عندما اختار المدرب الفرنسي الكبير آرسين فينغر أن يعمل في بريطانيا في العام 1996، أضفى على الدوري الانكليزي حياة جديدة، وصنع ثورة في أسلوب أداء آرسنال، وفي فلسفة اللعب، وصنع تاريخاً جديداً لـ "المدفعجية".
لكن قبل أيام قليلة أعلن أن مسيرته مع الفريق اللندني تنتهي هذا العام، بعد 21 عاماً فاز فيها ثلاث مرات فقط ببطولة الـ "بريميرليغ".
أحد هذه الألقاب الثلاثة يحلق في سماء المجد، فقد كان موسما استثنائياً فاز به آرسنال ببطولة الدوري من دون هزيمة.
كان ذلك في العام 2004، وسجل مع مدربه الكبير إنجازاً لم يحققه كثيرون.
جميع متابعي الكرة الإنكليزية يعرفون أن الكثيرين من مشجعي آرسنال يطالبون منذ سنوات برحيل الرجل، بعد أن توقف عن الفوز بالدوري، لكن الإنصاف يقتضي – كما ذهب تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية – تذكر المحاسن والآثار الإيجابية للرجل، في رحلته الطويلة مع آرسنال، التي تتجاوز ثلاث بطولات للدوري، وسبع بطولات للكأس، إلى تطويع الكرة الإنكليزية مفهومين هما: العولمة والكرة الجميلة.
هذا التقرير يرصد 7 ابتكارات أهداها فينغر للكرة في بريطانيا، وفي العالم.
1- تطوير اللاعبين ووقف البذخ والصفقات الاستعراضية
لاحظ موقع BBC الرياضي أن إجمالي نفقات فينغر في أعوامه العشرة الأولى، والتي تقدر بنحو 160 مليون جنيه استرليني، كانت أقل مما أنفقه جوزيه مورينيو في عامين كمدرب لتشيلسي.
فبدايةً من أولى تعاقداته في آرسنال، حقَّق فينغر لنفسه سمعة كمدرب ذي نظرة ثاقبة في اختيار اللاعبين المميزين وإبرام الصفقات الرابحة، وقدرته على صناعة النجوم.
مثلاً، تعاقد مع النجم الفرنسي السابق باتريك فييرا، مقابل 3.5 مليون جنيه إسترليني فقط (5 ملايين دولار)، قادماً من ميلان الإيطالي، لكنه أصبح في النهاية لاعباً لا يقدر بثمن.
ويمكن القول إنَّه بعد 13 عاماً من رحيل فييرا عن الفريق، لم يتمكَّن أي لاعب من تعويضه بعد.
ويظل النجاح الأبرز لفينغر من بين هؤلاء اللاعبين الشبان هو الإسباني سيسك فابريغاس، الذي جلبه فينغر من برشلونة وهو صغير، وأصبح أصغر لاعب على الإطلاق يشارك مع الفريق الأول لآرسنال عندما كان يبلغ من العمر 16 عاماً و177 يوماً. وفي الأسبوع الماضي، وصف فابريغاس فينغر بالأب الذي ساعده على التطور، سواء كلاعب أو كشخص.
ويشتمل تركيز فينغر على التطوير كل جانب من جوانب اللاعبين الذين لعبوا تحت قيادته. ويُعَد الوفاء والعاطفة التي يكنها هؤلاء اللاعبون له شاهداً على ذلك.
2- الرؤية الشاملة وابتكار طريقة لعب جديدة
ينضم فينغر لقائمة المدربين أصحاب الفلسفة المحددة لطريقة اللعب، وهي قائمة ضمت سابقاً لويس فان غال ويوهان كرويف، وتضم حالياً بيب غوارديولا ومارسيلو بييلسا.
إنهم "مفكرو" كرة القدم، وما قدمه فينغر لأداء آرسنال جعل الفريق يقدم طريقة لعب مميزة، مثله في ذلك مثل برشلونة الإسباني، لأنه كان يطبق فكرة فينغر عن الكرة والطريقة التي يجب أن تُلعب بها.
3- ثورة النظام الغذائي للاعبين
ربما تتحدث إضافة البروكلي إلى قائمة طعام اللاعبين في آرسنال – الأمر الذي كان يجب أن يبدو وكأنه ثورة في الفريق – عن الكرة الإنكليزية، أكثر مما تفعل حول آرسين فينغر. ومع ذلك، حينما فرض المدرب الفرنسي نظاماً غذائياً منخفض الدهون والسكريات على لاعبيه، كان الأمر ملزماً، وهو لم يحدث قط من قبل في الدوري العريق.
كان الأمر صادماً في البداية، إذ كانت هناك جلسات إطالة وتدليك قبل المباريات، لكن الفوائد كانت واضحة للغاية على اللاعبين بعد وقت قصير؛ لدرجة أنَّ هذه المجموعة من اللاعبين -الذين اشتهروا سابقاً باتباع أنماط حياة ضارة بهم – تقبَّلت هذا النظام الجديد بتفانٍ.
أصبح النهج المتوازن بين النظام الغذائي والتدريبات بعد وقت قصير هو الأسلوب الأساسي المتبع في الدوري الإنكليزي الممتاز، بل وأصبح شائعاً في المجتمع البريطاني أيضاً. تفوق آرسين فينغر على الطاهي البريطاني الشهير جيمي أوليفر.
4- التمهيد لإنهاء عزلة الـ "بريميرليغ" عن العالم
في العام 1996، كان هناك مدربان فقط من خارج المملكة المتحدة وآيرلندا في الدوري الإنكليزي الممتاز، هما الفرنسي آرسين فينغر والمدرب الهولندي رود خوليت.
وفي 2018، أصبح عدد المدربين من خارج المملكة المتحدة وآيرلندا 12 مدرباً، بمن فيهم العديد من أفضل المدربين في العالم بإجماع الآراء، مثل البرتغالي مورينيو والإسباني غوارديولا والألماني يورغن كلوب. ويُعَد جميع المرشحين الرئيسيين لخلافة فينغر في ملعب "الإمارات" غير بريطانيين أيضاً. ومنهم الفرنسي الشهير باتريك فييرا، الذي لعب تحت قيادة فينغر والإسباني لويس أنيركي مدرب برشلونة السابق.
تعاقد فينغر مع لاعبين من 26 دولة مختلفة، وفي مباراة فريقه الأخيرة بالدوري الإنكليزي أمام نيوكاسل يونايتد، يوم الأحد 15 أبريل/نيسان، ضمَّت التشكيلة الأساسية ثلاثة لاعبين فقط من بريطانيا. لطالما كان فينغر في طليعة هذا التغيير الجوهري: من لعبة كانت محلية حقاً إلى واحدةٍ تعولَمت بالكامل.
5- ابتكار أسلوب يستند إلى القوة بلمسة جمالية
حينما سُئِل الإسباني بيب غوارديولا مدرب مانشستر سيتي عن تعليقه على رحيل فينغر من تدريب آرسنال، أجاب قائلاً "أصبح الدوري الإنكليزي الممتاز على ما هو عليه الآن بفضل ما قدمه (فينغر)".
ولا يبدو أنَّ قدوم مدرب مثل غوارديولا للعمل في إنكلترا كان محتملاً دون الأساس الذي وضعه فينغر، وليس السبب في هذا فقط الفطائر والجعة التي تشتهر بها البلاد.
ومن خلال النجم الفرنسي تييري هنري والهولندي دينيس بيركامب واللاعب الفرنسي الآخر روبرت بيريس بصفةٍ خاصةٍ، قدَّم فينغر في إنكلترا كرة القدم التي نجحت في تحقيق المعادلة الصعبة بالجمع بين القوة واللمسة الجمالية.
6- تطوير مراكز تدريب آرسنال والاهتمام بالناشئين
كان فينغر يكره عدم المساواة في سوق الانتقالات. وبصفته خبيراً اقتصادياً، لم يرَ قيمةً تُذكَر في معظم الصفقات التي تُبرَم، وهي معاملات تضخَّمت في رأيه بشكل غير مُبرَّر بسبب تدخل وكلاء اللاعبين وارتفاع عوائد البث التلفزيوني وسخاء رؤساء الأندية.
وكانت أولى مساعي فينغر خارج الملعب هي إعادة تطوير مراكز تدريب آرسنال، إذ أوصى بإنشاء مركز تدريب قيمته 12 مليون جنيه إسترليني في ريف مقاطعة هيرتفوردشاير بالعاصمة البريطانية لندن. وتبع ذلك تحقيق إنجاز أكبر، وهو نقل آرسنال من ملعبه "هايبري" التاريخي الضيق إلى ملعب "الإمارات"، وهو مشروع تكلَّف 390 مليون جنيه إسترليني (546.31 مليون دولار أميركي) أدى إلى زيادة سعة استيعاب الجماهير بمقدار 22 ألف متفرج ومضاعفة إيرادات تذاكر المباريات.
وحقق آرسنال إيرادات قياسية قيمتها 419 مليون جنيه إسترليني، نحو 586 مليون دولار أميركي، الموسم الماضي؛ ليصبح سادس أكبر ناد في العالم من حيث القيمة.
7- المدرب المثقف الذي يلهم المدربين
نقلوا عن مدرب مانشستر يونايتد السابق السير آليكس فيرغسون سخريته من الدرجات العلمية لفينغر، ومن إتقانه 5 لغات، وقال: عندي صبي من ساحل العاج عمره 15 عاماً، ويتحدث 5 لغات.
لكن الكثيرين يُرجعون ثورية أسلوبه في التدريب لثقافته ورؤيته العامة. 2003- 2004 قدم آرسنال موسماً استثنائياً، بأداء حيوي ديناميكي، ووابل من الهجمات بلا نهاية، ولم يخسر مرة واحدة طوال الموسم، وساعتها قيل إن بريطانيا تشهد لحظة تاريخية في تطور كرة القدم. كان المشجعون يلهثون وراء التطور التدريجي في أداء الفريق، والتحولات التكتيكية في اللعب، دون أن يدركوا إلى مدى كان الرجل تنويرياً وطليعياً.
قال غوارديولا مؤخرا إن فينغر هو المدرب الأكثر إثارة للإعجاب في الدوري الإنكليزي، والعبارة تكشف ما لا يعرف الكثيرون، فالرجل عاش سنوات كثيرة ملهما لزملائه المدربين، وكثيرا ما كان بعضهم يحرص على متابعة جلساته التدريبية من مدرجات ملعب آرسنال، ليتعلموا، ويفهموا، ويثوروا على المألوف والتقليدي.