بينما يحتفل الزعماء بمئوية الحرب العالمية الأولى، يتزايد نفوذ القوميين وتتفاقم الانقسامات العرقية.. فهل نحن على أبواب حرب جديدة؟

عربي بوست
تم النشر: 2018/11/12 الساعة 13:48 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/11/12 الساعة 13:48 بتوقيت غرينتش
ترمب تعلل بالأمطار وإمتنع عن زيارة مقبرة بها رفات جنود أميركيين / رويترز

يأتي الاحتفال بالذكرى المئوية للهدنة و نهاية الحرب العالمية الأولى وسط شعورٍ بالكآبة وانعدام الأمن، حيث تنتشر شياطين الشُوفِينِيَّة القديمة و الانقسامات العرقية في جميع أرجاء القارة. وبينما تتحول الذكرى إلى تاريخ، يلوح سؤالٌ واحدٌ بشكلٍ كبير: هل يُمكن أن نتعلم من التاريخ دون أن نعيشه بأنفسنا؟

ويوضح تقرير لصحيفة New York Times الأميركية، أنه في أعقاب نهاية الحرب العالمية الأولى وبعدها الثانية، تحالف الأوروبيون معاً بإصرارٍ على إخضاع قوى القومية والكراهية العرقية واستبدالها برؤية الاتحاد الأوروبي.

وليس من المصادفة أن تختار الكتلة إقامة بعض مقراتها المؤسسية في ستراسبورغ عاصمة ألزاس.

لكن اليوم، لا تذكر الأجيال الأصغر عمراً أحداث المذبحة الصناعية. وعوضاً عن ذلك، تَشَكَّل وعيهم عن طريق عقدٍ كاملٍ من الأزمات الاقتصادية وتَدَفُّق المهاجرين من إفريقيا والشرق الأوسط، علاوةً على الشعور بأنَّ الوعد بإقامة أوروبا متحدة لم يتحقق. ويبدو القرن الدموي الأخير لأوروبا بالنسبة للبعض كأنَّه العصر الحجري الجديد.

هل يستفيد الساسة من دروس الحروب العالمية السابقة؟

ورغم ذلك، راح ضحية الحرب العالمية الأولى أكثر من 16 مليون جندي ومدني، ويستمر إرثها في تشكيل أوروبا.

مهَّدت "الحرب التي تُنهي كل الحروب" الطريق أمام صراعاتٍ أكثر تدميراً، وإبادةٍ جماعيةٍ همجية، إذ ينظر ونستون تشرشل، الزعيم الأسطوري الذي قاد بريطانيا وقت الحرب، إلى الأعوام من 1914 إلى 1945 على أنها حربٌ واحدةٌ طويلة. وقال عام 1948: "أولئك الذي يفشلون في التعلُّم من التاريخ يُكتَب عليهم تكراره".

وتقول المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، التي أصبح قرارها الترحيب بأكثر من مليون لاجئ في ألمانيا عام 2015، رمزاً للنظام الليبرالي الأوروبي -قبل أن يتحول الأمر إلى صرخةٍ حاشدةٍ لليمين المتطرف المُتعافي- إنَّ الحكم لم يُصدَر بعد فيما يتعلق بقدرة أوروبا على الالتفات إلى دروس ماضيها.

وقالت عن نهاية الحرب العالمية الأولى : "نعيش الآن في زمنٍ يموت فيه جميع شهود العيان على تلك الحقبة السوداء من تاريخ ألمانيا. وفي هذه المرحلة، سَيَتَحَدَّد ما إذا كُنَّا قد تَعلَّمنا من التاريخ حقاً".

جديرٌ بالذكر أنَّ آخر المحاربين القدامى في الحرب العالمية الأولى توفي عام 2012. وتتناقص أعداد البشر الذين شهدوا الحرب العالمية الثانية والهولوكوست بسرعةٍ أيضاً.

يميل الساسة إلى استخدام التاريخ انتقائياً عندما يُناسبهم الأمر. لكنَّ التاريخ يُنذر بالسوء في هذه الحالة.

خاصة عندما يتعلق الأمر بـ"اليمين المتطرف"

والآن كما في الماضي، يُعاني المركز السياسي لأوروبا الضعف، في حين تكتسب الأطراف تطرُّفاً أكبر، إذ اكتسبت القومية المُطعَّمة بالكراهية العرقية زخماً كبيراً. ويتولى الشعبويون مناصب في مختلف الحكومات الأوروبية.

ففي إيطاليا، العضو المؤسس بالاتحاد الأوروبي، أعاد نائب رئيس الوزراء الشعبوي، ماتيو سالفيني، مراكب المهاجرين، وطالب بترحيلهم من روما. ويتحدث رئيس الوزراء المجري، فيكتور أوربان، عن "اجتياحٍ إسلامي"، ويتباهى بنسخته من "الديمقراطية غير الليبرالية" بشكلٍ فج.

إذ قال في وقتٍ مبكرٍ من العام الجاري (2018): "عام 1990، كانت أوروبا هي مستقبلنا، والآن، نحن مستقبل أوروبا".

ويتدهور الخطاب السياسي بطريقةٍ مألوفةٍ أيضاً. ففي ألمانيا، أصبح اليمين المتطرف مُمَثِّلاً لصوت المعارضة في البرلمان، ويسخر اليمينيون من وسائل الإعلام السائدة ويصفونها بـ"Lügenpresse" أو الصحافة الكاذبة، وهو المصطلح الذي استخدمه النازيون للمرة الأولى في العشرينيات قبل وصولهم إلى السلطة.

وتقول تراوتا لافرينز، آخر الناجين من أعضاء "الوردة البيضاء"، وهي حركة المقاومة الطلابية المعارضة لهتلر في الأربعينيات، إنَّها أُصيبت بالقشعريرة حين شاهدت صوراً لتحية هتلر في أعمال شغب اليمين المتطرف مؤخراً، بمدينة كيمنتس شرق ألمانيا.

وأضافت لافرينز (99 عاماً)، في حوارها مع مجلة Der Spiegel: "ربما لم يحدث الأمر من قبيل المصادفة. فنحن نموت في الوقت الذي يعود فيه كل شيءٍ مرةً أخرى".

في ظل أوضاع هشة "تذكّر" بفترة نهاية الحرب العالمية الأولى

وبُعيد الحرب العالمية الثانية، سعى الاتحاد الأوروبي إلى منع حدوث أي شيءٍ يُشبهها مرةً أخرى، بإنشاء سوقٍ مشتركةٍ وعملةٍ موحدة ومنطقة سفرٍ من دون جوازات سفر، بالإضافة إلى السيادة الجماعية على موارد عددٍ من المناطق.

لكن يوم الأحد 11 نوفمبر/تشرين الثاني 2018، شهد وقوف ميركل ومُضيفها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، المُؤيِّد الشرس للاتحاد الأوروبي، إلى جوار عددٍ من القادة القوميين الذين يرغبون في تفكيك الاتحاد الأوروبي، ومنهم ترمب والرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس التركي رجب طيب أردوغان.

ويُحذِّر المؤرخون من أوجه التشابه الواضحة بين الفترة الهشة في أعقاب الحرب العالمية الأولى والوضع الحالي، بالإشارة إلى عددٍ من الاختلافات الملحوظة.

قُبيل الحرب العالمية الأولى، تَحَوَّلت أوروبا المُكَوَّنة من إمبراطوريات إلى أوروبا المُكَوَّنة من دولٍ قومية، إذ لم يتوافر تقليدٌ مُجَرَّبٌ ومُختَبَرٌ للديمقراطية الليبرالية. كما كانت الصعوبات الاقتصادية في مستوىً آخر تماماً، إذ كان الأطفال يموتون بسبب سوء التغذية في برلين.

علاوةً على ذلك، لا توجد الآن نوعية الثقافة العسكرية التي سادت أوروبا بشدةٍ في ذلك الوقت. إذ أصبحت فرنسا وألمانيا -اللتين كانتا عدوتين لدودتين قروناً- حليفتين مقربتين.

ويقول تيموثي غارتون آش، أستاذ التاريخ الأوروبي في جامعة أوكسفورد: "الأشياء التي تنحل اليوم هي أفضل ما تم تحقيقه بأوروبا في الماضي".

لكنَّ غارتون آش يرى 1918 نهاية الحرب العالمية الأولى باعتباره تحذيراً بأنَّ الديمقراطية والسلام لا يُمكن اعتبارهما من المُسَلَّمَات. وأضاف: "إنَّها تَذْكِرَةٌ تُساعدنا على إدراك أنَّ ما يبدو كنوعٍ من النظام الدائم يُمكن أن ينهار بسرعةٍ كبيرة".

فهل يعيد التاريخ نفسه؟

وبهذا المعنى، إذا كان شعار أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية هو "لن تحدث ثانيةً"، فإنَّ الدرس المستفاد من الحرب العالمية الأولى هو "يُمكن أن تحدث ثانيةً".

ويُشير دانييل شونبفلوغ، المؤرخ الألماني الذي نشر مؤخراً كتاباً بعنوان "A World on Edge"، وهو كتابٌ مُثيرٌ يتتبع 22 شخصيةً في فترة ما بين الحربين العالميتين، إلى أنَّه لقرون كانت فترات الحروب الطويلة في تاريخ أوروبا العنيف تعقبها فترات سلامٍ طويل.

ويقول شونبفلوغ: "بمجرد موت الجيل الذي يمتلك ذكرياتٍ حية عن الحروب، تبدأ الحرب التالية. يُعلِّمنا التاريخ أنَّه بموت الجيل الذي عايش الحرب، يتلاشى الحذر وتتزايد السذاجة تجاه الحرب. وهذا يعني أنَّه علينا أن نكون حذرين للغاية اليوم".

خاصة أن لا أحد كان يتوقع اندلاع حرب عالمية ثانية

في 1918عام  تاريخ نهاية الحرب العالمية الأولى ، رسم الفنان بول كلي لوحة "The Comet of Paris"، التي كانت عبارة عن شخصٍ يمشي فوق حبلٍ مشدودٍ في الهواء وفوقه مذنب بالسماء وفي الأسفل برج إيفل. ما يُثير الأعصاب في ذلك المشهد هو فشل المرء في رؤية الحبل رغم علمه بوجوده.

ويُضيف شونبفلوغ: "يُوَضِّح العرض أين كان الناس وقتها، وأين أصبحوا الآن بطريقةٍ أو بأخرى".

لا يعلم أحدٌ ما يُمكن أن يحدث مستقبلاً. لقد أبحرت أوروبا في المجهول. وفي عام 1929، في أثناء الحرب، دخل الناس عقداً دموياً دون أي أن يُدرِكوا.

ويقول جيمس هاويس، المؤرخ ومؤلف كتاب The Shortest History of Germany: "هذا ما يضايقني عند النظر إلى الماضي، لأنَّه بحلول عامي 1931 و1932 لم يكن أحدٌ يعلم ما هو على وشك الحدوث. ظنوا أنَّهم يدخلون عِقْداً جديداً ليس إلَّا".

ما الذي سيكتبه المؤرخون المستقبليون عن أوروبا عام 2018 إذن

يشعر أنتوني بيفور، الذي ألّف عدداً من أكثر الكتب التاريخية مبيعاً، بالتشاؤم تجاه الوضع، إذ يتوقع أن تقضي الأزمات الأخلاقية المستقبلية على الديمقراطية الليبرالية الأوروبية. وأزمة الهجرة التي وقعت عام 2015 كانت مجرد نبذةٍ لما هو آت.

وأوضح بيفور: "لا يمكن تفادي موجات الهجرة المستقبلية، إذ تُعتبر أوروبا وجهتهم الأولى"، مشيراً إلى أنَّ الأسباب الرئيسة تَكمُن في القوى المُخَرِّبة للفقر والتغير المناخي في الدول النامية.

وتابع: "يواجه القادة الأوروبيون اختيار إعادة اللاجئين الذين يموتون جوعاً، أو تسليم الذخائر لليمين المتطرف لتجريف النسيج الاجتماعي الخاص بهم".

ويرى آخرون الأمر بصورةٍ مختلفة، إذ يقول نيال فيرغسون، الزميل البارز من مؤسسة Hoover Institution، إنَّ أكبر مشكلةٍ تُواجه أوروبا ليست الشعبوية، بل هي عدم اكتمال الاتحاد النقدي لليورو.

وأضاف فيرغسون: "التهديد الأكبر الذي تواجهه أوروبا الآن ليس أوربان أو سالفيني، إذ إنَّ التهديد الأكبر هو عدم استقرار التنسيق المؤسسي للاتحاد الأوروبي". وماكرون يطمح إلى إصلاح ذلك، لكن ينقصه توافق الآراء على دعمه.

فهل يكمن الحل في أوروبا نفسها؟

ومهما كان شكل مستقبل مؤسسات أوروبا، فإن اختلافها عمَّا كانت عليه منذ 100 عام يَكمُن في أنَّ القارة لم تَعُد في قلب الجغرافيا السياسية.

إذ يقول دومينيك مواسي، المؤلف والمفكر الفرنسي: "قبل قرنٍ من الزمان، كانت أوروبا مركز العالم، حتى لو كانت المركز المُظلم المأساوي للعالم. ويمكن أن نعود اليوم إلى المأساوية وليس المركزية. فالتاريخ يتحرك في اتجاهٍ آخر".

ويجب أن يكون هذا أيضاً بمثابة دافعٍ لدعم التكامل الأوروبي، كما قال القس موسير في ألزاس.

ما زالت العظام والقنابل والرصاص مدفونةً في تراب ألزاس، وهي المنطقة التي انتقلت ذهاباً وإياباً بين مختلف أشكال السيادة الفرنسية والألمانية 5 مراتٍ خلال حرب الثلاثين عاماً، التي انتهت عام 1648، والدمار الذي خلفته الحرب العالمية الثانية.

ويمزح السكان المحليون قائلين إنَّ الألزاسيين ما زالوا يحتفظون بلافتات الشوارع الألمانية في أقبيتهم؛ تحسباً لأي طارئ.

ويقولها القس موسير بطريقته: "ألزاس هي تَذْكِرَةٌ بحجم ما كسبناه في أوروبا، وحجم ما يمكن أن نخسره".

تحميل المزيد