أن تعيش وتنزف الدماء لبلد ثم تحرم من حق الإقامة فيه.. كيف أصبح بطل ملاكمة مجرماً في نظر بريطانيا؟

كان ينبغي أن يكون افتتاح دورة الألعاب الأولمبية بلندن في السابع والعشرين في يوليو/تموز من عام 2012 لحظة انتصار لكالفن بلال فواز

عربي بوست
تم النشر: 2018/05/26 الساعة 09:21 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/05/26 الساعة 12:47 بتوقيت غرينتش
Bilal Fawaz

كان ينبغي أن يكون افتتاح دورة الألعاب الأولمبية بلندن في السابع والعشرين في يوليو/تموز من عام 2012 لحظة انتصار لكالفن بلال فواز. فالملاكم الشاب الموهوب كان قد تُوِّجَ قبل ذلك بوقتٍ يسير بطلاً للهواة في إنكلترا عن فئة الوزن المتوسط، وكان من المقرر أن يدخل بصحبة لاعبي فريق الأولمبياد الإنكليزي إلى ملعب الأولمبياد.

وُلد فواز في نيجيريا، وهُرِّبَ إلى لندن حين كان صغيراً، حيثُ أنقذته الدولة ونشأ تحت رعايتها. وحين وصل إلى مرحلةٍ أصبح فيها بطلاً، مستعداً لتمثيل بلاده، وفي انتظاره مستقبلٌ مهني واعد، كانت هناك مشكلةٌ واحدةٌ: وهي أنَّه ليس مواطناً إنكليزياً.

هنا تفاصيل القصة كما كتب عنها دانيال تريلينغ بصحيفة The Guardian البريطانية.

لم يكن من الواضح إذا كان يملك تصريحاً للبقاء في لندن

حين كان صغيراً مُنِحَ رخصةً مؤقتة للبقاء في البلاد حتى قبل أن يبلغ الثامنة عشرة مباشرة؛ ولكن كان عليه أن يقدم طلباً لتمديد مدة هذه الرخصة بعد أن أصبح بالغاً.

وبحلول عام 2012، حين كان في الرابعة والعشرين، كان لا يزال في انتظار الرد على الطلب. فأصبح حاله كحالنا، وجلس يشاهد الألعاب الأولمبية في التلفاز.

ومنذ ذلك الحين، خسر فواز كل شيء تقريباً: مساره المهني الوليد، وزواجه، وبالطبع حريته. والآن وقد بلغ التاسعة والعشرين، وجد نفسه وقد قضى كل حياته مذ شب عن الطوق في المملكة المتحدة دون وضع إقامةٍ قانوني، مما يعني أنَّه لا يملك الحق في العمل، ويمكن أن يخضع للاعتقال والترحيل في غمضة عين.

وطوال العقد الماضي، قدم طلباتٍ والتماسات لتمديد رخصته للإقامة، وقدم على طلب تأشيرة زوجية، بل وحتى طلب أن يتم تسجيله باعتباره شخصاً عديم الجنسية. ورفضت وزارة الداخلية جميع هذه الطلبات، على اعتبار أنَّها ترى وجوده في المملكة المتحدة أمراً غير مرغوب فيه.

وفواز أُدين في مراهقته بحيازة القنب والقيادة دون تأمين والغرافيتي

لفتت فضيحة ويندراش الأنظار إلى سياسة "البيئة العدائية" التي خلقتها تيريزا ماي عام 2012 لإخراج المهاجرين غير المرغوب فيهم من المملكة المتحدة. الفضيحة التي انتهت في أبريل/نيسان 2018 باستقالة وزيرة الداخلية البريطانية آمبر راد بعد أن اعترفت راد أنها "ضللت أعضاء البرلمان بصورة غير متعمدة" بشأن خطط الحكومة لترحيل أعداد من المهاجرين غير الشرعيين.

إلا أنَّ فواز سقط في شباك سياسةٍ أخرى أقل شهرة، وهي خطة وضعتها وزارة الداخلية البريطانية لإنهاء وجود اللاجئين، بزعم استهداف المجرمين الأجانب الأكثر خطورة.

تعرف هذه الخطة باسم "عملية نيكسس" أو "Operation Nexus"، وهي مبادرةٌ مشتركة بين قوات الشرطة وإدارة إنفاذ قوانين الهجرة في المملكة المتحدة. لم تحظَ العملية التي بدأت عام 2012 إلا بالقليل من الاهتمام العام، ولم تُنشَر مذكرات الإرشادات الرسمية التي تصفها إلا العام الماضي (2017).

ومع ذلك، فإنَّ هذه العملية تذهب إلى نقطةٍ أبعد من الخطط السابقة في ترحيل "المجرمين الأجانب"؛ لأنَّها تشمل من ضمن من تستهدفهم أشخاصاً مثل فواز لم يسبق أن دخلوا السجن قَط. ففي أواخر سنوات المراهقة وأوائل العشرينات من عمره، أُدينَ فواز بسبب جنحٍ بسيطة، مثل حيازة القنب والقيادة دون تأمين ورسم الغرافيتي على الحائط.

ويشير فواز إلى أنَّه لم يسبق أن صدر عليه حكمٌ أقسى من الخدمة المجتمعية، وجادل بأنَّه شخصٌ مستقيم. غير أنَّ شيئاً من هذا لم يكن مهماً بالنسبة لوزارة الداخلية.

ويعيش الآن على التبرعات ويبيت في النادي بعد التدريب

في الواقع، تحاول الدولة منذ سنواتٍ عديدة إجبار فواز على الخروج من المملكة المتحدة، ولكنَّه لا يملك مكاناً آخر ليقصده. فعلى الرغم من أنَّه وُلِدَ في نيجيريا، فإنَّ والدته تنحدر من بنين، ووالده من لبنان. وعلى ذلك، لن تقبله نيجيريا باعتباره مواطناً، وبحسب قوله فإنَّ بلدي أبويه لن يقبلاه كذلك. ولا تصدقه وزارة الداخلية في ذلك؛ لذا فهي لا تكفُّ عن محاولة إخراجه أبداً.

يعيش فواز على التبرعات وعلى ما يتقاضاه نظير التدريب في نادي الملاكمة الموجود في حيه. ويمثل هذا النادي كل حياته: فهو يقوم بكنسه وتنظيف حماماته، بل وكان يبيت فيه في الأوقات التي لم يجد فيها مكاناً آخر ليقصده.

ومن الناحية القانونية، يوشك فواز على أن يصل إلى طريقٍ مسدود. وربما يكون أفضل اختيار متاح أمامه هو أن يضع نفسه مرةً أخرى تحت رحمة وزارة الداخلية، ويتوسل إلى الدولة لتتعاطف معه وتستثنيه من سياستها.

من هذه الناحية يعد فواز أوفر حظاً من غيره ممن هم في موقفه نفسه؛ إذ يملك موهبةً لا يمكن إنكارها، كما أنَّ تقديم إسهامات للمملكة المتحدة من خلال الرياضة يعد طريقاً مألوفاً لقبول المهاجرين.

مثَّل فواز إنكلترا 6 مرات في مسابقاتٍ دولية، من بينها مسابقاتٍ ضد نيجيريا: وكما يقول فواز، فقد نزف الدماء، بالمعنى الحرفي للكلمة، في سبيل البلد الذي تبناه، في حلبة الملاكمة. وعلى الرغم من تقلُّب ظروف حياته، فإنَّه استطاع أن يسهم فيها بتمرير ما يملكه من معرفة إلى الشباب والأطفال في نادي الملاكمة الذي يعمل به، لكي يتجنبوا ما وقع فيه من أخطاء.

إلا أنَّ وزارة الداخلية لها رأيٌ آخر، فمسؤولو العلاقات العامة بوزارة الداخلية يشيرون إلى أنَّ فواز اتُهِمَ في ما يبلغ 15 قضية جنائية. واعتاد هؤلاء المسؤولون الرد على أسئلة الصحفيين بعبارةٍ واحدة: "نتوقع من الأشخاص الذين لا يملكون ترخيصاً للبقاء في المملكة المتحدة أن يغادروا البلاد طواعيةً. وحين يمتنعون عن ذلك، سنسعى إلى إنفاذ القانون وترحيلهم".

وبعد سنواتٍ من العيش في قلقٍ وشك، أُلقيَ القبض على فواز بصورةٍ مفاجئة في نوفمبر/تشرين الثاني 2017، ووُضِعَ قيد الاحتجاز، وأخبرته السلطات أنَّه يمكن أن يُرحَّل في أي لحظة إلى نيجيريا. وأصبحت قصته محل اهتمام المواقع الإخبارية البريطانية.

وبدأ أحد الأشخاص جمع توقيعات لعريضة تطالب وزارة الداخلية بمنح فواز حق الجنسية، ووقع عليها أكثر من 100 ألف شخص. وبعد عدة أسابيع قضاها في مركز احتجاز، أُفرِجَ عنه بكفالة.

لا يريد أن يطلب مساعدة ويفضل الأسئلة الإنسانية

يتساءل دانيال تريلينغ صحفي الـ The Guardian: هل كان هذا الشخص جاداً في عمله؟ هل أسهم بشيء للمملكة المتحدة؟ هل التزم بالقوانين؟ "ولو انتهينا إلى أنَّه لا يستحق هذه المعاملة، فسنستخلص ضمناً أنَّ غيره يستحقها بكل تأكيد: ويكون لسان حالنا: "آهٍ لو تمكنا من إنشاء منظومة للهجرة تمسك بالأجانب السيئين -الخارجين عن القانون والمجرمين- وتترك الأبرياء وشأنهم".

ويرى الكاتب أن حالة فواز تظهر كيف أنَّ المملكة المتحدة، في سعيها للتمييز بشكلٍ متزايد الحدة بين من يستحقون البقاء في المملكة المتحدة ومن لا يستحقون، أدخلت العديد من الناس في دوامةٍ بيروقراطية جعلت وجودهم على أرض المملكة المتحدة عملاً إجرامياً من الناحية العملية.

ولكن ماذا لو كانت سياساتنا تخلق وجود "المهاجرين غير الشرعيين" بدلاً من العثور على الموجودين منهم بالفعل؟

التقى كاتب المقال بفواز في أوائل شهر فبراير/شباط من العام الجاري حين انضم إلى مجموعةٍ من النشطاء من منظمة 38Degrees لتسليم عريضته في مقر وزارة الداخلية البريطانية في ويستمنستر.

وصل متأخراً، وسلَّم على الحضور كما لو كان يعرفهم منذ زمن. وحين طلب من كاتب المقال التقاط صورةً له في مدخل وزارة الداخلية لينشرها على حسابه على موقع إنستغرام، كان في غاية اللطف. قال: "هذا جيدٌ جداً" بصوتٍ رخيم تغلب عليه لكنة أهل لندن. وأعطى تعليماتٍ مهذبة لا تنقصها الصرامة لطاقم التصوير الذي كان يُجري مقابلةً معه: "لا تسألوني كيف يمكن للناس أن يساعدوني. فقط اطرحوا أسئلةً إنسانية".

بريطانيا لا تفرق بين المهاجر غير القانوني والمجرم

وفي الأشهر الأخيرة، وبفضل إصرار الصحافة على الحديث عن الموضوع، أصبح مصير جيل ويندراش فضيحةً على مستوى البلاد. واتسع نطاق التركيز ليشمل في الوقت الراهن الأشخاص العالقين في براثن "البيئة العدائية"، وهي المنظومة القاسية من ضوابط الحدود الداخلية التي اعتنقتها رئيسة الوزراء باعتبارها سياستها الرئيسية حين كانت وزيرةً للداخلية.

غير أنَّ الجدل الداخلي المحتدم داخل بريطانيا حول الهجرة يستند إلى ثلاث فئات لم يوضع لها تعريفٌ واضح، وهي الفئة "غير القانونية"، و"الإجرامية"، و"الأجنبية".

من السهل في الواقع أن نشهد كيف تبدلت معاني هذه الفئات بفعل ضغط الغضب الإعلامي وسياسة الحكومة. وعلى مدار العقدين الماضيين، كان التحول يسير في اتجاهٍ واحد: توسعة نطاق فكرتنا عن ماهية "المجرم الأجنبي" و"المهاجر غير القانوني"، ما يبرر بدوره اتباع سياسات قاسية وبنى شمولية.

وتتحمل وزارة الداخلية المسؤولية الأكبر في هذه السياسات

الوزارة هي الجهة الحكومية التي ربما تملك معظم التأثير المباشر على حياتنا اليومية. فهي مسؤولة عن الشرطة وخدمات الإطفاء وجهاز الاستخبارات الداخلية وأجهزة الهجرة وضبط الحدود؛ باختصار، هي مسؤولة على عدة أوجه عن الطرق التي يُفترض أن تعمل أي دولة من خلالها للحفاظ على سلامة مواطنيها.

غير أنَّ الوزارة بسبب هذا الدور الذي تلعبه، غالباً ما تجد نفسها تحت ضغطٍ من داخل الحكومة أو خارجها. فهي من ناحية تتعرض لهجومٍ من وسائل الإعلام التابعة لليمين بسبب ما تراه هذه الوسائل إخفاقات من الوزارة في منع الجريمة أو التحكم في الهجرة، ويهاجمها النقاد من التيار الليبرالي لتعنتها الجلي في التعامل مع الأمور.

ومن ناحيةٍ أخرى، تجد الوزارة نفسها أحياناً عالقةً في مشكلاتٍ مع وزاراتٍ أخرى في الحكومة؛ إذ يتركز انتباهها على رجل الشارع العادي في بريطانيا بينما المسؤولون في الوزارات الأخرى يتخذون قراراتهم حسب ما هو أفضل للنمو الاقتصادي والتنافسية فقط.

والنتيجة النهائية لذلك، كما انتهت مجموعة من الباحثين في كتابٍ نُشر حديثاً بعنوان 'Go Home? The Politics of Immigration Controversies"، هو "منظمة تشعر بالتحفز الدائم ولا يفهمها أحد"، تضع سياسةً جديدة "بسرعة تفوق المعتاد" في الغالب رداً على ضغطٍ من وسائل الإعلام وبترقبٍ لردود فعل المنظومة الإخبارية.

والجريمة إذا جاءت من أجنبي فإنها تثير العواصف السياسية والإعلامية

وعلى الرغم من أنَّ السياسات التي أدخلتها ماي كانت من أكثر السياسات تشدداً، فإنَّها كانت تعد جزءاً من نمطٍ يمتد أجله لمدةٍ أطول من العداء للمهاجرين. ومن بين بؤر التوتر في هذه العملية هي الكيفية التي تتعامل بها الدولة مع المجرمين الأجانب الذي يقترفون جرائم على التراب الإنكليزي.

ويعد هذا جزءاً بالغ الحساسية في منظومة الهجرة داخل بريطانيا: فغالباً ما تؤدي الجرائم الخطيرة التي يقترفها أشخاصٌ لهم حق محدود أو لا يملكون الحق أصلاً في الوجود في البلاد إلى تغطيةٍ صحفية غاضبة، تماماً كما تؤدي العراقيل الإجرائية الموجودة لترحيلهم، مثل قوانين حقوق الإنسان.

وكثيراً ما يصعب علينا أن نقرر سبب الغضب: هل هو الجريمة نفسها؟ أم كونها وقعت على يد جانٍ أجنبي؟ في ظل هذا المناخ، لما يربو على العقد، تعهدت حكوماتٌ متعاقبة بترحيل أعدادٍ أكبر من هؤلاء الناس، ولكنَّها بفعل ذلك، اتبعت منطقاً خطراً تحولت بموجبه طبيعة التهديد الذي يُفترض أن تتم حمايتنا منها، من الجرائم الواضحة إلى فئةٍ ملتبسة وفضفاضة تُسمى "المجرمين الأجانب".

وكانت أول عاصفة إعلامية حول المجرمين الأجانب في صيف 2006

يومها تبين أنَّ ألفاً من المسجونين الأجانب قد أُفرجَ عنهم بعد انتهاء محكوميتهم دون التفكير في ترحيلهم، حسبما تقتضي القوانين.

وعلى وقع هذه العاصفة أُجبِرَ تشارلز كلارك وزير الداخلية المنتمي إلى حزب العمال على الاستقالة؛ وأعلن سلفه جون ريد أنَّ مديرية الهجرة "غير صالحة لتنفيذ ما أنشئت لأجله"، وأدخل عليها سلسلةً من الإصلاحات لاسترداد ثقة الرأي العام في المنظومة.

وأُعيدَ وضع العلامات على حدود المملكة المتحدة، بالأعلام والعلامات المميزة والعاملين الذين يرتدون زياً موحداً، وتركزت الاستراتيجية الإعلامية على بث المزيد من المداهمات المتعلقة بالهجرة في وسائل الإعلام.

وفي عام 2007، أدخل قانون الحدود للمملكة المتحدة مادةً تقضي بالترحيل التلقائي للـ"مجرمين الأجانب" المتهمين بجرائم خطيرة، والمسجونين لأكثر من 12 شهراً.

ثم وسَّع حزب العمال تعريف "المجرم الأجنبي الخطير"

ومنذ حقق حزب العمال الجديد نصراً ساحقاً في انتخابات عام 1997، حاولت حكومته الالتفاف على منتقديها من اليمينيين من خلال اتخاذ إجراءاتٍ صارمة بشأن الجريمة والهجرة.

وبدلاً من دحض الادعاء بوجود صلة وثيقة بين الظاهرتين، عزز الحزب الفكرة؛ إذ احتوى البيان الانتخابي لحزب العمال عام 2010 على قسمٍ بعنوان "الجريمة والهجرة". وفي الأيام الأولى لحزب العمال الجديد، انصب تركيزه على طالبي اللجوء، الذين استهدفتهم ادعاءاتٌ إعلامية مبالغ فيها بأنَّهم يحاولون استغلال منظومة حماية اللاجئين الموجودة في بريطانيا.

وفي بدايات القرن الحالي، وسَّع حزب العمال بصورةٍ مذهلة شبكة مراكز احتجاز اللاجئين في المملكة المتحدة، بهدف احتجاز طالبي اللجوء حتى النظر في طلباتهم. وفي عام 2007، وجدت الحكومة استخداماً جديداً لهذه المنشآت: وهو احتجاز العدد المتزايد من الأجانب المدرجين على قائمة الترحيل بعد انتهاء مدد سجنهم.

وفي غمضة عين، وسَّع حزب العمال تعريف "المجرمين الأجانب الخطرين". وكان لهذه السياسة أثرٌ فوري؛ إذ زاد عدد الجناة المرحلين من المملكة المتحدة بعد أن كان 3000 عام 2007 إلى ما يقرب من 4500 عام 2008. غير أنَّ الحزب لم يقدم الكثير ليختفي موضوع الهجرة من أذهان الناخبين أو محرري الصحف.

تيريزا ماي تسعى الآن لخلق بيئة عدائية ضد المهاجر غير القانوني

حين وصل المحافظون إلى السلطة، وبعد أن تعهدوا بتقليل عدد المهاجرين إلى "عشرات الآلاف"، ركزت وزيرة الداخلية آنذاك تيريزا ماي كثيراً من طاقتها على إخراج الأشخاص غير المرغوب فيهم من المملكة المتحدة.

وفي عام 2012، عقدت مقابلةً مع صحيفة The Daily Telegraph، وأعلنت فيها نيتها خلق "بيئةٍ عدائيةٍ جداً" للمهاجرين غير القانونيين: بما في ذلك مبادراتٍ للتعرف على هؤلاء المهاجرين وترحيلهم، أو تصعيب الحياة اليومية عليهم كي يغادروا من تلقاء أنفسهم.

وتبع ذلك إصدار عددٍ من القوانين عامي 2014 و2016 تحت مظلة قوانين الهجرة، وسعت نطاق السيطرة على الحدود ليشمل الحياة اليومية من خلال تجريم المخالفات البيروقراطية، وإجبار موظفي الحكومة والشركات الخاصة على التأكد من حالة الهجرة للعملاء المحتملين لديهم. وصحبت هذه القوانين إجراءاتٌ لتشجيع الهيئات الحكومية على جمع بيانات الهجرة ومشاركتها بصورةٍ أكثر فعالية.

في الوقت ذاته اتسعت عملية نيكسس لتشمل سلسلةً من قوى الشرطة في إنكلترا. ويعد تعريف هذه العملية للمجرمين الأجانب أوسع بكثير من تعريف السياسة التي كانت موجودةً قبل عام 2007، وأوسع أيضاً من إعادة تعريف حزب العمال الجديد لها. ويقع في اختصاصها عتاة المجرمين، وكذلك من اقترفوا جنحاً صغيرة.

وتهدف إلى إقناع الناس بالمغادرة من تلقاء أنفسهم

نظرة واحدة على أرقام الأشخاص الذين رُحِّلُوا خارج البلاد تُبيِّن أمراً غريباً. فعدد الأشخاص المرحلين من داخل البلاد ظل ثابتاً تقريباً في نطاق ما بين 10 آلاف و12 ألف شخصٍ سنوياً، مقابل من رُفِضَ دخولهم من المطارات والموانئ أصلا. وذلك لأنَّ ترحيل شخص، أو "الإبعاد القسري" له كما تقول السلطة تأدباً، يعد عمليةً معقدة.

وتُطلعنا وثيقةٌ لوزارة الداخلية تحمل عنوان "دليل إعادة المواطنين إلى بلادهم" (Country Returns Guide) شيئاً من الإيضاح والتفصيل: فهذا الجدول المقدم لموظفي الحكومة يُدرج أكثر من 200 دولة مع ملاحظاتٍ على مدى تعاون تلك الدول في استرداد مواطنيها من المملكة المتحدة.

وإلى جانب كل خانة حسب الإمكانية توجد تعليقات تشير بالتقريب إلى المدى الذي يستغرقه إصدار وثيقة سفر (من بضعة أيام إلى 6 أشهر، حسب الدولة)، ونوع الدليل الداعم اللازم لإثبات جنسية الشخص، والملاحظات على الدولة نفسها. وفي حالاتٍ عديدة تكون المعلومات غير واضحة او غير مكتملة.

ولهذا السبب كانت سياسات ماي تهدف إلى اقناع الناس بالمغادرة من تلقاء أنفسهم. ولكن في حين يمكن للمرء أن يتوقع ارتفاع عدد "العائدين طواعيةً" منذ عام 2012، فإنَّ العدد لم يشهد زيادةً كبيرة أيضاً؛ بل إنَّ إجمالي عدد حالات العودة، الطوعية أو القسرية، قد انخفض في الواقع منذ عام 2014.

وكلما سعت السياسات الجديدة إلى إيقاع المزيد من الناس في مصيدة الهجرة التي تنصبها الدولة، قل عدد الأشخاص الذين يرحلون أو يُرحَّلون. وبدلاً من الرحيل يجد هؤلاء الأشخاص أنفسهم في حالةٍ من عدم اليقين يمكن أن تستمر لسنواتٍ عديدة. وهذا ما حدث لفواز.

لذلك تصرخ الشرطة في اللافتات: اذهب إلى وطنك إذا كنت غير قانوني

في مساءات الأربعاء، يعج نادي ستونبريدج للملاكمة بالزوار. ذات ليلة في منتصف فبراير/شباط 2018، كان هناك نحو 50 شخصاً في النادي لتلقي التدريب، وبرفقتهم حفنة من المدربين يصرخون فيهم.

أما صالة الألعاب الرياضية في الطابق الثاني من مجمع المكاتب غير مكتمل البناء، فكانت ممتلئة بالمتدربين، وكانت تعلو كل ثلاثين ثانية تقريباً أصوات دوي وصراخ، بينما يقدم عشرات الأشخاص أكثرهم من الرجال وقليلٌ منهم من النساء على ضرب أكياس الملاكمة في الوقت نفسه تقريباً.

كان معظم الأشخاص في الصالة من ذوي البشرة السمراء أو الآسيويين أو الأوروبيين الشرقيين. ويقع نادي ستونبريدج في برنت، التي تعد واحدةً من أكثر أجزاء لندن تنوعاً في الأعراق. وهي أيضاً واحدة من الأقسام الإدارية التي جربت السلطات فيها عام 2013 خطةً تقضي بنشر لافتات إعلانية تحمل شعار: "هل تقيم في المملكة المتحدة بشكلٍ غير قانوني؟ إذهب إلى وطنك وإلا تجد السجن في انتظارك".

أشار عامر علي، مالك النادي، على الأشخاص الموجودين للتعريف بهما: اثنان من المدربين خاضوا أولمبياد عام 1992 عن نيجيريا ولبنان. ويعد مايكل لاوال، الشاب الإنجليزي من أصولٍ نيجيرية، الأول في النادي الذي يتجه إلى الاحتراف.

وفي الحلبة الرئيسية، كان ملاكم وصل حديثاً من كازخستان يهزم لاعباً تلوا الآخر بضرباتٍ سريعة لا يبدو أنها تتعبه. وقال لي علي إنَه حضر إلى المملكة المتحدة ليجرب حظه في الحصول على مهنة؛ إذ عاش صديقٌ له من قريته في لندن لعدة سنوات ويعمل جندياً في الجيش. ويقول علي مازحاً: "الأمم المتحدة، لن أقول أكثر من ذلك".

وعلى الرغم من أنَّ الهجرة ليست بالأمر الجديد على بريطانيا، فإنَّ طبيعتها وشكلها قد تغيرا في العقود الأخيرة. فقد ارتفع عدد المواطنين الأجانب الذين يعيشون في المملكة المتحدة بين عامي 1993 و2014 من اثني مليون إلى أكثر من 5 ملايين.

وفي الوقت نفسه، جعلت سلسلة من التغييرات المُدخلة على القانون من الصعب جداً على أولئك المقيمين الحصول على جنسيةٍ بريطانية. وبدلاً من ذلك تعيش الجاليات متعددة الأعراق في بريطانيا بمجموعةٍ من تصاريح الإقامة المؤقتة وغير المستقرة. ويطلق الأكاديميون على هذا "بريطانيا متعددة الحالات"، فالناس يملكون وظائف وحيوات وعائلات هنا، غير أنَّهم أجانب على الورق.

لكن فواز جاء إلى بريطانيا طفلاً يبحث عن أبيه ففقدَ حريته

وصل فواز في منتصف جلسة التدريب. يرتدي قميصاً أبيض وسروال جينز ممزقا وقبعة فيدورا، وهو ما كان يختلف عن ملابس التدريب الأخرى التي يرتديها الآخرون.

جاب أرجاء المكان وحيَّا الموجودين كما لو كان شخصاً مشهوراً، ثم وقف إلى أحد جوانب الحلبة وشاهد القتال الدائر مع الملاكم الكازاخي. تحولت تعابير وجهه إلى تعابير جادة، وأومأ برأسه على نحوٍ يتماشى مع إيقاع الرجلين.

يعمل علي مديراً لفواز، ويتعهده بالمال منذ أن التقاه أول مرة عام 2012، بعد أن أُعجِبَ بموهبته، وأيضاً بمستوى استعداده لمباريات الملاكمة. ويذكر علي أنَّه رأى فواز يجلس بجوار الحلبة ويمعن النظر أثناء اقتتال خصمه مع رجلٍ آخر، وقال: "بسبب تركيزه ينجح. كان عقله داخل الحلبة ويشعر بما يدور داخلها".

حين يحكي فواز قصته، يرويها في صورة مقتطفات ونوادر معدة بعناية ومكررة، وهو سلوك رجل رياضي يهدف إلى الشهرة ربما، ولكنَّه أيضاً ما تتطلبه سلطات الهجرة من الخاضعين لها.

باتت الشهادة كل شيء، وتُحوَّل التفاصيل المعقدة لحياة الشخص إلى دعاوى ودعاوى مضادة.

وبحسب ما ذكر فواز، فعلى هذا النحو سارت الأمور: وُلِدَ في شمال نيجيريا لأبٍ لبناني وأمٍ من بنين. أساءت أمه معاملته (فعلى حد قوله: "هل تعلم حين يعيش الشخص حياةً غير جيدة بالنسبة له ويبدأ في تنفيس غضبه عليك")، وتركه أبوه لدى "عمٍ" في لاغوس، غير أنَّ فواز ليس متأكداً مما إذا كان هذا العم قريباً له أم أنَّه مجرد صديق للعائلة.

خلال هذه الفترة قُتِلَت أمه أثناء أحداث عنفٍ ديني، وفي عام 2004 حين كان فواز في الرابعة عشرة من عمره، أعلن عمه أنَّه سيصحبه إلى لندن ليلتئم شمله بأبيه. حُمِلَ إلى المملكة المتحدة؛ بأي أوراق؟ لا يدري.

ولكن بدلاً من أن يلتقي والده، أُعطِيَ إلى عائلةٍ احتجزته ليعمل لديها خادماً. وبعد أشهر قليلة تمكن من الفرار من هذه العائلة، وأُدخِلَ إلى دار رعاية تابعة للخدمات الاجتماعية في حي تابع لغرب لندن.

وفواز دخَّن الحشيش وتعاطى الكحول عندما كان مراهقاً

في المكتب الخلفي لصالة الألعاب الرياضية، المُغطَّى بورقة جدار تحمل الصورة الشهيرة لثلاثينيات القرن العشرين لعمالٍ من نيويورك يتناولون غداءهم على عارضة خشبية لناطحة سحاب غير مكتملة البناء. الآن يتذكر فواز ما حدث له حين فر من محتجزيه.

إذا ما استخدمنا لغة المشتغلين في حماية الأطفال، فإنَّ فواز هُرِّبَ ليعمل عبداً لدى أسرةٍ في بريطانيا. تقدم الحكومة الحماية للأطفال المهربين، ولكن لها حدوداً صارمة في هذا الصدد، لتجنب فتح بابٍ خلفي لحصول هؤلاء الأطفال على جنسيةٍ دائمة.

في معظم الأحيان ترفض الحكومة منحهم اللجوء، وتمنحهم بدلاً من ذلك نوعاً من التصريح المؤقتة للبقاء تنتهي صلاحيتها قبل أن يصبحوا في الثامنة عشرة. وعادةً ما يُرجع هذا إلى عدم وجود منشآت آمنة لاستقبال الأطفال في بلدانهم التي جاءوا منها، ولكن هذا يعني أنَّهم يقضون سنوات نشأتهم الأولى وهم لا يعرفون ما إذا كانوا سيُطردون من المملكة المتحدة حين يكبرون أم لا.

وتزيد التأخيرات المتكررة في التعامل مع الطلبات التي يمكن أن تبلغ سنواتٍ عديدة من حالة عدم اليقين التي يشعرون بها، مما يزيد صعوبة أن يبني الأطفال الناشئون في دور الرعاية المذكورة حياةً مستقرة عند البلوغ.

بعد أن مُنِحَ فواز تصريحاً مؤقتاً للبقاء في المملكة المتحدة "بينما يعملون على اتخاذ قرار فيما سيفعلونه معي" حسب قوله، وُضِعَ فواز في دارٍ للتبني غرب لندن حتى بلغ السادسة عشرة، ثم نُقِلَ إلى دار رعاية أخرى مخصصة لمن هم في سنه.

وهناك انضم إلى بعضٍ من جيرانه الجدد في ما وصفه بـ"الأعمال السيئة: تدخين الحشيش، ورسم الغرافيتي، وتعاطي الكحول، والتدخين. فقط حين مرَّت تلك الفترة نظرتُ إلى حياتي فيها وقلتُ لنفسي: (يا إلهي، لقد كنتُ تنحدر لأسفل بشدة)".

وفي سنوات مراهقته الأولى، وبينما هو منتظر لمعرفة ما إذا كان سيُسمح له بالبقاء في المملكة المتحدة، ارتكب فواز مجموعةً من الجنح الصغيرة. غير أنَّها أيضاً كانت فترةً بدأت حياته فيها تتغير إلى الأحسن، حسبما أخبرني.

وعندما أدرك أنه على خطأ حاول تصحيح الأمور

في البدء شارك في الملاكمة من خلال يومٍ رياضي عُقِدَ في جامعة برونل في غرب لندن. اعتاد فواز دائماً أن يمارس الملاكمة مع نفسه، وأخبرني أنَّه صنع بنفسه كيس الملاكمة الذي تدرب عليه حين كان طفلاً في نيجيريا، ولكنَّ هذا اليوم الرياضي كان أول عهده بهذه الرياضة على أصولها، وهو اليوم الذي اكتشف فيه موهبته كذلك.

وبعد شهورٍ معدودة، كان قد نازل جميع من في برونل، وانتقل إلى All Stars، وهو نادٍ محلي عريق معروف بعمله مع الشباب المضطربين. وقال فواز عن هذه التجربة: "تغير مفهومي بالكامل عن الحياة، ورأيتُ الجانب المتمرد للندن، الجانب المشاغب، الجانب الأقل طموحاً".

ثم التقى فواز بشابة أحبها وتزوجها. "لقد أعادت ضبط بوصلة حياتي، وجعلتني أرى الأشياء بشكلٍ مختلف". حصل فواز على دبلومةٍ وطنية في علوم الرياضة، ومُنِحَ مكاناً في الجامعة، غير أنَّه لم يستطع قبوله؛ نظراً إلى وضعه غير المستقر من حيث الهجرة: فدون تصريح للبقاء، لا يحق له الحصول على قرضٍ للدراسة.

وشيئاً فشيئاً قاده نجاحه في مسابقات الملاكمة للهواة، وتلبيته لمتطلبات التدريب، إلى مكانٍ متميز عن أصدقائه القدامى. ففي أوائل عام 2012، فاز في المسابقة الوطنية لاتحاد الملاكمة للهواة، وأصبح بطل بريطانيا في الوزن الخفيف.

وبعد هذا الفوز اقتنع أن يركز على مساره المهني، وإن لم يترك بالكامل حياته القديمة وراء ظهره: فآخر اتهامٍ جنائي وُجِّهَ إليه كان عام 2014. وقال فواز إنَّ سلسلةً من الأحداث العنيفة التي تعرض فيها إما للهجوم أو للتهديد أقنعته أن يقطع صلته بالكامل بأصدقائه القدامى.

لكن انتهاء تصريح إقامته منعه من إتمام الزواج والدراسة.. فاكتأب

طلبتُ من فواز أن يتخيل حياته مذ وصل إلى المملكة المتحدة، حياته في دار الرعاية وتحوله من عالم الانحراف إلى الملاكمة، في صورة خط على رسمٍ بياني. فحرك يده إلى الأعلى في ارتفاعٍ شديد يمثل التقدم الذي حدث في حياته حتى وصل إلى الفوز بالبطولة عام 2012، ثم أسقط يده بقوة.

في هذا العام رُفِضَ طلبه بالبقاء في المملكة المتحدة، الذي كان قد تقدم به حين كان مراهقاً. وبهذا المأزق الذي بات فيه، لم يعد له الحق في العمل أو التحول إلى المسار المهني. وقال فواز إنَّه وجد نفسه مجبراً على رفض عقد من أحد كبار مروجي الملاكمة قيمته أكثر من 200 ألف دولار. ثم تقدم فواز بسلسلةٍ من الالتماسات رُفِضَت هي الأخرى.

وكتب اتحاد الملاكمة للهواة 5 مرات إلى وزارة الداخلية يطلب منح فواز وثائق سفر وتأشيرة عمل. وفشلت محاولة أخرى ليقنن أوضاعه من خلال الزواج؛ إذ رُفِضَ طلبه لأنَّه لم يكن يملك حق البقاء في المملكة المتحدة حين تزوج. وبعد سنواتٍ أخرى كثيرة، وبعد أن أعيته السبل القانونية، صدرت بحقه وثيقة تطلب منه مغادرة البلاد، وطُلِبَ منه الحضور إلى مركز للاجئين أسبوعياً وإلا تعرض للاعتقال.

ويقول فواز إنَّه على الرغم من كل ذلك، ظل عاجزاً عن الحصول على جواز سفر من أي بلد. وأدت الضغوط التي تعرض لها في هذه الفترة إلى انفصاله عن زوجته عام 2015. وأخبرني أنَّه عند هذه النقطة من حياته توقف عن الملاكمة: "استسلمت؛ لقد خسرت كل شيء؛ خسرتُ حافزي، وبدأتُ أشرب الخمر".

عانى فواز من الاكتئاب، وكان يضطر أحياناً إلى المبيت في وسائل المواصلات العامة في الفترة التي تتوسط انتقاله من منزلٍ إلى آخر.

وقال فواز عن سنوات حياته الأولى: "وقعتُ في مشاكل. ولكنِّي كنت مجرد طفل يفتقر توجيه الوالدين. لم أغتصب أحداً، ولم أسطُ على بنك ولم أضرب أحداً قط". ثم سكت هنيهةً في إحباطٍ وقال: "أنا ملاكم. وبداخلي غضبٌ كبير، ومع ذلك لم يسبق أن تشاجرت في الشارع. وحين كنتُ أرى الناس يتشاجرون كنتُ أقول لهم إنَّه لا داعي لهذا الشجار".

وبعد ذلك خلع فواز قميصه ليريني وشماً عليه أجنحة طيور يمتد على طول ظهره. وأسفل الريش على جانب يده اليمنى، كان بوسعي أن أرى بقعة مرتفعة من جلده، قال إنَّ سكيناً ثقب رئته فيها.

وعملية نيكسيس تصنف بعض الأجانب "مجرمين" ولو لم يذنبوا

كانت عملية نيكسس محاولة تيريزا ماي لحل مشكلة أقضت مضاجع وزراء الداخلية منذ عهد جون ريد. وعلى الرغم من أنَّ عدد المجرمين الأجانب الذين أُخرِجُوا من المملكة المتحدة ارتفع بصورةٍ كبيرة في بادئ الأمر، فإنَّه انخفض بالمعدل نفسه تقريباً منذ ذلك الحين.

وتعد عملية نيكسس، التي انطلقت في لندن وامتدت منذ ذلك الحين إلى أجزاءٍ أخرى من إنكلترا، طريقاً سلكه مسؤولو الشرطة والهجرة لتحديد المجرمين الأجانب الذين يسببون "ضرراً كبيراً" وإخراجهم من البلاد.

وتضع بعض قوات الشرطة ضباط هجرة في أجنحة الاحتجاز، بينما تقوم أخرى بتفتيش كل شخص يعتقلونه. وحين يتقدم شخصٌ بطلب للحصول على جنسية، أو لتمديد تصريح البقاء، تُراجع جميع بياناته في سجلات الشرطة، وتُمرَّر عند الضرورة إلى فرق نيكسس المتخصصة التي تعمل ضمن وزارة الداخلية.

وكما هو الحال في قضايا الهجرة الأخرى، يمكن التقدم باستئناف على قرار الترحيل، وتسمع المحكمة الدليل المقدم من المستأنِف.

وبالمقاييس التي وضعتها السياسة لنفسها، فإنَّها حققت نجاحاً جزئياً؛ إذ بين عامي 2012 و2015 على سبيل المثال، أُخرِجَ نحو 3 آلاف أجنبي ارتكبوا جرماً على الأراضي البريطانية من البلاد.

بعض هؤلاء ارتكبوا جرائم خطرة، ولكن ليس جميعهم: تنظر نيكسس أيضاً في القضايا التي تستند إلى اتهاماتٍ بسيطة، أو قديمة، أو قضى أصحابها العقوبة المحكوم بها عليهم، وتنفذ عمليات ترحيل "أساسها المعلومات الاستخباراتية".

وتتبع محاكم الهجرة قواعد أقل صرامة فيما يتعلق بالأدلة مقارنةً بالمحاكم الجنائية، وكلما كان وضع الشخص أقل قانونيةً في ما يتعلق بالهجرة، كان من الأسهل إحالته إلى نيكسس.

فوفقاً للملاحظات التوجيهية الرسمية لنيكسس التي نشرتها وزارة الداخلية، إذا كان لدى الشخص تصريح هجرة سارٍ، فلا بد أن توقن الشرطة أنَّه يمثل "تهديداً حالياً ومستمراً على الأمن العام" لإحالته إلى نيكسس.

أما في حالة عدم وجود تصريح هجرة سارٍ، إن كان الشخص مثلاً ينتظر البت في الطلب الذي قدمه، فإن كل ما يلزم أن يكون الشخص "محل اهتمام الشرطة" ليُزَج به في أتون عملية نيكسس ويُقدَّم للمحاكمة.

وتحاكم البعض بناء على ادعاءات وافتراضات

ووصفت ميلاني غريفيث، المتخصصة في علم الاجتماع بجامعة برمنغهام التي درست عدداً من طلبات الاستئناف ذات الصلة بعملية نيكسس، كيف أنَّ الترحيل المستند إلى معلوماتٍ استخباراتية يؤدي إلى حالات "تستند على مزيجٍ من الادعاءات، وفرضياتٍ لا أساس لها، وشائعات، وأدلة مبهمة، وسلوك أصدقاء مقدم الاستئناف، وأدلةٍ ظرفية".

وغالباً ما تقدم الشرطة حزماً كبيرةً من الأدلة التي تتضمن أمور لا تحمل أي إدانة: مثل عمليات تفتيش لم تفضِ إلى شيء، واتهاماتٍ مسحوبة، ومحاكماتٍ بُرِئَ فيها المتهم، أو عمليات احتجاز أدت إلى توجيه تحذير أو عدم توجيه تهم. ويبدو المسؤولون قادرين فعلياً على توضيح وجود إجرام خطير دون الحاجة إلى إثباته إثباتاً قاطعاً.

وقال فواز أنَّه في إحدى جلسات الاستئناف الخاصة به "جلبوا ضباط شرطة للشهادة ضدي"، وزعموا أنَّه كان عضواً في عصابة. كان غاضباً من أنَّ التهم الصغيرة الموجهة إليه التي تتعلق "بشغب طفلٍ صغير" استُخدِمَت للتدليل على وجود شيءٍ أكثر خطورة.

وهناك قضايا أخرى خاصة بنيكسس تسير بهذه الطريقة الغامضة المبهمة أيضاً: من الأمثلة التي جمعتها غريفيث قضية مراهق من أصول كاريبية اعتُبِرَ "في خطر" الانضمام إلى عصابة، وحالة للاجئٍ إريتري اتُهِمَ بالعمل بصورةٍ غير قانونية، وحالة مشرد بنغلاديشي مدمن للكحول اتُهِمَ بسرقة شريحة لحم.

وتخلق جرائم من العدم، وتحوِّل الموظفين والمواطنين لحرس الحدود

من بين ما يدفع به المدافعون عن عملية نيكسس هو أنَّ زائري المملكة المتحدة لا بد أن يلتزموا بقوانينها، وأنَّ الناس ينبغي ألا يرتكبوا جرائم. غير أنَّ هذه الحجة تستخدم في سياق تتزايد فيه معاملة الوجود في المملكة المتحدة دون وجود أوضاع هجرة قانونية مستقرة على أنَّه جرم في حد ذاته.

يحدث هذا بطريقتين: الأولى هي خلق بعض الجرائم الجديدة من العدم: فمن بين مواد قوانين الهجرة التي أُدخِلَت عامي 2014 و2016، توجد جرائم "العمل غير القانوني" و"القيادة أثناء الوجود غير القانوني في المملكة المتحدة". والآن أصبح السلوك الذي كان يُمكن أن يعامل فيما سبق باعتباره "خروجاً عن اللوائح الإجرائية" يعامل معاملة "الجرم المرتكب على يد أجنبي".

وثانياً، يتضمن تطبيق سياسة البيئة العدائية معاملة المهاجرين والأشخاص الذين يبدو عليهم أنَّهم مهاجرون كمجرمين محتملين. ومُنِحَ ضباط تنفيذ إجراءات الهجرة سلطاتٍ أوسع لإيقاف الناس في الشوارع واحتجازهم. والقوانين التي تلزم ملاك الأراضي، وموظفي البنوك، وموظفي هيئة الخدمات الصحية بالمملكة المتحدة، والموظفين الإداريين في الجامعات بالتأكد من حالة الهجرة لعملائهم المحتملين تحول المواطنين العاديين إلى حرس حدود، في حين تزيد مبادرات تشارك البيانات حول أطفال المدارس (التي ألغِتها وزارة التعليم بعد حملةٍ عليها) أو مرضى هيئة الخدمات الصحية (عُلِّقَت جزئياً في وقتٍ سابق من هذا الشهر) من سلطات المراقبة التي تملكها الدولة.

هناك طريق آخر يمكن لفواز أن يسلكه، لكنه سينتظر بلوغ الأربعين

وفي الوقت ذاته، أصبح من الصعب المحاربة للبقاء في المملكة المتحدة؛ فمنذ عام 2012، بات لزاماً على الأشخاص الذين يعيشون في المملكة المتحدة دون تصريح المكوث في البلاد لمدة 20 عاماً قبل أن يُسمَح لهم بالتقديم على إذنٍ مؤقت للبقاء "لإقامةٍ طويلة"؛ ويمكن أن يستغرق الأمر ما يقرب من 30 عاماً لتلقي إذنٍ غير محدود.

وإذا سلك فواز، الذي وصل إلى المملكة المتحدة وهو الرابعة عشرة من عمره، هذا الطريق غير اليقيني، فسيكون عليه أن ينتظر حتى يبلغ منتصف الأربعين. وبات من الأصعب عليه أن يفوز في استئنافٍ للبقاء على أساس حقوق الإنسان بعد إدخال الإرشادات الجديدة.

وارتفعت مصروفات طلبات الجنسية (من 270 دولاراً أميركياً للإقامة غير المحدودة عام 2002 إلى أكثر من 3 آلاف آلاف دولار عام 2018)، في حين أدى خفض المساعدات القانونية في إطار الإجراءات التقشفية التي تتخذها الحكومة الائتلافية إلى انهيار شركتين من أكبر مقدمي خدمات الاستشارة القانونية المجانية في شؤون الهجرة.

ولكن مقابل هذا الجهد الجهيد، لم يزد عدد من رُحِّلوا من المجرمين الأجانب على الأراضي البريطانية؛ إذ يتراوح العدد بين نحو 5 و6 آلاف شخص سنوياً. وفي عام 2014، انتهى مكتب التدقيق الوطني إلى أنَّ ترحيل المجرمين يكلف أكثر من مليار دولار سنوياً، بالإضافة إلى عرقلة العمل بفعل الإدارة السيئة وعدم تعاون الدول الأخرى.

والحياة في بريطانيا صارت أصعب لكن نادي ستونبريدج أنقذ حياته

وكغيرها من السياسات الكثيرة التي يُقصَد بها تصعيب الحياة على المهاجرين غير المرغوب فيهم، تهدف عملية نيكسس إلى ترحيل الناس، غير أنَّها تنتهي بتحويل حياة الكثير من الناس إلى حالةٍ غير مستقرة لا يمكن الدفاع عنها في نهاية المطاف، كما حدث مع فواز؛ إذ يظل هؤلاء الناس داخل المملكة المتحدة، ولكن مع تقييد حقهم في التحرك بحرية وقدرتهم عليها.

زرتُ فواز مرةً أخرى في صالة الألعاب الرياضية في أحد أيام الأسبوع بعد الظهر حين كانت الصالة شبه فارغة. كان فواز وصديقٌ له في حلبة الملاكمة معاً. وبين الفينة والأخرى كان فواز يصيح بنصيحة لصديقه الأقل مهارة منه: كأن يحرك قدمه باستمرار أو يفكر في مركز الجاذبية، أو أن يتوقع حركة خصمه التالية ليتفاداها.

وقال صديقه في لحظة شجاعة من خلال واقي الفم الذي كان يرتديه: "كل ما سأفعله أنَّني سأسدد اللكمة".

فسأله فواز: "لماذا؟ لا تسدد لكمةً إلا إذا كنت مستعداً للتضحية بشيءٍ في سبيلها".

ثم بدأ فواز، الذي كان يدرك حضوري، يُسهب في شرح نظريته عن الملاكمة؛ وقال لصاحبه: "القوة ليست كل شيء … أنا لا أهدر طاقتي، أنا ألعب … أنا أرقص السالسا، من قال إنَّ الرجال لا يمكنهم القيام بأمورٍ أنثوية؟"

وأخبرني فواز أنَّ نادي ستونبريدج للملاكمة هو ما أنقذه بعد انهيار زيجته. بدأ التدرب هناك على نحوٍ منتظم قبل 3 أعوام، وخاض منافساتٍ بين الفينة والأخرى على ألقابٍ للهواة: فاز ببطولة اتحاد الملاكمة للهواة للوزن الخفيف عام 2017.

وقال: "لا أريد أن أُضيِّع جوهر ذاتي"، محاولاً تفسير سبب رغبته في الحفاظ على طاقته حتى حل مشكلة الإقامة الخاصة به. وأضاف: "لذلك اتخذتُ قراراً واعياً بألا أخوض نزالاً إلا مرة كل عام". وآخر اهتماماته خارج إطار الملاكمة هو تأليف موسيقى الأفرو بيت؛ إذ يغني فواز، بينما يُنتِج صديقه. وينشر فواز مقاطع فيديو لنفسه وهو يرقص ويغني في الاستوديو. وقال محذراً: "أنا لست شخصاً كسولاً كما تعلمون".

يبقى فواز إذاً تحت رحمة الشرطة والاكتئاب

وبحلول نهاية العام الماضي (2017)، وبعد أشهر قليل من رفض طلبه كشخصٍ عديم الجنسية، مرةً أخرى لم تصدق وزارة الداخلية فواز حين قال إنَّه لا يحق له الحصول على الجنسية في أي مكان آخر؛ ففتر عزمه وعاوده الاكتئاب، ولم يذهب عدة مرات إلى المواعيد الأسبوعية للتوقيع في قسم الشرطة المحلي في منطقته. وفي 29 نوفمبر/تشرين الثاني، حين كان فواز في طريقه إلى صالة الألعاب الرياضية، أحاط رجال الشرطة المبنى، وألقى ضباط إنفاذ القانون من مصلحة الهجرة القبض عليه. بات ليلته في قسم شرطة ويمبلي، ثم اقتيدَ إلى مركز احتجاز بالقرب من مطار غاتويك، حيثُ أخبره المسؤولون أنَّهم يجهزون لترحيله إلى نيجيريا.

تضع المملكة المتحدة ما يقرب من 30 ألف شخص في مراكز احتجاز المهاجرين كل عام، نصفهم من مرتكبي الجرائم الأجانب. ومن المفترض أن يُستَخدَم احتجاز اللاجئين بموجب القانون كملجأٍ أخير، حين يوجد داعٍ منطقي لترحيل الشخص على الفور من البلاد.

غير أنَّ تقريراً أعدته منظمة العفو الدولية حديثاً انتهى إلى أنَّ احتجاز المهاجرين قد بات إجراءً "روتينياً"، تشيع فيه الأخطاء الإدارية التي يصعب إصلاحها. وانتهى التقرير إلى أنَّه بمجرد دخول شخص ما إلى مكان الاحتجاز غالباً ما يظل فيه "بغرض التسهيل والراحة".

ويُطلَق سراح نصف من يحتجزون تقريباً، بما يشير إلى أنَّه لم يكن ينبغي احتجازهم في المقام الأول. غير أنَّ عدد الأشخاص الذين أُفرِجَ عنهم بكفالةٍ من الاحتجاز ويعيشون في حالة من عدم الاستقرار كما هو حال فواز قد زاد بأكثر من الضعف منذ عام 2010، ووصل إلى ما يقرب 4 آلاف شخص العام الماضي (2017).

عندما ذهب إلى السجن شعر بأنه طفل تخلى عنه الجميع

في البدء كان فواز إيجابياً حين وصف فترة احتجازه، ووصفها بأنَّها كانت "تصفيةً للذهن". وقال إنَّه قضى معظم وقته في صالة الألعاب الرياضية التابعة للمركز، أو في تعليم نفسه كيف يعزف البيانو. غير أنَه بدا من الواضح أنَّ التجربة كانت مزعجةً بالنسبة له. فقد قال إنَّه آذى نفسه عدة مرات حين كان هناك، وأنَّه فعل ذلك "ليس بسبب أنَّني أردت الموت، ولكن لأنَّ هذا كان يمنحني شعوراً بالراحة"، وأراني علاماتٍ على رسغيه وساعديه.

وقال فواز: "في الأسبوع الأول، شعرتُ أنَّ حياتي انتهت. وعاودني شعور الطفل الذي تخلى الجميع عنه مرةً أخرى". غير أنَّ معنوياته ارتفعت حين أصبحت قضيته محل اهتمام وسائل الإعلام المحلية".

وعن هذا الأمر قال فواز: "حتى رجال الأمن في المعسكر حضروا إليّ وقالوا لي: (أنت مشهورٌ يا فتى، الجميع يتحدث عنك)". وبعد أسابيع قليلة أخبر ممثلٌ للمفوضية العليا النيجيرية المسؤولين العاملين على قضية فواز أنَّه ليس مواطناً نيجيرياً. وفي الثاني من يناير/كانون الثاني، أفرج قاضٍ في محكمة الاستئناف عنه بكفالة، وعاد إلى حياته السابقة، والتوقيع أسبوعياً في قسم الشرطة.

وأحس بأنه على خطى الملاكم الأعظم محمد علي

وذات مساء في نهاية شهر يناير/كانون الثاني 2018، اعتلى فواز منصةً في إحدى فعاليات منظمة العفو الدولية في شرق لندن. كان الحضور قد شاهد لتوه الفيلم الوثائقي لليون جاست الذي يحمل عنوان When We Were Kings، ويحكي قصة مباراة محمد علي وجورج فورمان عام 1974 في بطولة العالم للأوزان الثقيلة في زائير.

الفيلم لا يخلو بطبيعة الحال من لمحةٍ سياسية: فرؤية علي وفورمان للتاريخ والعرق، والدور الذي تلعبه الملاكمة في استعادة أمجاد السود، توضع على نحوٍ غير مريح إلى جوار إسهامات نورمان ميلر وجورج بليمبتون، الكاتبين الأميركيين البيض اللذين امتدحا القوة الجسمانية لابني وطنهما من السود وصاحا بإعجاب في أثناء نزولهما إلى الحلبة.

كان للسياسة في هذا الفيلم وقعٌ خاص في هذه الفاعلية: نادٍ أسبوعي في ضيافة Welcome Cinema and Kitchen، المنظمة التي تجمع اللاجئين وطالبي اللجوء والعامة معاً في فعالياتٍ اجتماعية. كان معظم الحضور يعيشون في حالةٍ قانونية غير مستقرة، وحضروا ليسمعوا فواز يتحدث عن وضعه.

وقبل بدء الفاعلية كان فواز يلاعب أطفالاً في روضة الأطفال بالأسفل، ويستعرض عليهم ما حازه من أحزمة وألقاب، ويُلقي عليهم النكات وهو يقف معهم لالتقاط الصور. حين دخل إلى الصالة وجد صورته معلقةً على شاشةٍ كبيرة، فشهق في دهشة.

لا يوجد شك في ثقة فواز بنفسه، غير أنَّ نشأته الاجتماعية تسببت في لمحةٍ من السذاجة بشخصيته؛ إذ أخبرني بأنَّه لم يغادر ضواحي غرب لندن إلا حين كان في أوائل العشرينيات من عمره.

ما زال استدعاؤه ممكناً في أي وقت.. ليس أمام فواز سوى 3 طرق

ومنذ أن أُطلِقَ سراحه من الاحتجاز، ومع وجود إمكانية استدعائه في أي وقت، بات أمام فواز 3 طرق ممكنة لا رابع لها. الأول هو أن يقدم طلباً إلى وزارة الداخلية: يدرس محاموه خيارات الاستئناف المتاحة، في ظل وجود 10 آلاف مُوقِّع على عريضة 38Degrees.

وإذا لم ينجح هذا، تظل إمكانية ترحيله مطروحة، ولكن بعيدة الاحتمال؛ إذ إنَّ نيجيريا، التي عادةً ما تتعاون مع المملكة المتحدة في شؤون الترحيل، كانت قاطعةً في تأكيد أنَّه ليس مواطناً فيها. وهذا يتركنا أمام طريقٍ ثالث: متاهةٍ سرمدية مع محاولة المملكة المتحدة ترحيله عن أراضيها دون جدوى، وإمكانية أن يواجه الإفلاس في حال نفاد التبرعات التي جمعها له أصدقاؤه.

وكان العديد من الأشخاص الذين حضروا الفعالية عرضةً لأن يجدوا أنفسهم في مواقف مشابهة؛ إن لم يكن بعضهم قد وقع فيها بالفعل. ويؤثر هذا النظام المعقد لترحيل اللاجئين على آلاف الرجال والنساء والأطفال في بريطانيا اليوم؛ ولكن كما تشير ميلاني غريفيث في بحثها، فإنَّه من المذهل أنَّ هذه الظاهرة لم تظهر إلا مؤخراً.

لأول مرة يعاقَب الشخص مرتين على الفعل نفسه

على الرغم من أنَّ دولاً كثيرة مارست النفي أو الإبعاد فتراتٍ كبيرة من التاريخ، فإن هذه الممارسة توقفت بشكلٍ عام في القرن التاسع عشر مع صعود الدولة القومية. وأُعيدَ استخدام نظام الترحيل في المملكة المتحدة بموجب أول القيود الحديثة المفروضة على الهجرة، أي قانون الأجانب الذي فُرِضَ في البلاد عام 1905.

غير أنَّه لم يُستَخدَم على نطاقٍ واسع إلا خلال حقبة تسعينيات القرن العشرين؛ في البدء لترحيل طالبي اللجوء، والآن بات أداةً أكثر عمومية للتحكم في الهجرة.

وتعد عملية نيكسس واحدةً من أكثر أجزاء هذه المنظومة حساسية؛ لدرجة أنَّ معظم الساسة يترددون في إضفاء الشرعية عليها. ولكن، كما تشير قصة فواز، يبدو أنَّها توفر مساحةً ضئيلة للخلاص، وهو أمرٌ ينظَر إليه عادةً باعتباره جزءاً مهماً من منظومة العدالة الجنائية.

وهناك أيضاً مسألة أعمق حول المساواة أمام القانون: هل هناك أشخاصٌ بعينهم يستحقون العقاب مرتين على جريمةٍ اقترفوها، على أساس حالة الهجرة الخاصة بهم؟

التطبيق ليس خالياً من التحيُّز.. الأقليات العرقية هي الأكثر تعرُّضاً للترحيل

وبسبب التحيز القائم في إصدار الأحكام، فإنَّ الأقليات العرقية هي الأكثر تأثراً بالجهود التي تبذلها الحكومة لترحيل الأجانب الذين يقترفون جرماً على الأراضي البريطانية: فالرجال السود والآسيويون يوجدون بنسبٍ كبيرةٍ في السجون، في حين يعد نحو 75% من المحتجزين من المهاجرين من أصولٍ آسيوية وأفرو-كاريبية.

وانتهى بحث غريفيث إلى أنَّ مراكز الاحتجاز تكاد تكون خاليةً من أي أشخاصٍ من أستراليا أو من أميركا الشمالية. وينصب الجهد الأوسع لإجبار المهاجرين غير المرغوب فيهم على الخروج من بريطانيا بشكلٍ أساسي على السود والآسيويين والأوروبيين الشرقيين.

بل إنَّ بعض مواطني الاتحاد الأوروبي سقطوا في شباك البيئة العدائية؛ إذ قضت المحكمة العليا في ديسمبر/كانون الأول أنَّ سياسة تهجير من يفترشون الطرقات من مواطني الاتحاد الأوروبي غير قانونية، بعد قضيةٍ رُفِعَت نيابةً عن رجلين بولنديين ورجلٍ من لاتفيا. وهناك أشخاص تطلب بريطانيا يدهم العاملة حين يكون اقتصادها في حاجةٍ إليه، ثم تلفظهم حين يكونون فائضين عن حاجتها.

غير أنَّ الرغبة في تيسير الطرد والترحيل تضيف فصلاً جديداً إلى علاقة بريطانيا بمستعمراتها السابقة: فالمملكة المتحدة تنفق نحو مليار دولار أميركي لبناء جناح في أحد السجون في نيجيريا للمرحلين منها، وعرضت تمويل سجنٍ شديد الحراسة في جامايكا.

وتنطلق رحلات الطيران الخاصة بالترحيل التي يُنقَل فيها المحتجزون في جماعات عدة مرات في العام إلى غرب إفريقيا وجنوب إفريقيا.

غالباً ما تحاول الحكومات التمييز بين المواطنين الصالحين والفاسدين، وبين العائلات المرفهة والعائلات الكادحة، غير أنَّ الطريقة التي باتت بريطانيا تفرض بها قيوداً على حدودها خلقت حالةً لم يكن الكثير منا يدركها إلا مؤخراً، وفيها يجد أشخاصٌ قضوا عدة سنوات من حياتهم في هذا البلد حقهم في الوجود فيه بصورةٍ دائمة محل نقاش.

وتطلق غريفيث على هؤلاء الأشخاص "شبه المواطنين". ذكرت ذلك لفواز فصاح بي: "هذا أنا". وقال: "هل تعرف حين تضع ورقة شجر في جدول مياه ولا تعرف إلى أين تذهب، هذا بالضبط حالي الآن؛ أنا لا سلطة لي على هذا الأمر في الوقت الحالي. وعند هذه النقطة، أترك الأمر بين يدي وزارة الداخلية لتمنحني فرصة. لتقول لي: أجل بوسعك البقاء".

الاسم الأول لفواز (كالفن) هو لقبٌ اكتسبه حين كان مراهقاً. وفي آخر لقاءٍ لنا، سألته من أين له بهذا اللقب؛ فأجابني: "اخترعته حين أتيتُ إلى هنا. لأنَّني كنتُ أخبر الناس بأنَّ اسمي هو بلال فواز، ولم يكن بوسعهم نطقه؛ لذا قلت لهم: (حسناً، اسمي كالفن)، كنتُ أريد أن أبدو بريطانياً أكثر، فتقمصتُ الشخصية".

علامات:
تحميل المزيد