واجهَني في طريق ذهابي لمشوار ما زحامٌ لم أعتده في مثل هذا التوقيت عند مروري في ذاك الشارع. توقعته في بادئ التحليل حادثا أو اصطداما، أو ربما نقطة تفتيش.
أو لعلها مجموعة حفريات لمجرى ماء أرضي انفجر، أو صهريج ذائب، أو لعلها امرأة تقطع الشارع مع مجموعة أطفال وهم في العادة مصدر معتاد للزحام.
ثم وفي خضم أصوات التنبيه الصادرة عن السيارات انزعاجا من توقف لا يفهمون سببه، ولا سبب قيامهم هم أنفسهم بتلك الضغطات الغاضبة على أبواق التنبيه ولا يدركون من يخاطبون فيها، غير أنها عادة تشبه المقولة التي اعتدناها "وينكم يا عرب؟" في جملة يخاطب فيها الهاتف نفسه تماما كما تخاطب الأبواق نفسها دون وعي في قصتنا، في سيمفونية غاضبة تشرح حجم التوتر والضغط الذي تعيشه الشعوب العربية.
سرعان بعد كل هذا الضغط والتحليل.. ما تبين السبب..
نحن نقف بموازاة ستادٍ دولي لكرة القدم.. وهذا سبب وجيه لكل ذاك التأخر والتخدير على الطريق.
تحولت فجأة أضواء الشارع الصفراء لأخرى بيضاء مشعة آسرة، أو لعل أعيننا تحولت عن الصفراء البالية لتلك الكاشفات الضخمة في الملعب.
استمرت كثافة أبواق السيارات في رنينها.. غير أن إيقاعها تغير لإيقاع ذي دلالات تشجيعية.
بدأت السيارات في الاصطفاف على جوانب الطريق حتى لم تكد تجد سوى مسار واحد مفتوح، وينزل منها المشجعون تباعا لمباراة محلية.
جموع بالمئات، متوشحين بألوان مختلفة تمثل الأندية التي يشجعونها، لا ترى أمامها سوى الملعب، ولا تسمع إلا هتاف مشجعي ناديها، ولا تتخيل إلا أبطالها ونجومها في مشاهد التسديد الاحترافية نحو الشِبَاك.
استفزني ذلك المشهد -ودائما ما تستفزني مباريات الكرة- لكتابة هذا المقال، وكنت لا أريد أن أطرح رأيي في هذه القصة احتراما لاهتمامات الناس، وحقها في هامش للرفاهية والفرح، واختيار الطريقة التي تملأ بها وقت الفراغ والراحة. غير أن الخطب عندي جلل، والشأن عظيم، والحرقة بلغت ما لا يطيق القلم سكوتا عنها.. والحرية كما هي لهم في سلوكهم هذا فهي لي أيضا في انتقاد بعض جوانبه.
أما ما انتقده في سلوك التشجيع للأندية فأساسه استهلاك الولاء وطاقاته المنتجة وأوقاته الضخمة في غير فائدة يطلبها المجتمع العربي والمسلم.
كان أولى بهذا الحب والتفاني في الدفاع عن النادي والفريق الكروي، أن يكون حبا لبعض شرائح الوطن ومؤسساته، وكان أولى بالتعلق بهذا النجم الكروي -وهو فنان لا ننكر موهبته- أن يكون تجاه مفكر مبدع طرح حلولا اقتصادية واجتماعية وسياسية لمشاكل أمتنا المتخلفة عن التقدم الحضاري، وكم كان هذا الهتاف ليثمر في بلادنا لو كان مُسَخَّرا للحقوق ودعم الأوطان المحتلة السليبة، وتشجيع الإنتاج والعمل التطوعي والإنجازات العلمية.
الحب والولاء طاقة هائلة يمكننا استثمارها في مجالات متعددة بما يعود بالفائدة علينا وهي في ذات الوقت قابلة للاستهلاك والاستنفاد؛ وكم آسَفُ لتلك القلوب التي لم يملأها إلا حب النادي والهداف الكروي، وأسمعها في نقاشاتها تقول: "قمنا" و"فزنا " و"سددنا" في اندماج ولائي كامل مع النادي دون حقيقة تأثير وإنتاج تجاهه حتى!
أغار يا سادة تجاه هذا السلوك الولائي؛ أريد بعضه فقط لكثير من المؤسسات والكتّاب والمنتجين والعلماء والقادة والمجددين.
نقوم في جامعتي بحشد طلابي هائل لبرنامج مقدسي مثلا، أو مرتبط بالقضية السورية، أو ذي طابع فكري رابط ببعض المفكرين والعلماء.. فتجد جمهورا يتراوح بين 500 إلى 1000 شخص فقط، ثم نتحدث عن مباريات لها عشرات آلاف المتابعين في الملعب فقط، فضلا عن مشاهدي التلفاز والإعادات!
يا قوم! هذه هوايات وتسلية لا بد أن لا تشغل من حيز الولاء والجهد والوقت والتفاني أكثر من حيزٍ هامشي يندم الهُمام المتصدر عليه حتى!
وليست هذه دعوة للتوجه السياسي، ولا بالضرورة طلبا للولاء لمؤسسات أحبها أو أرغب العمل لها، بل هي دعوة لتبني مختلف الآراء والقضايا والعمل مع شتى المؤسسات الهادفة بما يغطي ثغرات متعددة في خدمة نواتجنا القومية، وإسهاماتنا العملية ومشاريعنا السياسية والاقتصادية والفكرية.
الهلالي والاتحادي ليسا خصمين في وطن واحد ضمهما وعاشا عليه، ومشجعو الوحدات والفيصلي ليسا سوى جناحين في وطن أبناؤه مدعوون لخدمته، ومشجعو البرشا ومدريد أو الأهلي والزمالك الذين يكرهون بعضهم بجد مساهمون في التخدير والتخذيل عن قضايانا.
وأعترف هنا؛ أن هذه الرياضة ممتعة ولاعبوها مبدعون في مجالهم، وأن فيها من التأثير العابر لحدود الأديان والسياسة ما يوجب علينا دفع بعضنا للتصدر فيه. ثم إنها للذين يمارسونها ولا يكتفون بالمتابعة والاستهلاك رياضة صحية، ومجال علاقات جيد، وسوق استثمار دعائي. إلا أن التطرف في حبها ومتابعتها ضرر وإسراف وتفريط، خصوصا في ظل وجود القضايا العربية الإسلامية المحقة والتي تحتاج كل الجهود في نصرتها والدفاع عنها.
وأهدف من تطرفي في كرهها وتبيان خطر التعلق بها؛ إلى التقليل النسبي من حجم الاهتمام بها في إطار علاقاتي أقلها والقراء لهذا المقال.. ولا أراني بحال أمنع بجد تلك الجماهير من المتابعة والتشجيع ولكني آمل أن في بعض نخبهم من يكتفي بقليل المتابعة لحساب مشروعه وفكرته التي يحملها ويسعى لإيصالها للعالم.
لكل مفكرٍ افتتح معرضا لكتابه في دور النشر وقد انحنى ظهره في تأصيله وتصويبه فلم يجد جمهورا ولا مشترين..
لكل عالم لم يجد بيئة احتضنت براءته العلمية وبحثه الجامعي في عالمنا العربي فجلس في منزله..
لكل شاعر خط بقلمه معاني الحرية والعدل.. فلم تفسح له قنواتنا المجال.
للمستثمر الفطن المستحق تدوينا لتجربته، والمرابط السوري والفلسطيني والعراقي يمنع المحتلين من التوسع تجاه باقي وطنه الممتد..
لذلك الأستاذ الذي طاف العالم العربي بحثا عن عيش كريم يقدر علمه وشهاداته ويسمح له بالتفرغ لبناء جيل باحث فلم يجد في جنازته إلا بضعة أشخاص..
لذلك الطفل السوري الذي مات جوعا في مضايا.. كرهت كرة القدم!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.