هذا المونديال مختلف تماماً، ومخطئٌ من ظنَّ أن شغفنا الكروي سيكون منضبطاً هذه المرة، ففي اللحظة التي نكتبُ فيها منشورَ التهنئة لمنتخب عربي بتأهله لمونديال كرة القدم في روسيا 2018؛ تنشبُ مشاعرنا السياسية أظافرَها في وجوهنا لتذكِّرنا بالدماء التي سالت والمدن التي دمِّرت والأرواح التي أُبيدت والمستقبل الذي هدّه جنون الحكّام، فتضطرب مشاعرنا بين شغف الكرة، وخلافات الدم والسياسة.
مونديالٌ مختلفٌ تماماً هذه المرة، فقد كنا نتمنى في كل نسخةٍ للحدث الكروي الأكبر بالعالم وجودَ منتخبٍ عربيٍ واحد، ليصطفَّ 400 مليون عربيٍّ أمام شاشات التلفزة مؤازرين لهذا المنتخب، كأنهم شعبٌ واحد مهما كانت قارته أو موقعه الجغرافي أو تركيبة سكانه، كأنهم أبناء بلدٍ واحد بعَلمٍ واحد وبزيٍّ واحد وهتافٍ واحد.
أما الآن، فقد نكسب خمسَ بطاقات تأهّل عربية! مما يعني أن الجماهير العربية ستنتشي هذه المرة أكثر مما ينبغي، وسيضبط المتابع العربي محرّك البحث على مواقع الأخبار الرياضية كل ثانيةٍ منتظراً بشغف ما تبقى من أملٍ للمنتخبين العربيَّين، المغرب وتونس، اللذين لم يحسما تأهلهما بعد.
في زاويةٍ أخرى من زوايا الملعب المستطيل، يُطلُّ أحدهم شاردَ الذهن مشدودَ المشاعر، قلبه يدفعه نحو جمالِ الرياضة ومتعة الأداء الكروي ونخوةِ العربي للعربي وعاطفته نحو منتخب بلاده الذي سيتصدر أكبر منصة عالمية لكرة القدم، أما عقله فيفتح له ماضياً مؤلماً.. أفاعيل الحكام، وعتمات السجون، والتفاصيل المرهقة والمحزنة، والمآلات الصعبة لثورة بلاده، يتقدم خطوة ويرجع خطوة: "لِك هادا مو منتخبي، هادا منتخب شبّيحة" يحدِّث السوري نفسه!، "دا مش منتخبنا دول حبة فِلول" يحدِّث المصري نفسه، "بتشمِّ ريحة بن علي فيه" يحدِّث نفسه التونسي، "لم أعد أقبل أي شيءٍ من هذا البلد" يتنهَّد السعودي!
وهكذا.. بكلِّ ألمٍ، يعيشون في تجاذبٍ مستمرٍ بين الذات والذات، بين حبِّ الكرة وماضي بلادهم الكئيب.
ليسوا وحدهم؛ بل أشقاؤهم العرب كذلك تضطرب مشاعرهم ما بين مَقْتٍ عام لكلّ مقدَّرات النظام الذي عقرَ صوتَ أبنائه، وسَفك دماءَهم، فلم يعودوا يقبلون فنَّها ولا منتخبها ولا مشاهيرها المساندين لحكامها، ولا أي شيءٍ ينطق باسمها.
هذا الانفصام الذي لم يحدث سابقاً للشعوب العربية يوماً ما، هذا الانفصام صار حائلاً بينك وبين شغفك وهواياتك، وطموحاتك.
أتخيَّل نفسي سوريّاً مطروداً من بلادي وأنا أرى لاعبي المنتخب يمجِّدون صورة الرجل الذي عذَّبني يوماً ما في سجونه ولاحقني في البحار والغابات حتى وصلتُ إلى بلادٍ لا أعلمُها.. أو مصرياً يسمع تأييدات اللاعبين للرئيس الذي غيَّب أبي في السجن.
شعورٌ صعبٌ بلا شك، ومن الترف أن نستهين به.
لكن لا شيء من هذا سيمنعني من شغف الكرة، فمنتخب بلادي في قلبي هو منتخبٌ لبلادي التي أعرفها، وأردّد شوقي لها، وألقِّن حبَّها لأهلي وأبنائي!
إلى الذين لم يحقدوا على بلادهم، رغم الألم الذي اكتنزَته قلوبهم، ورغم الأوجاع التي سبَّبتها الفرقة في بلادهم، ورغم التجويع وانحدار الاقتصاد وتكميم الأفواه.. ها قد صعد منتخب السعودية إلى كأس العالم في روسيا 2018، وبالأمس تبعه منتخب مصر، وعلى بُعد خطوةٍ ربما يلحقهما المنتخبان المغربي والتونسي.
فدعوكم من الأنظمة وشجِّعوا منتخبات بلادكم بكلِّ حب، الرياضة لن توقف ثورتكم ولن تساند من ظلمكم! فلا تعلقوا خيباتكم على شمّاعة الرياضة، لقد حدث ما حدث بها ومن دونها، فافصلوا الكرة عن السياسة، ولا تسرقوا شغفكم بأيديكم، واضبطوا أعماركم قليلاً، واتركوا المجال لكرة القدم أن تتحدث ولا تعكّروا حياتكم من أجل السياسة!
منتخباتكم بانتظاركم، فشجِّعوها كما ينبغي.. ارفعوا أعلامها، وأطلِقوا العنان لشغف الرياضة ولا تضيِّعوا متعة المونديال!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.