهم نحو الانهيار.
قد يتم منح لوف فرصة أخرى ليحرر نفسه، ولكن بالاستناد على هاتين البطولتين السابقتين، يبدو وكأنه قد تولد لديه، ولدى فريقه من اللاعبين الذين دللهم، شعور بالرضا بفضل النجاح الذي حققوه.
لذا، يحتاج هذا المنتخب إلى ضخ دماء جديدة. وهو بحاجة إلى غزاة جدد حتى يستعيد أفضل لقب في كرة القدم.