أخيراً التقى الرئيس ترامب رجلاً قوياً لا يحبه، فبعد أن صاحب الحكام المستبدين في العالم، رسم خطاً أحمر مع نيكولاس مادورو رئيس فنزويلا وطالبه بتسليم السلطة لمعارضيه.
يُعد هذا التحدي الفعّال من قبل ترامب لمادورو أول خرق من نوعه في سياسته المناهضة للتدخل، وخروجاً حاداً عن سياسة "أمريكا أولاً" التي تهدف إلى انتزاع أمريكا من المستنقعات الخارجية والبقاء بعيداً عن الشؤون الداخلية لبلدان أخرى.
صحيفة The New York Times الأمريكية تشير في تقرير لها إلى أن قرار ترامب بتأييد تغيير النظام في فنزويلا، بتشجيع من السيناتور ماركو روبيو، السيناتور الجمهوري لفلوريدا، وغيره من المنتقدين منذ زمن طويل للقيادة اليسارية في كراكاس، النوع نفسه من الحزم الدولي الذي احتقره ترامب في الماضي في الإدارات السابقة، كما أنَّه ينطوي على مخاطر هائلة.
هل يستخدم قوته العسكرية؟
ومع وقوف الجيش الفنزويلي إلى جانب مادورو، فمن الممكن أن ينحدر الموقف بسهولة إلى المزيد من العنف، مع احتمالية وجود الدبلوماسيين الأمريكيين في مرمى النيران.
وقال ترامب إنَّ "جميع الخيارات على الطاولة"، مشيراً إلى احتمالية استخدام القوة العسكرية. حتى لو لم يصل الأمر إلى ذلك، فإنَّ ترامب يواجه خسارة مصداقيته لو تحدى مادورو في النهاية الضغط الأمريكي وتمسك بالسلطة.
وقال روب مالي، رئيس مجموعة الأزمات الدولية وأحد المساعدين السابقين للرئيس باراك أوباما وبيل كلينتون: "إنَّ موقف الإدارة تجاه فنزويلا مقامرة في السياسة الخارجية التي يمكن بفعل الإدراك المؤخر، أن تبدو تصرفاً حكيماً" لو أجبر مادورو على الخروج من السلطة، "أو تبدو تصرفاً متهوراً لو لم يحدث ذلك. في تلك الحالة، سوف تكون الكرة في ملعب الولايات المتحدة بشكل مباشر، مع وجود خطر أن تقوم الولايات المتحدة بالقليل أو تظهر العجز، أو أسوأ من كل ذلك أن تتدخل عسكرياً وتظهر طيشها".
في الوقت الحالي، شددت الإدارة على الخيارات الدبلوماسية والاقتصادية، على أمل الإبقاء على التضامن الإقليمي. إذ حث وزير الخارجية، مايك بومبيو، جميع الأعضاء الـ35 في منظمة الدول الأمريكية على الاعتراف بخوان غوايدو، رئيس الجمعية الوطنية، رئيساً جديداً للبلاد، كما فعلت كندا والبرازيل والأرجنتين ودول أخرى كثيرة في المنطقة الأمر ذاته.
إذا كانت أمريكا تعادي رئيس فنزويلا "غير الديمقراطي".. فلماذا تتعاون مع حكام سلطويين؟
وقال بومبيو: "إنَّ نظام الرئيس السابق نيكولاس مادورو غير شرعي. نظامه مفلس أخلاقياً، وعاجز اقتصادياً وفاسد للغاية. هذا نظام غير ديمقراطي بكل ما تحمله الكلمة من معنى".
وتشير "نيويورك تايمز" في تقريرها إلى أن هذا حال الكثير من الدول الأخرى، ومع ذلك فقد عقد ترامب صداقات مع زعماء سلطويين في أماكن مثل كوريا الشمالية ومصر والسعودية والفلبين وتعكس حقيقة إثارة فنزويلا لغضب ترامب عدداً من العوامل المتداخلة، بما في ذلك من يستمع له ترامب عندما يتعلق الأمر بأمريكا اللاتينية.
وقال مايكل شيفتر، رئيس مركز أبحاث Inter-American Dialogue (الحوار بين الأمريكيين) المتخصص في شؤون نصف الكرة الغربي: "هذا أمر مخالف للغاية لما رأيناه في أجزاء أخرى من العالم. لكنَّ أمريكا اللاتينية مختلفة. فهي مكان يكون فيه للسياسات الداخلية دور أعظم بكثير من أجزاء أخرى في العالم".
وقد كان روبيو شخصية محورية في الضغط على إدارة ترامب لتبني موقف أكثر شدة حيال مادورو. بالنسبة لروبيو، مثله في ذلك مثل زعماء أمريكيين كوبين آخرين، فإنَّ الروابط بين فنزويلا في عهد مادورو، وكوبا في عهد كاسترو أمر باعث على القلق الشديد.
فقبل أسابيع فحسب من استلام ترامب منصبه، رتَّبَ روبيو لعقد لقاء في البيت الأبيض مع ليليان تينتوري، زوجة ليوبولد لوبيز، وهو أحد زعماء المعارضة الذي يخضع حالياً للإقامة الجبرية وهو مهندس صعود غوايدو. وقيل إنَّ ترامب قد أعجب بالسيدة تينتوري ومنذ ذلك الوقت صار يسأل مساعديه بشكل منتظم عن أحدث أخبار فنزويلا. وأعطى روبيو أيضاً البيت الأبيض قائمة بمسؤولين فنزويليين لاستهدافهم، وقد صادقت الإدارة على هذه القائمة.
وزار روبيو البيت الأبيض مرة أخرى، يوم الثلاثاء 22 يناير/كانون الثاني، ليتكلم مع ترامب حول خطة للاعتراف بغوايدو رئيساً شرعياً لفنزويلا لو أعلن رسمياً منصبه الجديد، وذلك بحسب أحد المساعدين في مجلس الشيوخ اطلع على هذا الاجتماع.
وناقش السيناتور أيضاً مع مسؤولي البيت الأبيض الخطوات التي يجب اتخاذها في حالة قاوم مادورو وصعد الموقف، وذلك بحسب المساعد الذي رفض مناقشة خطط الطوارئ.
وعندما طالب غوايدو بالرئاسة فعلاً في اليوم التالي على أساس تزوير الانتخابات الرئاسية الأخيرة، نفذ ترامب المتفق عليه واعترف به، ما دفع مادورو إلى قطع الروابط الدبلوماسية وأمر الدبلوماسيين الأمريكيين بمغادرة البلاد في غضون 72 ساعة.
وهدد روبيو، في مقابلة تلفزيونية يوم الثلاثاء، بالقصاص لو ألحقت قوات مادورو أذى بالموظفين الأمريكيين، وبدا وكأنه متحدث رسمي باسم إدارة ترامب.
وقال روبيو في مقابلة مع شبكة MSNBC: "سوف نفرض أيضاً عواقب وخيمة على الأشخاص المسؤولين عن ذلك الضرر، وينبغي أن يكون ذلك الأمر مفهوماً بوضوح شديد. وأؤكد لكم أنَّ هذا ليس مجرد تهديد فارغ. لا يمكنني التصريح بأكثر من ذلك، لكنني أخبركم بأنَّ العواقب ستكون وخيمة".
وقد كان كلٌّ من بومبيو وموريسيو كليفر كاروني، المدير الأقدم لشؤون نصف الكرة الغربي في مجلس الأمن القومي، من أكثر الداعمين داخل إدارة ترامب، لاتخاذ موقف قوي حيال فنزويلا.
وقال أحد الأشخاص ممن لهم صلات بقادة المعارضة في فنزويلا إنَّ بومبيو كان له دور مهم أثناء رحلة أوائل الشهر الجاري إلى البرازيل وكولومبيا. إذ أشار بومبيو إلى قادة البلدين بأنَّه لو توصلت دول أمريكا اللاتينية إلى خطة معقولة بشأن فنزويلا، فإنَّ الولايات المتحدة ستقف بجانبهم. وقد كان هذا أحد العوامل التي ساهمت في إصدار كندا و12 بلداً آخر في أمريكا اللاتينية بياناً في الرابع من يناير/كانون الثاني، قالوا فيه إنهم لن يعترفوا برئاسة مادورو.
وقال هذا الشخص إنَّ هذا البيان كان أقوى حتى مما توقع المسؤولون الأمريكيون. كما كان بومبيو على اتصال وثيق بكريستيا فريلاند، وزيرة الخارجية الكندية، التي أدت دوراً قيادياً في حشد الانتقاد العالمي لمادورو. وتحدث الاثنان في الـ16 من يناير/كانون الثاني عبر الهاتف حول فنزويلا، من بين قضايا أخرى.
هل زعيم فنزويلا أسوأ من الحكام المستبدين الآخرين الذين صادقهم ترامب؟
وقد حظي الموقف الصارم لترامب الأسبوع الجاري ببعض الدعم من الحزبين. إذ وصف آدم بي شيف، النائب الديمقراطي عن كاليفورنيا وأحد أقوى منتقدي الرئيس، الاعتراف بغوايدو بأنه "خطوة مناسبة لدعم التطلعات الديمقراطية للشعب الفنزويلي".
لكنَّ شيف أشار، مثل غيره، إلى التباين بين نهج ترامب تجاه مادورو وغيره من الحكام المستبدين. إذ قال: "وينبغي لنا أيضاً أن نتذكر أنَّ دعم أمريكا للديمقراطية وحقوق الإنسان ينبغي أن يطبق بشكل شامل إذا أردنا أن تكون ذات مصداقية".
ولم تكن هذه رؤية ترامب عندما وصل إلى منصبه. ففي أول رحلة خارجية له بوصفه رئيساً للولايات المتحدة، قال لمستمعيه في السعودية إنه لن يملي على الدول الأخرى كيفية معاملة مواطنيها. وقال: "نحن لسنا هنا لإعطاء محاضرات. نحن لسنا هنا لنخبر الآخرين كيف يعيشون أو ماذا يفعلون أو ماذا يكونون أو كيف يمارسون شعائرهم".
ففي الشهر الماضي فقط، ديسمبر/كانون الأول، أمر ترامب فجأة بسحب القوات الأمريكية من سوريا، مجادلاً بأنَّ المصلحة الوحيدة للولايات المتحدة هناك تتمثل في قتال تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). ولم يقدم ترامب أي انتقاد للرئيس السوري بشار الأسد، الذي شن حرباً على مواطنيه، نتج عنها مئات آلاف القتلى وملايين النازحين.
وتساءل ترامب على تويتر، مستنكراً الفكرة القائلة بأنَّ للولايات المتحدة دوراً تلعبه في "حماية الآخرين" في المنطقة: "هل تريد الولايات المتحدة الأمريكية أن تكون شرطي الشرق الأوسط؟".
وقد رد مستشار الأمن القومي، جون بولتون، يوم الخميس، بخشونة على الأسئلة حول الأسباب التي تجعل مادورو أسوأ من الحكام المستبدين الآخرين الذين صادقهم ترامب.
إذ قال بولتون للصحفيين: "حسناً، سؤالك مليء بالمغالطات. هناك حقيقة أنَّ فنزويلا تقع في نصف الكرة ذاته معنا. أعتقد أنَّ لدينا مسؤولية خاصة هنا، وأعتقد أنَّ للرئيس رأياً شديد الوضوح حول ذلك الأمر".
وتعود هذه "المسؤولية الخاصة" إلى الأيام الأولى للجمهورية، ومبدأ مونرو، الذي يؤكد على الدور القيادي للولايات المتحدة في نصف الكرة الغربي. وقد حددت التدخلات والانقلابات والمغامرات العسكرية في أمريكا اللاتينية العلاقة مع المنطقة منذ ذلك الحين.
وقال ستيفن والت، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة هارفارد: "يظهر رد فعل إدارة ترامب مدى عمق غريزة تغيير النظام. فكلما واجهت الولايات المتحدة حكومة معادية، يكون إغراء محاولة الإطاحة بها حاضراً دوماً. وغني عن الذكر أنَّ هذا الأمر أصدق ما يكون في أمريكا اللاتينية".
وأكد شيفتر أنَّ تدخل الرئيس مرحب به. وقال: "لو نظرت إلى الأمر في سياق أوسع، فمن الصعب القول إنَّ هذا يظهر التزاماً أوسع بحقوق الإنسان والديمقراطية. ولكن من وجهة نظري، فإننا ينبغي لنا أن نأخذ ما يمكننا الحصول عليه. برأيي، إنه محق في هذا الأمر. أما إذا كانت لديه استراتيجية، وإذا ما كان قد فكر في هذا الأمر جيداً أم لا، فهذا ما لا أعرفه".
إلى أي مدى ستؤثر العقوبات على فنزويلا؟
تعتمد فنزويلا اعتماداً شديداً على الولايات المتحدة في عائداتها النفطية. إذ ترسل البلاد 41٪ من صادراتها النفطية إلى الولايات المتحدة. والأمر الأهم أنَّ مصافي النفط الأمريكية تعد من بين عدد قليل من العملاء الذين يدفعون لفنزويلا نقداً مقابل نفطها. وذلك لأنَّ شحنات النفط الفنزويلية إلى الصين وروسيا عادة ما تؤخذ بوصفها سداداً لمليارات الدولارات من الديون.
وقال فرانسيسكو مونالدي، الزميل في سياسة الطاقة بأمريكا اللاتينية في مؤسسة بيكر بجامعة رايس: "يأتي معظم النقد الذي تحصل عليه الحكومة الفنزويلية من السوق الأمريكية، لذا فإنَّ هذا يعني أنه سيتعين عليهم أن يجدوا طريقة ليطلبوا من الصينيين الحصول على بعض النقد، وإلا فسوف يكونون في مسيس الحاجة إلى الأموال".