ما أشبه اليوم بالبارحة، فقبل أسابيع هددت بريطانيا وبعض الدول الغربية بمقاطعة بطولة كأس العالم التي تشهدها روسيا في يونيو المقبل، على خلفية اتهام بريطانيا لموسكو بمحاولة اغتيال الجاسوس الروسي سكريبال الذي يعيش في إنكلترا.
هذا التهديد وإن جاء خافتاً أعاد للأذهان ما جرى قبل 38 عاماً عندما قررت الولايات المتحدة مقاطعة دورة الألعاب الأولمبية في العاصمة الروسية موسكو في العام 1980 احتجاجاً على الغزو السوفييتي لأفغانستان.. في هذا التقرير نستعيد المشهد السياسي قبل تلك الدورة، ونستعيد وقائع ما جرى..
المشهد الأول: غزو سوفييتي واحتجاج أميركي
في خضم اشتعال الحرب الباردة بين القطبين الولايات المتحدة وروسيا – الاتحاد السوفييتي آنذاك – كان من نصيب الاتحاد السوفييتي تنظيم دورة الألعاب الأولمبية الصيفية في العام 1980، وكانت وقتها من الأحداث التي يروج لها الاتحاد السوفييتي كحدث عظيم في تاريخه.
لكن قبل ذلك الحدث بعام واحد، غزت القوات السوفييتية أفغانستان في العام 1979. وكان ذلك الغزو بمثابة نقطة فاصلة في المواجهة المستعرة بين القطبين الكبيرين. ووقتها أعلنت الولايات المتحدة وعدد من الدول الغربية مقاطعتها لدورة الألعاب الأوليمبية كاحتجاج سلمي على الغزو.
ووصل عدد الدول المقاطعة إلى 65 دولة بسبب حملة دبلوماسية واسعة قامت بها الولايات المتحدة ضد الدورة واستضافة الاتحاد السوفييتي لها.
المشهد الثاني: تضارب آراء بين السياسيين والرياضيين
عندما فكر الرئيس الأميركي جيمس كارتر في المقاطعة كوسيلة اعتراض سلمي بدلاً عن المواجهة العسكرية للغزو السوفييتي لأفغانستان ظهر كثير من الآراء السياسية، منها ما يدعم القرار وأخرى ترى أن الأمر غير مجدٍ وأن المقاطعة لن تثني الروس عن غزو أفغانستان.
وقد أعلن السيناتور تيد كيندي النائب عن ولاية ماساشوستس، الذي كان مرشحاً وقتها لانتخابات الرئاسة أنه يدعم فكرة المقاطعة ويراها جيدة، لكن بشرط أن يكون ذلك مجرد شكل من أشكال الاعتراض وألا يتطرق ذلك إلى السياسة الخارجية. أما زبيغنيو بريجينسكي مستشار كارتر، فقال له إن المقاطعة أمر مهم لإحراج السوفييت دولياً، لأن أفغانستان هي سابع دولة يدخلها السوفييت منذ 1975 بقوة السلاح.
اللاعبون يرفضون المقاطعة
بدا واضحاً في البداية أن النزعة المعادية للشيوعية في الولايات المتحدة هي الغالبة على الإدارة الأميركية. لكن كانت هناك حسابات أخرى، حيث انخفضت نسبة الدعم الشعبي لفكرة المقاطعة بشكل كبير من 85 بالمائة إلى 49 بالمائة. وذلك لأن الجماهير وقتها وجدت أن الأمر لن يكون مجدياً مع الروس، وأن الضحايا الحقيقيين لذلك القرار هم اللاعبون الأولمبيون، الذين بذلوا قصارى جهدهم في التدريبات على مدى سنوات لكنهم في النهاية سيفقدون فرصة المشاركة وإحراز الميداليات.
أما عن مدير وكالة المخابرات المركزية الأميركية CIA، فقد رأى أن المقاطعة ستكون عديمة الجدوى بالنسبة للسوفييت ولن تؤثر عليهم اقتصادياً.
وقد بدا موقف الرياضيين الأولمبيين وقتها رافضاً لفكرة المقاطعة، حيث رأوا فيها تضييعاً لمجهوداتهم التي بذلوها على مدار سنوات انتظاراً لتلك البطولة، حيث قالت العداءة مارغريت غروس إنها ركضت ما يقارب 17000 ميل منذ العام 76 حتى تشارك في هذه البطولة، وإنها ترفض أن تضيع كل هذه المجهودات هباءً.
المشهد الثالث: استغلال فاشل لنجومية كلاي
وفيما أعلنت بريطانيا وقتها دعمها لقرار المقاطعة، وكذلك رودولف بولز سفير ألمانيا الغربية لدى حلف شمال الأطلسي "ناتو"، إلى جانب غالبية الدول الإسلامية، إلا أن أفغانستان نفسها أرسلت 11 متسابقاً للاشتراك في البطولة. وقد حذرت الولايات المتحدة لاعبيها من السفر بشكل منفرد للمشاركة في الأولمبياد وأن ذلك سينتج عنه سحب جوازات سفرهم. وقد حرك مجموعة من الرياضيين دعوى قضائية ضد الحكومة رفضاً لذلك لكنهم خسروها.
حاولت الولايات المتحدة كسب الدعم الدولي لقرارها، فاختارت الملاكم الشهير محمد علي كلاي ليقوم بجولة دولية، يجمع فيها دعم الدول لفكرة المقاطعة، وقد كان.
انطلق كلاي في جولته، لكنه لم يكن يعلن صراحة خلال زياراته أنه يدعم فكرة المقاطعة، فحينما وصل إلى الهند، التقى السفير السوفييتي لدى الهند، والذي طلب من كلاي ألا يكمل هذه الرحلة، لكن كلاي في اليوم التالي ذهب إلى تنزانيا، لكن ما حدث حينها شكل بدايات أزمة بين الحكومة وكلاي، فعندما عقد الملاكم الشهير مؤتمراً صحافياً تلقى سؤالاً من أحد الصحافيين حول ما إن كان دمية في يد البيت الأبيض، فكان رد علي أنه جاء هنا من نفسه ولم يرسله أحد ليقوم بذلك.
لكن الأمر لم ينته فقد تلقى كلاي جملة خلال لقائه بوزير الرياضة التنزاني من أحد الصحافيين مفادها "أن كلاي صار ذليلاً عند كارتر". وقد بدت آثار ذلك واضحة في رسالة وصلت إلى كارتر من أحد أعضاء البعثة المرافقة لكلاي يقول فيها إن المهمة فشلت وأن كلاي يتحدث عن القفز من السفينة والخروج من تلك القضية. وفي النهاية قاطعت 65 دولة المسابقة، فيما شاركت 80 دولة.
المشهد الرابع: التاريخ يعيد نفسه.. على استحياء
لم تعلن أي من الدول التي تنوي مقاطعة كأس العالم في روسيا في يونيو/حزيران 2018 أن الأمر يتعلق بالدور الروسي في سوريا، فالأمر مختلف هذه المرة، بل إن البعد الرئيسي للأزمة هو مقتل جاسوس روسي سابق كان يعيش في بريطانيا، وتؤكد بريطانيا أن بوتين هو من فعل ذلك، ما أثار غضب بريطانيا من تجرؤ روسيا على القيام بذلك على أراضيها، ما دعاها لسحب فريقها الدبلوماسي من روسيا بالإضافة إلى طرد الدبلوماسيين الروس.
وقد صرحت رئيسة الوزراء تيريزا ماي أن وزراء حكومتها وأفراد العائلة المالكة المعتادين على حضور كأس العالم، سيقاطعون البطولة هذا العام، وفي حين لم يعلن المنتخب الإنكليزي أي تعليق على ذلك، إلا أن ماي قالت إن المنتخب سيفعل ما تراه الحكومة مناسباً.
وانضمت إلى دعوة المقاطعة ست دول فقط دعماً للموقف البريطاني هي: اليابان وأستراليا والسويد والدنمارك وأيسلندا وبولندا. كما صرح عضو حزب العمال لان أوستن بأنه يجب على الحكومة أن تكسب دعم حلفائها في حلف الناتو في تلك المقاطعة، حيث أن بوتين سيستخدم كأس العالم، كما فعل الزعيم الألماني النازي آدولف هتلر مع أولمبياد 1936، حيث استخدم الأولمبياد في الترويج والدعاية السياسية لنظامه النازي.
فهل ستنجح بريطانيا في مساعيها لمقاطعة أهم بطولة كروية في العالم، أم أن قضية الجاسوس سيتم حلها دبلوماسياً أو تناسيها. خاصة وأن الاتحاد العالمي لكرة القدم (الفيفا) يرفض تماماً إقحام السياسة في شؤون اللعبة، ما يهدد الدول المقاطعة حال تنفيذها للمقاطعة الرياضية – لعقوبات بالاستبعاد عن المشاركة في البطولات الدولية المقبلة.