من يركِّز في اللحظات التي تلي تسجيل محمد صلاح أي هدف، يلاحظ أنها تتكرر في كل مرة بالشكل نفسه.
ينفجر ملعب نادي ليفربول من الفرحة، يجري صلاح إلى أقرب مُشجِّعين له، ويقف ساكناً مع مدِّ ذراعيه، وبعد تلقي تهنئة زملائه بالهدف، يسير ببطء عائداً إلى وسط الملعب.
بعدها، تأتي لحظة توقف في الملعب بأكمله؛ إذ يرفع صلاح يديه إلى السماء ثم يسجد على أرض الملعب، حينئذٍ يهدأ الجمهور قليلاً؛ كي يسمح له بلحظةٍ هادئة من التفكُّر، وحين ينهض صلاح من السجود، "يرتفع ضجيج المدرجات مرةً أخرى ويواصل الجمهور الاحتفال.
https://www.youtube.com/watch?v=unB439-2GLI&feature=youtu.be
هكذا وصف نيل أتكينسون، مذيع نشرة The Anfield Wrap الصوتية الخاصة بمشجعي فريق ليفربول، الذي يحضر مباريات الفريق بانتظام، لحظة تسجيل صلاح أي هدف.
ليس النجاح الرياضي وحسب بل إنه الحل لمشكلة كراهية الإسلام
يُعَد صلاح من أبرز نجوم كرة القدم الأوروبية بالموسم الجاري بتحقيقه أداءً مُذهلاً؛ إذ سجَّل 43 هدفاً في 49 مباراة بموسمه الأول مع فريق ليفربول، وقاد الفريق إلى نهائي دوري أبطال أوروبا للمرة الأولى منذ أكثر من 10 سنوات، كما تُوِّج بجائزة أفضل لاعب في إنكلترا عن الموسم الحالي.
وبالإضافة إلى هذا النجاح الرياضي، ترى صحيفة The New York Times الأميركية أن "إظهاره تديُّنه علناً جعله ذا أهمية اجتماعية وثقافية كبيرة ببريطانيا، في الوقت الذي تبنى فيه بيئة معادية للمهاجرين غير الشرعيين، بالإضافة إلى تنامي ظاهرة (الإسلاموفوبيا)".
فيما قال مقداد فيرسى، مساعد الأمين العام للمجلس الإسلامي البريطاني: "إنّ صلاح يُجسِّد قيم الإسلام ويُظهر إيمانه علناً. ولديه قدرةٌ على نيل حب الجمهور بسهولة، فضلاً عن كونه بطل الفريق. ويحظى بدعم نادي ليفربول بطريقةٍ إيجابية للغاية. إنه يلعب دوراً رئيسياً لحل مشكلة كراهية الإسلام".
صلاح "انتصار" بالنسبة للمسلمين
وعن نظرة المسلمين إلى ما يقدمه صلاح لدينهم، يقول المحلل الرياضي المصري أحمد عطا: "إنه لا يرى حاجةً إلى إخفاء إيمانه، فهو فقط يُعزِّز شعبيته"، وتابع: "الناس يحبون حقيقة أنَّه لا يخشى السجود أمام الجميع في بلدٍ غير مسلم يشهد تزايد كراهية الإسلام، فهذا بمثابة انتصارٍ بالنسبة لهم".
وهذه هي الطريقة نفسها التي ينظر بها أفراد المجتمع المسلم في منطقة ميرسيسايد التي تضم مدينة ليفربول -ومعظمهم منحدرون من أصول سورية ويمنية وبنغلاديشية- إلى ذلك الأمر؛ إذ قال أبو أسامه الذهابي، إمام مسجد المسرة في حي توكثتيث بليفربول: "المسلمون في بريطانيا يتعرضون لضغوط".
وقال فيرسي: "هناك أدلةٌ على تزايد كراهية المسلمين؛ بل إنَّها تصبح أكثر طبيعيةً، لقد صار من المقبول التعبير عن المشاعر المعادية للإسلام في دوائر الاتجاهات السائدة".
وأضاف أنَّ "سُمِّية الحوار بشأن قرار بريطانيا الخروج من الاتحاد الأووربي، بالإضافة إلى الموقف العنيف الذي تتبناه وسائل الإعلام الإخبارية اليمينية ضد المهاجرين، أسهما في خلق بيئةٍ يشعر الناس فيها بارتياحٍ أكبر للتعبير عن وجهات نظرهم المتعصبة".
إذ تشير إحصاءات الشرطة إلى أنَّ جرائم الكراهية ضد المسلمين ارتفعت، خاصةً مع ربط الهجمات الإرهابية التي وقعت بأوروبا في السنوات الأخيرة بدوافع دينية، كما أشار تقريرٌ صادر عن جمعية Tell MAMA البريطانية إلى أنَّ هجمات الكراهية ضد المسلمين ارتفعت بنسبة 47% في عام 2016.
لكنه عاد ليقول إن صلاح هو الأمل لحل هذه المشكلة، فقال: "يمكن أن يساعد صلاح على سد الفجوة بين الجالية المسلمة وبقية المدينة، فيُمكنه أن يُظهر للناس أننا أشبه به ولسنا أشبه بالمتطرفين".
ليفربول ملجأ المسلمين في بريطانيا
تعتبر مدينة ليفربول نفسها أكثر المدن ترحيباً من العديد من الأماكن الأخرى في بريطانيا.
فهي "مدينة الغرباء المناهضة للمؤسسة الحاكمة"، على حد وصف المذيع أتكينسون، الذي قال إنَّ ليفربول لم تحظ دائماً بعلاقاتٍ يسيرة مع بقية أنحاء البلاد؛ لذلك ربما تعرف المدينة معنى "ازدراء" الآخرين أكثر من أي مكانٍ آخر.
حقيقة حصول شخصٍ مسلم على هذا التكريم مهمةٌ؛ إذ قال علي عدن، الذي يبيع بعض سلع البقالة والعطور خارج مسجد الرحمة في مدينة ليفربول: "كل مسلم فخورٌ به. نشعر في بعض الأحيان بأننا مواطنون من الدرجة الثانية؛ لذا فإن ذلك مصدرُ فخرٍ كبيرٍ بالنسبة لشخصٍ يأتي من الشرق الأوسط إلى مدينتنا".
وهذا أحد الأسباب التي جعلت رضوان البربندي -وهو طبيبٌ انتقل إلى بريطانيا من سوريا منذ عقدٍ من الزمان ويعيش في ليفربول منذ عام 2010- يعتقد أنَّ معظم المسلمين يشعرون بـ"الأمان والراحة في ليفربول".
إذ قال البربندي: "إنَّ صلاح يمنح جيل الشباب على وجه الخصوص مزيداً من الثقة. يمكنك أن ترى تأثيره وتشعر به. لقد صار الشباب أنشط وأكثر انطلاقاً، وأصبحت معنوياتهم أعلى. لقد أثبت صلاح أنَّك إذا شاركت في مجتمعٍ ما وعملت بجد وأثبتَّ نفسك، فلن يوقفك أحدٌ عن الصلاة، ولن يمنعك أحدٌ من إطالة لحيتك، وسيحترمك الناس بغض النظر عن هويتك".
وبالنظرة التاريخية إلى المدينة حسب وصف الطبيب السوري، فإن مدينة ليفربول موطن واحدٍ من أقدم المجتمعات الإسلامية، وكانت موقع أول مسجدٍ في البلاد، كما تملك تاريخاً طويلاً من التنوع والاحتفاء بهذا التنوع.
وأشار إلى أنَّ الكثيرين في المدينة ما زالوا يرفضون قراءة صحيفة The Sun البريطانية التي تقاطعها جماهير ليفربول منذ عام 1989؛ بسبب تغطيتها الزائفة كارثة هيلزبره التي مات فيها 96 فرداً من أنصار النادي. وقال: "إنها مكانٌ يساري الميول".
ومع ذلك، اضطرت الشرطة إلى زيادة تأمين المساجد في ليفربول بعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2011 التي شهدتها الولايات المتحدة، حيث تعرَّض أحد مساجد مدينة بيركينهيد، الواقعة على الضفة المقابلة لنهر ميرسي في ليفربول، للتخريب بعد الهجوم الذي شهدته لندن في 7 يوليو/تموز 2005. وسجَّلت قوة شرطة ميرسيسايد زيادةً بنسبة 75% في جرائم الكراهية من عام 2012 إلى عام 2016.
بيد أنَّ صلاح ساعد في "إيقاف هذا الضغط"؛ إذ يُدوِّي صوت الأغاني التي تُكرِّمه في ملعب أنفيلد -ملعب ليفربول الرئيسي- ويرفع المشجعون راياتٍ تحمل صورته، ويرتدون أغطية رأس فرعونية. ويحتشد الناس حول صلاح أينما ذهب، ويطلبون التقاط صور سيلفي معه في كل مكان.
وهذا أمرٌ طبيعي في مدينة معروفةٍ بفريقيها لكرة القدم؛ ليفربول وإيفرتون، بقدر ما هي معروفةٌ بتراثها الموسيقي؛ نظراً إلى أنَّها مسقط رأس فرقة البيتلز. وقال جيمس ماكينا، من رابطة Spirit of Shankly التي تُشجِّع فريق ليفربول، عن صلاح: "هو الصبي الهادئ المتواضع الذي يرتدي قميص ليفربول ويصبح بطلاً خارقاً، وهذا هو تجسيد حلم كل مُشجِّع من مشجعي الفريق".
وتحتوي إحدى الأغاني التي أُعِدَت تكريماً له، على كلماتٍ تقول: "إذا سجَّل بضعة أهدافٍ أخرى، فسأكون مسلماً مثله"، ورغم بعض الانتقادات التي وُجِّهت لتلك الأغنية تحديداً، يقول أنور الدين -اللاعب السابق الذي يعمل الآن لدى اتحاد مشجعي كرة القدم على برنامج التنوع لدى الاتحاد- إنَّه يعتقد أنَّ الأغنية حسنة النية.
وتابع: "يمكن لأشياء كهذه أن تكسر الحواجز"، مشيراً إلى أن رؤية سجود صلاح وتعبُّده بعد تسجيل الأهداف يمكن أن تساعد في "إزالة الوصمة" التي قد يُلصقها البعض بمنظر صلاة المسلمين.
بالنسبة للمصريين: لم يفعل أي مصري ما فعله صلاح
صلاح، (25 عاماً)، أصبح رمزاً وكنزاً وطنياً في مصر منذ شهر أكتوبر/تشرين الأول 2017، حين ضمنت ركلة الجزاء الناجحة التي سددها في الدقيقة الأخيرة من مباراة مصر ضد الكونغو مكاناً لبلاده في كأس العالم المقررة إقامتها في صيف العام الحالي (2018) بروسيا، خاصةً أن هذه هي المرة الأولى التي تصعد فيها مصر إلى البطولة منذ نسخة عام 1990.
والآن، أصبحت صورة صلاح تُزيِّن جدراناً لا حصر لها في القاهرة، حتى إنَّ إحدى اللوحات الجدارية التي تعرض صورته وسط القاهرة أصبحت مزاراً سياحياً، كما تضع الأسواق صورته على كل شيءٍ، بدءاً من ملاءات السرير إلى الفوانيس.
كما نقلت تقارير إخبارية عن حصوله على دعمٍ كبيرٍ بالانتخابات الرئاسية المصرية، في مارس/آذار 2018، مع أنَّه لم يكن ضمن المرشحين!
هذا بالإضافة إلى الشغف الكبير بمتابعة كل مبارياته، رغم أن الدوري الإنكليزي الممتاز وكرة القدم الأوروبية عموماً يحظيان بشعبيةٍ كبيرة بمصر، لكنَّ الآلاف من المصريين يتجمعون في المقاهي لمشاهدة مباريات ليفربول خصيصاً لأجل "ابنهم" صلاح.
وعن هذه الظاهرة، قال المحلل الرياضي المصري أحمد عطا: "لم يفعل أي مصري ما فعله محمد؛ ولذلك، فصعوده مهمٌ جداً للجمهور. الجميع يتابع الدوري الإنكليزي الآن. وصور صلاح تغمر شبكات التواصل الاجتماعي".
المصريون يحبون لعبه وأعماله الخيرية
لا يقتصر سبب شعبية صلاح على براعته بملاعب كرة القدم؛ بل يشمل إسهاماته التي لا تقل أهميةً في الأعمال الخيرية؛ إذ قال سعيد الشيشيني، المُدرِّب الذي اكتشف موهبة صلاح حين كان طفلاً في قرية نجريج بمحافظة الغربية (وسط الدلتا): "إنَّه يتبرع باستمرار بالمال للجمعيات الخيرية ومسقط رأسه، وهذا كافٍ لجعله يفوز بعشق الجميع".
جديرٌ بالذكر أنَّ صلاح تبرَّع بجهازٍ لغسل الكلى لمستشفى في قرية نجريج، ودفع ثمن أرضٍ لبناء محطةٍ لمعالجة مياه الصرف الصحي، وأنفق على تجديد مركز رياضي عام ومدرسة ومسجد.
كما تبرَّع بأموالٍ لصندوقٍ استثماري أنشئ لدعم الاقتصاد المصري المتعثر، وفي الشهر الماضي (أبريل/نيسان 2018)، شارك في مقطع فيديو يدعم حملةً حكومية ضد إدمان المخدرات.
وفي غضون 3 أيام من نشر المقطع، تضاعف عدد الأشخاص الراغبين في علاج الإدمان 4 مرات، وفقاً لما ذكرته وزارة التضامن الاجتماعي المصرية.