تُسلِّط المذبحة التي أودت بحياة 50 شخصاً في نيوزيلندا، الجمعة 15 مارس/آذار 2019، الضوء على الوسائل المُعدية التي ينتشر من خلالها عنف وأيديولوجيا اليمين المتطرف في القرن الـ21، ووصوله حتى إلى بلدٍ لم يشهد وقوع حادث إطلاق نار جماعي منذ أكثر من عقدين من الزمن، ونادراً ما يجري ربطه باليمين المتطرف.
ربما تبعُد نيوزيلندا آلاف الأميال عن الولايات المتحدة أوروبا، لكن فيديوهات القاتل تُظهِر أنه كان راسخاً بعمق في تيار اليمين المتطرف العالمي، وأنه رجل على دراية بدراسة الأيقونات، والإشارات التي لا يفهمها إلا أشخاص أو جماعات معينة، وشعارات المجموعات المتطرفة المختلفة من مختلف أنحاء أوروبا وأستراليا وأمريكا الشمالية، بالإضافة إلى كونه عضواً أصيلاً بمنظومة اليمين المتطرف على شبكة الإنترنت، بحسب صحيفة The New York Times الأمريكية.
وتضيف الصحيفة أن البيان المنسوب إلى القاتل المتهم، والذي نُشِرَ على حسابه بمواقع التواصل الاجتماعي صبيحة يوم المذبحة، يشير إلى أن كاتبه يَعتبر نفسه "تلميذاً ورفيقاً للقتلة المؤمنين بتفوق ذوي البشرة البيضاء". واحتفى القاتل، الذي حددت وثائق المحكمة هويته بأنه الأسترالي برينتون هاريسون تارانت، بالرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وتهكَّم على مهاراته القيادية، لكنَّه وصفه بأنه "رمز لتجديد الهوية البيضاء والهدف المشترك". اتُّهِم تارانت بالقتل، السبت 16 مارس/آذار 2019.
"تفوق العرق الأبيض"
وكان كاتب البيان متأثراً بصورة خاصة، بأفكار ووسائل أندريس بريفيك، الإرهابي اليميني المتطرف النرويجي الذي قتل 77 شخصاً عام 2011، والذي مثَّل بيانه الخاص غير المترابط، الذي جاء في 1518 صفحة، مصدر إلهامٍ لكثير من المتطرفين الذين قلَّدوه، وضمن ذلك –بحسب السلطات- كريستوفر هاسون، وهو ملازم في خفر السواحل الأمريكي يواجه اتهاماتٍ فيدرالية بالتخطيط لهجومٍ إرهابي محلي، على غرار هجوم بريفيك.
في الحقيقة، كان البيان عبارة عن "قائمة تعريفية بالقَتَلة المؤمنين بتفوق البِيض". وكانت مصادر إلهام الكاتب هي ديلان روف، المؤمن بتفوق البِيض الذي قتل 9 أمريكيين من أصلٍ إفريقي داخل كنيسة بولاية ساوث كارولينا عام 2015، بالإضافة إلى لوكا ترايني، وأنتون لوندين بيترسون، ودارين أوزبورن، وجميعهم نفَّذوا هجمات عنصرية بأوروبا في السنوات الأخيرة.
إضافة إلى ذلك، فقد اهتم بملابسه وأسلحته بعناية. إذ كان يضع رُقعة عليها شعار تستخدمه بعض مجموعات النازيين الجدد في أنحاء العالم، وضمن ذلك أستراليا. وكان مكتوباً على بندقيته مجموعة من معتقدات القوميين البِيض التي روَّج لها ديفيد لين، الإرهابي الأمريكي المحلي وأحد المنتمين إلى النازيين الجدد. وكان يوجد على سترته الواقية من الرصاص شعار شائع تستخدمه "كتيبة آزوف"، وهي منظمة أوكرانية شبه عسكرية تنتمي إلى تيار النازيين الجدد.
وبينما كان يبث مقطع فيديو مباشرةً من سيارته، كان يستمع إلى أغنية أُعِدَّت تكريماً لرادوفان كاراديتش، وهو أحد قادة صرب البوسنة والمسؤول عن موت الآلاف من مسلمي وكروات البوسنة خلال حربٍ عِرقية نشبت بمنطقة البلقان في التسعينيات.
كيف أسهمت منصات التواصل في تسلل الخطاب المتطرف؟
قال ماثيو فيلدمان، مدير Center for Analysis of the Radical Right، وهي مجموعة بحثية مقرها بريطانيا، إن وجود مواقع التواصل الاجتماعي في كل مكان، وإمكانية الدخول إلى مواقع مثل 4chan و8chan التي يجتمع أتباع اليمين المتطرف فيها على الإنترنت، سمح لتارنت بالانغماس بسهولة في المحادثات المتطرفة.
أضاف فيلدمان: "احتمال وجود الأشخاص الذين يقرؤون هذه الأشياء في نيوزيلندا أو النرويج أو كندا هو درجة الاحتمال نفسها لوجودهم في أمريكا. فالإنترنت لا حدود له، لكنَّ مواقع مثل 4chan أُنشئت من أجل المتطرفين اليمينيين. فهناك يمكنك إخفاء هويتك إن كنت ترغب في ذلك، ولن تُحذَف المنشورات التحريضية فور نشرها".
لكن إذا كان البيان يسلط الضوء على انتشار التطرف في أغوار الإنترنت العميقة، فإنه يُظهِر كذلك كيف تسلل الخطاب والاستعارات المتطرفة إلى الحياة السياسية ووسائل الإعلام السائدة.
أصدر ترامب، الذي أدان الهجوم، مراراً، تصريحاتٍ عنصرية وأصدر سياساتٍ ضد المهاجرين والمسلمين، وتودَّد إلى القوميين البِيض، الذين قال عنهم إنَّهم يضمون "أناساً رائعين للغاية".
ووصف ترامب، الجمعة 15 مارس/آذار 2019، عمليات القتل في نيوزيلندا بأنَّها "أمرٌ مروع ومخزٍ!". وعند سؤال الصحفيين له عما إذا كان يرى القومية البيضاء تهديداً متصاعداً في أنحاء العالم، أجاب ترامب بأنَّه لا يرى ذلك.
وأضاف: "أعتقد أنها مجموعة صغيرة من الأشخاص أظن أنها تعاني مشكلاتٍ خطيرة للغاية. إذا نظرتم إلى ما حدث في نيوزيلندا، فلربما يكون الوضع كذلك. لكنني لا أعرف ما يكفي عن الأمر حتى الآن".
كان الهدف الأساسي لبيان المؤلف هو منع المسلمين وغير البِيض من السيطرة على المجتمع الغربي، ودعوة الدول ذات الغالبية البيضاء إلى "القضاء على الهجرة"، وترحيل غير البِيض، وإنجاب مزيد من الأطفال، لوقف تراجع أعداد السكان البِيض. وكُتب في البيان: "أبعدوا الغزاة، واستعيدوا أوروبا".
التطرف في خطاب ساسة أوروبا
تجد تلك الأهداف صدىً لها في الخطاب الغاضب لبعض ساسة التيار التقليدي السائد في أوروبا، ومن ضمنهم وزير الداخلية الإيطالي ماتيو سالفيني، ورئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان.
إذ أدان أوربان فكرة المجتمع متعدد الإثنيات، وقدَّم نفسه مراراً باعتباره مُدافِعاً عن أوروبا المسيحية في وجه مَن ينظر إليهم باعتبارهم الغزاة الإسلاميين، وطبَّق سياساتٍ تُشجِّع الأمهات المجريات على إنجاب مزيد من الأطفال.
وعاد أوربان، الجمعة، بعد ساعاتٍ فقط من حادث إطلاق النار في مدينة كرايست تشيرش، لتناول تلك الموضوعات في خطابٍ كبير لم يأتِ فيه على ذكر مذبحة نيوزيلندا.
فقال: "دون الثقافة المسيحية، ما كانت ستوجد حرية في أوروبا. وإن لم نحمِ ثقافتنا المسيحية، فسنفقد أوروبا".
ويُعَد حزب أوربان جزءاً من تحالف على مستوى أوروبا لأحزاب يمين الوسط السياسي، مع أن عضوية الحزب في التحالف محل نقاش حالياً، ويضم هذا التحالف في عضويته المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل ورئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر.
قال توري بيورغو، مدير مركز أبحاث التطرف بجامعة أوسلو النرويجية: "الأفكار التي جرى التعبير عنها في هذا البيان منتشرة على نطاقٍ واسع يتجاوز تيار الهامش السياسي المتعصب، ليس فقط في أوساط اليمين المتطرف، ولكن كذلك التيار التقليدي السائد"، مستدركاً: "لكنَّ هناك قِلة صغيرة للغاية" –خارج تيار الهامش السياسي لليمين المتطرف- "هي التي قد تخطو خطوة إضافية إلى الأمام وتحاول إشعال حرب عِرقية".
كيف يستغل اليمين المتطرف نطاق انتشار وسائل الإعلام ووسائل التكنولوجيا؟
وتسلط قدرة القاتل على بث الهجوم مباشرةً على قنواته بمواقع التواصل الاجتماعي؛ وهو ما أدى إلى انتشار الفيديو والبيان على منصتي فيسبوك ويوتيوب وكثير من وسائل الإعلام الرئيسية الأخرى، الضوء على كيفية استغلال اليمين المتطرف نطاق انتشار وسائل الإعلام وشركات التكنولوجيا الكبرى، حتى برغم استمرار هذا التيار في نشر رسالته بالزوايا المظلمة على مواقع الإنترنت الغامضة.
وتمكَّن القاتل، ببثه هذا العمل الوحشي بنفسه، من التحايل على الرقباء التقليديين للتغطية الإخبارية، وفي الوقت ذاته تشجيع أولئك الرقباء أنفسهم على اللجوء إلى بعض لقطاته التي صوَّرها لنفسه لاحقاً، بل حتى للتوسُّع –عن غير قصد- في توصيل أفكاره إلى ملايين إضافيين من المُقلِّدين المحتملين له أكثر مما كان يمكن أن يُوصِّل أفكاره إليهم بطريقة أخرى. قال بيورغو: "فُعِل هذا بالتأكيد من أجل التغطية الإعلامية".
وتُظهِر كتابة معظم البيان في صورة سؤال وجواب، أنَّ كاتبه كان بشكلٍ واضح يتوقع -وكان محقاً في توقعه- أن تحصل شبكات الإعلام الرئيسية على هذا البيان وتنشره، وهو الأمر الذي من شأنه نشر أفكاره بدرجة أكبر من أي وقتٍ مضى.
وقال فيلدمان من مركز Center for Analysis of the Radical Right: "واحدٌ من أكثر فصول هذا الأمر إثارةً للتقزُّز والانزعاج بالنسبة لي، هو أنَّ عمليات القتل، والهجمات الإرهابية الفعلية، تُمثِّل أشكالاً من الدعاية لـ (مثل تلك) البيانات. فهم يلفتون الأنظار إلى بياناتهم عن طريق أعمالهم".
ويضيف فيلدمان أنَّ هذا يترك المؤسسات الإعلامية أمام مأزقٍ أخلاقي. ويتابع: "التغطية ستكون شاملة اليوم، لكنَّها غداً ستدفع شخصاً آخر (مثل تارانت) إلى التحرُّك".