20 عاماً مضت منذ خسر “الشيطان الأكبر” أكثر مباراة مشحونة سياسياً في تاريخ كأس العالم!

عربي بوست
تم النشر: 2018/06/21 الساعة 14:42 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/06/21 الساعة 17:35 بتوقيت غرينتش

كرة مطاطية، وشوارع رملية، ولا شيء آخر. هذا ما بدت عليه طفولة جلال طالبي في طهران أثناء الخمسينيات.

في صباح كل يوم، كان يسرع متجهاً نحو الأزقة الضيقة ليلعب كرة القدم. كانت أمنيته هي أن ينافس أخاه الأكبر، الذي كان قائد المنتخب الإيراني لكرة الماء. وكان يرغب في تمثيل دولته مثل أخيه، وأن يلعب أمام الجماهير العريضة. وحلم أيضاً بالوصول إلى كأس العالم.

طالبي قال لصحيفة The Guardian البريطانية، "كانت أول بطولة أتابعها هي بطولة 1966. كان بوبي تشارلتون هو لاعبي المفضل، لأنَّه كان يلعب في نفس مركزي. وتعلمت منه الكثير من الفنيِّات. لا أزال أحبه كلاعب ورياضيّ ورجل فاضل".

أصبح طالبي بالفعل لاعباً دولياً إيرانياً، ولعب في دورات الألعاب الأولمبية كذلك، غير أنَّ إصابةً في الركبة أنهت مسيرته الرياضية في عمر الـ 27. فتوجَّه إلى التدريب، حتى أنَّه قضى موسماً مع ديف سيكستون، الذي كان مدرِّباً لتشيلسي في ذلك الوقت، من أجل أن يتعلم أكثر عن اللعبة. ثم أصبح مدرباً طيب السمعة لنادي داراي، النادي الإيراني الذي بدأ مسيرته معه، وكانت سمعته تصبح أفضل فأفضل.

لكنَّ الثورة حدثت، وتغير كل شيء!

قال طالبي بهذا الشأن، "بعد الثورة، بدأت كرة القدم تعاني. لم تكن هناك نقود، لذلك سافرت برفقة عائلتي لأعمل في الإمارات العربية المتحدة. وكان أصدقائي قد أخبروني عن فرص الدراسة التي قد يحصل عليها أبنائي في بلدانٍ مثل الولايات المتحدة. كانت دولةً كبيرة، مكاناً سمعتُ وقرأتُ عنه. هناك يعيش الناس حياةً جيدة في العموم. وكانت مكاناً حيث يمكن أن أجد عملاً، وهو ما حدث فعلاً. بدأ الأمر على أنَّه استقرارٌ لسنةٍ واحدة، ثم أصبحت سنتين، لكنَّنا أمضينا ما يقارب الـ 40 سنة هنا".

انتقلت الأسرة إلى سان فرانسيسكو، وأنشأ طالبي وزوجته سيرا مطعماً للوجبات النباتية في مدينة بالو ألتو، بالإضافة إلى استمراره في تدريب بعض فرق الكليات المحلية. لكنَّه لم يكن بالانتقال السهل، إذ أنَّ العلاقات الأميركية – الإيرانية كانت في أسوأ حالاتها على الإطلاق.

أسفرت الثورة في العام 1979 عن فرار الشاه محمد رضا بهلوي من إيران، وأصبح آية الله روح الله الخميني المرشد الأعلى للجمهورية الإيرانية الجديدة.

وبعد فترة هاجم الخميني أميركا، واصفاً إياها بـ "الشيطان الأكبر"، ونمت المشاعر المعادية لأميركا. وفي نوفمبر/تشرين الثاني من تلك السنة، هاجمت مجموعة من الشباب الإيرانيين السفارة الأميركية في طهران، واحتجزوا 60 رهينة أميركية. استمرت هذه الأزمة لـ 444 يوماً، وبعدها قطعت الولايات المتحدة العلاقات الدبلوماسية.

وفي العام 1980، حاول الرئيس العراقي صدام حسين بدعمٍ من الولايات المتحدة أن يغزو إيران، واستمرت الحرب التي لحقت هذه المحاولة لثماني سنوات.

بالنسبة لطالبي، بدت محاولة هذا الإيراني الفخور لمجاراة نمط الحياة الأميركي مفارقةً تامة مكتملة. لكنَّه لم يكن وحده، فقد توجَّه عشرات الآلاف من الإيرانيين إلى كاليفورنيا بعد الثورة، وقاموا بنفس محاولته.

وقال طالبي بهذا الصدد، "أنت لا تعرف الثقافة ولا التقاليد، ولا تعرف ماذا ستفعل. عليك أن تبدأ حياةً جديدة في مكانٍ جديد مع أناسٍ جدد ولغةٍ جديدة. كان الأمر صعباً جداً. لكن كانت هناك حربٌ في إيران، ولم تكن بلادي مكاناً يمكن أن يعود إليه أبنائي، أو أن يدرسوا فيه. واعتقدت أنَّه كان من الأفضل توفير هذه الفرصة لهم في الولايات المتحدة. لكنَّ البقاء بعيداً عن موطنك وبيتك هو أمرٌ صعب".

بنى طالبي وعائلته حياةً مستقرة في الساحل الغربي، لكن في أواخر التسعينيات، استدعته بلاده في ظروفٍ استثنائية.

فقد تأهلت إيران لكأس العالم 1998 بعد فوزها على أستراليا في مباراةٍ فاصلة. غير أنَّ المدرب فالدير فييرا أُقيلَ بعدها بفترةٍ قصيرة، ثم أقيل بديله توميسلاف إيفيتش قبل أقل من شهر من بداية البطولة، فاختيرَ طالبي، الذي كان قد عُيِّن مستشاراً فنيِّاً للمنتخب قبل بضع أسابيع.

كان وجوده في فرنسا بمثابة حبكة متقنة لما كان أصلاً حدثاً درامياً آسراً. فقد وضعت القرعة إيران في المجموعة السادسة، مع كلٍّ من ألمانيا ويوغوسلافيا والولايات المتحدة.

وبالطبع، تراجعت كرة القدم لصالح السياسة، وركزت الفترة السابقة للمباراة مع أميركا على السياسة. ورفض بعض اللاعبين الالتزام بالصمت.

فقد صرَّح المهاجم الإيراني خوداداد عزيزي قائلاً، "لن نخسر، تنتظر الكثير من عائلات الشهداء منا أن نفوز"، في إشارةٍ إلى عدد القتلى والجرحى الإيرانيّين جراء الحرب الإيرانية – العراقية الذين تُقدَّر أعدادهم بـ 500 ألف.

وأضاف، "سنفوز من أجلهم".

وفي المعسكر الأميركي المقابل، ساد جوٌ مختلف بعض الشي.

فقد صرَّح لاعب الوسط الأميركي تاب راموس، "أعتقد أنَّ هذه المباراة مهمة بالنسبة لهم أكثر مما هي مهمة بالنسبة لنا"، متحدِّثاً عن الأهمية السياسية والتاريخية للمبارة.

وأضاف، "لم أسمع أحداً يقول 'لنهزم إيران، لنهزمهم من أجل بيل كلينتون'".

وحاول طالبي ونظيره ستيف سيمبسون بصعوبة أن يلتزما بمناقشة أخبار الفريقين وتكتيكاتهما مع وسائل الإعلام العنيدة.

وقال طالبي، "كان بإمكاني الحديث في السياسة، لكنَّه لم يكن الوقت المناسب. لقد كانت تلك بطولة كأس العالم، ولم يكن ذلك الحديث مناسباً في البطولة".

أما سيمبسون، فقد وصلته على وجه الخصوص تعليماتٌ بأن يكون حذراً في اختيار كلماته. وقال عن ذلك "طلب مني (فيفا) واتحاد الولايات المتحدة لكرة القدم عدم تسييس المباراة. لم يريدوا مني أن أُرسِّخ العنف أو أزيده عما كان عليه. لكنَّ الرياضة والسياسة متشابكان تماماً. وحقيقة أنَّ هناك مواطنين أميركيين اتَّخذتهم الحكومة الإيرانية رهائن لفترة طويلة من الزمن … أنا كبير بما يكفي وعاصرتُ ذلك الوقت وأفهمه. لكنَّ معظم اللاعبين كانوا أصغر من أن يدركوا أهمية ما كان يجري بشكلٍ صحيح".

وتابع، "لم نسيِّس المباراة، لكنَّ إيران فعلت، بل وسيَّستها لأقصى حدّ. أعتقد أنَّ الحكومة الإيرانية جعلتها مباراة سياسية. وإذا ما كنتُ راغباً في إعادة الأمر مجدداً، كنتُ لأستدعي تاريخ البلدين في حديثي مع اللاعبين، وأستخدمه كأداةٍ تحفيزيّة للحصول على نتيجة. لكنِّي اخترتُ ألا أفعل هذا في ذلك الوقت".

ظلَّ طالبي هادئاً ورابط الجأش. وكانت قصته -قصة المهاجر الإيراني في الولايات المتحدة، الذي يحاول أن يلحق الهزيمة بالبلاد التي منحته حياةً جديدة – مادةً إعلامية مثيرة. لكنَّه لم يجد وضعه معقداً أو مثيراً للاهتمام مثلما ظنَّ الآخرون.

فقد قال بهذا الشأن: "لم يكن الأمر صعباً بالنسبة لي. كنتُ سعيداً بمساعدة بلدي، لكنِّي سعيدٌ بالعيش في الولايات المتحدة كذلك. فهي البلاد التي منحتني الفرص، ولم يكن الأمر كما لو أنَّني أرغب في إيذاء البلاد التي منحتني وعائلتي فرصةً لنحظى بمستقبلٍ أفضل".

حاول المنظمون التقليل من شأن أي تهديداتٍ محتملة، لكنَّ الجو المحيط بتجهيزات المباراة ظلَّ مليئاً بالتوتر. وحتى قبل الوصول إلى المباراة، رافق أفراد أمن لاعبي الفريق الأميركي وعائلاتهم. وفي فرنسا، تواجدت شرطة ترتدي ملابس مدنية في تدريبات المنتخب، وفي الفندق الذي أقاموا فيه.

وقال سامبسون، "كنا قد تلقينا قبلها خسارة من ألمانيا بنتيجة 0-2، وكان يجب أن نفوز في مباراتنا ضد إيران لنحافظ على فرصتنا في التأهل. لذا كان ذلك مشتتاً للتركيز بشدة. لكنِّي لا أذكر أنَّنا لعبنا بتركيزٍ مشتت. ولا أذكر أنَّ لاعبينا قد ألقوا بالاً للسياسة أو لسلامتهم. كل ما أرادوه هو أن يكسبوا المباراة".

وأثناء مراسم ما قبل المباراة المخطط لها بعناية في معلب "جيرلان" بمدينة ليون الفرنسية، أعطى اللاعبون الإيرانيون وروداً بيضاء إلى منافسيهم الأميركيين كرمزٍ للسلام، ووقف كلا الفريقين بجانب بعضهما لالتقاط صورةٍ جماعية. وبالنسبة للبعض، كانت الفكرة القائلة بأنَّ كرة القدم يمكن أن تخفّف بطريقةٍ ما عقوداً من العداء هي فكرةٌ لا تعدو عن كونها كلاماً فارغاً، وافتراضات، وتعجرفاً محضاً.

لكنَّ آخرين شعروا حيال ذلك بشكلٍ مختلف.

قال طالبي، "سأبقى أذكر هذه الصورة لما تبقى من حياتي. فجميعنا بشر، ولسنا أعداء. يمكن أن نلعب مع بعضنا، وأن نحترم بعضنا بعضاً، وأن نصافح أيدي بعضنا، وأن نتبادل التهاني، وأن نتخطى ذلك ونتجه نحو المباراة التالية. لقد بذلنا قصارى جهدنا لنُريَ الجميع أنَّنا نمتلك تاريخاً من الفخر، وأنَّنا لم نكن هناك لنحارب. لقد كنا هناك لنلعب كرة القدم".

بفضل الهدفين اللذين أحرزهما حميد رضا ستيلي ومهدي مهدافيكيا، استطاعت إيران في تلك الليلة أن تحقق أول انتصار لها على الإطلاق في بطولة كأس العالم.

ضمنت النتيجة كذلك خروج الولايات المتحدة من البطولة، كانت الاحتفالات في طهران محمومة بلا أدنى شك، فقد خرج آلاف الإيرانيين إلى الشوارع احتفالاً بانتصارهم.

وعلى الجانب الآخر بالقرب من سان فرانسيسكو، تعانق أبناء طالبي الثلاثة مع إطلاق حكم المباراة صافرته معلناً نهاية المباراة. حتى زوجته، التي منعها توترها الشديد من أن تتابع المباراة، سارت أخيراً نحو غرفة المعيشة، ونظرت إلى اللقطات المعروضة على تلفازها وبدأت في النحيب.

يقول طالبي، "مر 20 عاماً، لكنِّي ما زلتُ لا أعرف كيف أعبر عن الشعور الذي انتابني في تلك اللحظة من ذلك اليوم. لا أستطيع شرح الأمر. لا تزال في قلبي وعقلي. ولكن ليس لأنَّها كانت الولايات المتحدة. لقد كان أول انتصارٍ في كأس العالم في وقتٍ كان الشعب الإيراني ينتظر أن يشعر بالسعادة. وجعل ذلك الناس سعداء. الناس في بلادي لم ينسوا تلك الليلة، وكيف رقصوا في الشوارع حتى الصباح الباكر".

نجحت المباراة في تقريب البلدين من بعضهما، وبعد 18 شهراً تقابلا مرةً أخرى في مباراةٍ ودية في مدينة باسادينا بولاية كاليفورنيا.

وقال المدافع الأميركي السابق جيف أغوس تعليقاً على المباراة آنذاك، "فعلنا في 90 دقيقة أكثر مما فعله الساسة في 20 عاماً".

بيد أنَّ الأمور لم تستمر على نفس النهج على الإطلاق منذ ذلك الحين.

عادت حالة التوتر والارتياب في أعقاب تعليق "محور الشر" الشهير الذي صرح به الرئيس الأميركي جورج بوش الابن عام 2002. وبالرغم من إبرام اتفاقٍ نووي تاريخي في العام 2015 بين إيران من جانب والولايات المتحدة وخمس دول أخرى من جانبٍ آخر (وهو ما قوبل بمشاهد أكثر ابتهاجا في شوارع طهران)، أعلن دونالد ترامب في مايو/أيار 2018 انسحاب بلاده من الاتفاقية، وأعاد فرض عقوباتٍ على إيران كانت رُفِعَت بعد توقيع الاتفاق.

ويقول طالبي، "إذا كان هناك أي اختلافٍ بين بلدين، يجب أن يجلسا أمام بعضهما ويتحدثا ويحلا المشكلة. يحتاج الناس أن يُسمَعوا لأنَّ الناس هم من يعانون. هم من يدفعون ثمناً أكبر من أي شخصٍ آخر. أتمنى وآمل أن يتحدث هؤلاء المسؤولون عن سعادة بلادهم وشعوبهم وأن يحلوا الخلافات دون معاقبة هؤلاء الذين سيكونون أشد المتأثرين".

استقال طالبي من منصب المدير الفني للمنتخب الإيراني في أغسطس/آب 1998. وعاد لفترةٍ قصيرة بعد عامين لتولي تدريب المنتخب الإيراني، وحصل كذلك على عقدٍ لقيادة المنتخب السوري. والآن يعيش الرجل في منتصف العقد السابع من عمره، ولا يزال يزور طهران باستمرار ليرى عائلته. يسير طالبي في نفس الأزقة الضيقة حيثُ لعب كرة القدم عندما كان صغيراً وحلم بأن يلعب في كأس العالم. لكنَّ الأمر مختلفٌ الآن.

ويختم، "لا تزال الشوارع هناك كما كانت"، ثم توقف برهةً وأضاف: "لكن تغيَّر كلُ شيء".

تحميل المزيد