الجثة موجودة، والدم مراق على الأرض والزوجة في حداد.. القصة الكاملة لأغرب عملية استخباراتية بهدف إنقاذ صحفي أرادت روسيا قتله

عربي بوست
تم النشر: 2018/05/31 الساعة 12:58 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/05/31 الساعة 12:58 بتوقيت غرينتش
Ukrainian President Petro Poroshenko meets with Russian journalist Arkady Babchenko, who was declared murdered and then later turned up alive, Prosecutor General Yuriy Lutsenko and head of the state security service (SBU) Vasily Gritsak in Kiev, Ukraine May 30, 2018. Mykola Lazarenko/Ukrainian Presidential Press Service/Handout via REUTERS ATTENTION EDITORS - THIS IMAGE WAS PROVIDED BY A THIRD PARTY.

ظهر الصحفي الروسي أركادي بابتشينكو، الذي أعلنت أوكرانيا عن اغتياله يوم الثلاثاء 29 مايو/أيار بصورةٍ مثيرة، في فيديو بُثَّ مباشرةً، أمس الأربعاء 30 مايو/أيار، وقال إنَّه زيَّف وفاته لإحباط مؤامرة دبرتها موسكو من أجل قتله.

وظهر بابتشينكو مبتسماً وخجولاً قليلاً، قبل أن يعقد جهاز الأمن الأوكراني مؤتمراً صحفياً سريالياً، اعتذر فيه لزوجته عن "الكابوس" الذي سببه لها، لكنَّه قال إنَّه لم يكن هناك بديل لتزييف وفاته.

وصرح بابتشينكو قائلاً: "أوليتشكا، أنا آسف، ولكن لم يكن هناك خيارٌ هنا. أنا آسف لجعلك تَمُرِّين بهذا. لقد دفنتُ أصدقائي وزملائي بنفسي مراتٍ عديدة".

وأعلن المسؤولون، يوم الثلاثاء، أنَّ بابتشينكو، وهو مراسل حرب مخضرم، أُطلِقَ عليه النار 3 مرات في ظهره أثناء مغادرته منزله في كييف لشراء الخبز. وقالوا إنَّ زوجته وجدته ملقًى على الأرض وغارقاً في الدماء، وأنَّه مات داخل سيارة إسعاف وهو في طريقه إلى المستشفى.

وألقى رئيس الوزراء الأوكراني فولوديمير غرويسمان فوراً باللوم في "موت" بابتشينكو على الكرملين، وأشار إلى أنَّه استُهدِفَ بسبب عمله. ومن أجل استكمال الصورة، أصدرت السلطات رسماً للقاتل المحتمل. وكشفت هذه الصورة عن رجلٍ ملتحٍ في منتصف العمر يرتدي قبعة بيسبول.

وكشف بابتشينكو يوم الأربعاء 30 مايو/أيار، عن أنَّ كل هذا كان عملية خاصة دقيقة: خدعة في واقع الأمر. وخدع الخبر بكل تأكيد وسائل الإعلام العالمية، التي أبرزت تقاريرها خبر الوفاة، ودفعت أصدقاءه وزملاءه لإمطاره بكلمات الإجلال والثناء. وفي الوقت الذي عاد فيه من الموت، كان الكُتّاب مشغولين بصياغة نعيه.

تسبَّبت الأخبار المتداولة عن أنَّ بابتشينكو كان حياً ومشاهدته فعلياً في شهقات الصحفيين خلال المؤتمر الصحفي. وقال بابتشينكو، الذي تحدَّث بالروسية واعتذر عن ذلك، إنَّ مسؤولي جهاز الأمن الأوكراني علموا بوجود خطة "جدية" لاغتياله قبل شهرين، وحذروه قبل شهر، بحسب ما ذكرته صحيفة The Guardian البريطانية.

الخطة بدأت من موسكو

وقال إنَّ الخطة بدأت في موسكو، وعن طريق "أجهزة الأمن الحكومية". وأوضح: "عرض (مسؤولو جهاز الأمن الأوكراني) عليّ أدلةً، واستوعبتُ أنَّها كانت قادمة من روسيا، وعلى الأرجح من جهازٍ أمني حكومي. واقترحوا علي أنَّ أشارك في عملية مُخادِعة".

وقال إنَّ قاتليه المفترضين أُمِدُّوا بصورة جواز سفره والتفاصيل الرسمية، ملمحاً إلى أنَّ هذا كان دليلاً على وجود مؤامرة من روسيا.

ووصلت العملية المخادِعة إلى نهايتها الغريبة مساء الثلاثاء، عندما أُعلِنَ عن وفاته. إذ قال بابتشينكو: "لقد قمت بواجبي. وما أزال حياً". وأعرب عن شكره للقوات الخاصة الأوكرانية على "إنقاذ حياتي".

صاحبت معجزة عودة بابتشينكو إلى الحياة حالة ارتياح شبه عالمية، وسط مخاوف من أنَّه قد أصبح أحدث منتقد لفلاديمير بوتين يموت في ظروفٍ غامضة. كان بابتشينكو يكتب في صحيفة Novaya Gazeta الليبرالية المعارضة، التي اغتِيلَ بالفعل 6 من مراسليها.

وفي الوقت ذاته، وجَّه زملاء بابتشينكو انتقاداتٍ لطُرقه المدهشة. وجادلوا بأنَّه قدم هدية دعائية كبيرة إلى الحكومة الروسية وجيشها الإلكتروني.

تبادل للاتهامات

يتهم المسؤولون في أوكرانيا وروسيا بعضهم بعضاً بالكذب والتزييف بصورةٍ روتينية. ففي ربيع 2014، ضمَّ بوتين القرم وحرَّض على صراعٍ في شرق أوكرانيا، وأمدَّ الانفصاليين المعادين لكييف بالأسلحة والدبابات والجنود المموهين. وقُتل من جراء ذلك أكثر من 10 آلاف شخص، فيما يلقي كلا الجانبين باللوم على عاتق الآخر للتسبب في القتال وعواقبه.

وألقى مسؤولو الكرملين والسفارة الروسية في لندن باللوم في "موت" بابتشينكو على كاهل أوكرانيا.

فيما نشر متصيدو الإنترنت الروس يوم الأربعاء تغريداتٍ تسخر من الصحفيين الذين نشروا أخبار وفاة باتشينكو.

وكان وزير الخارجية البريطاني بوريس جونسون أحد من تفاجأوا بعودة الصحفي الروسي إلى الحياة، إذ قال الثلاثاء إنَّه "فزع من اغتيال" بابتشينكو. ويبدو أنَّ وزارة الخارجية البريطانية وكذلك الاستخبارات البريطانية لم يكونا على دراية بأنَّ الاغتيال كان حيلةً إلى أن انتشرت الأنباء.

ووصف الصحفي الروسي أليكسي كوفاليف بابتشينكو بأنَّه "أحمق للغاية"، وقال: "إنَّنا جميعاً بلهاء للوقوع في هذا. إنَّني مسرور لأنَّه حي، بكل تأكيد".

وقال أندريه سولداتوف، وهو كاتب من موسكو وخبير في شؤون أجهزة الأمن الروسية، إنَّ بابتشينكو "قوَّض بدرجةٍ أكبر مصداقية الصحفيين والإعلام". وقال بنبرةٍ غاضبة في تغريدةٍ له، إنَّ "بابتشينكو صحفي، وليس شرطياً، والثقة جزء من عملنا أياً كان ما يقوله ترمب وبوتين بشأن الأخبار الزائفة".

أمَّا غاري كاسباروف، بطل العالم السابق في لعبة الشطرنج والقائد بالمعارضة، فكان أكثر تسامحاً حول الأمر. إذ وصف كاسباروف -الذي انتقل إلى نيويورك منذ 5 أعوام خوفاً على سلامته- ما حدث بأنَّها "تمثيلية غريبة". وأضاف: "ولكن لدي العديد من الزملاء الذين تعرضوا للضرب والاغتيال، لهذا أشعر فقط بالسعادة لكونه على قيد الحياة وفي صحةٍ جيدة".

تفاصيل الخطر الذي أحاط بالصحفي

وعلى الرغم من الغموض الذي يحيط بالتهديد الذي تعرَّضت له حياة بابتشينكو، إلا أن مدير جهاز الأمن الأوكراني نشر بعض التفاصيل عن القصة.

فقال هريتساك، إنَّ وكالات التجسس الروسية تواصلت مع وسيط، عرَّفه بـ"جي"، ودفعت له 40 ألف دولار لترتيب عملية الاغتيال.

تواصل الوسيط بدوره مع جندي أوكراني سابق لتنفيذ العملية، وتنفيذ "أعمال إرهابية"، حسب قوله.

وأكد هريتساك أنَّ الوسيط محتجز الآن، وقد ظهر رجل بمنتصف العمر ذو شعر أبيض بمقطع فيديو، وهو يقتاده الضباط إلى داخل شاحنة صغيرة.

وأضاف هريتساك أنَّ اعتراض الشرطة لمكالمات هاتفية خارجية كشف عن الجهات التي قام بالاتصال بها في موسكو. وأشار إلى أنَّ هذا أحبط العشرات من عقود الاغتيال، وزعم أنَّ قائمة الاغتيالات المحتملة في أوكرانيا وصلت إلى 30 اسماً.

وكان من المفترض أن يشتري المشتبه فيه الأوكراني كميةً كبيرة من الأسلحة والمتفجرات، بما في ذلك 300 بندقية كلاشينكوف و"مئات الكيلوغرامات من المتفجرات"، حسبما يزعم هريتساك.

عودته للحياة

وظهر النائب العام الأوكراني يوري لوتسينكو أثناء المؤتمر الصحفي المنعقد يوم الأربعاء بجوار بابتشينكو، الذي كان يرتدي رداءً أسود بقبعة. وقال لوتسينكو إنَّه كان من الضروري تزييف وفاة الصحفي حتى يصدق منظمو مؤامرة قتله أنَّهم نجحوا.

وكان أصدقاؤه قد بدأوا في التخطيط لتنظيم احتجاجاتٍ وجمع تبرعات من أجل أطفاله قبل أن يعود إلى الحياة. أما زملاؤه في محطة التلفزيون الأوكرانية التي كان يعمل فيها، الذين كانوا يشاهدون بثاً مباشراً للمؤتمر الصحفي، فقد شهقوا ورقصوا وصفقوا، وهم في حالة عدم تصديق عندما ظهر وهو لا يزال حياً بينهم.

غادر بابتشينكو موسكو، في فبراير/شباط 2017، واستقر مع زوجته وأسرته في أوكرانيا. ويقول إنَّه هرب بعد حملة مستمرة لتشويه سمعته من جانب قنوات التلفزيون الحكومية الروسية والساسة المؤيدين لبوتين. وقال بابتشينكو، الذي حارب في حرب الشيشان الأولى والثانية، في منشورٍ كتبه ونشره في موقع فيسبوك، إنَّ تحطم طائرة روسية عسكرية وهي في طريقها إلى سوريا، ومقتل جميع من كانوا على متنها تركه في حالة عدم اكتراث.   

ووقَّع عشرات الآلاف على عريضة تطالب بتجريده من الجنسية الروسية، وفي مقالٍ كتبه بابتشينكو للغارديان، قال: "مثل العديد من المعارضين، أنا معتاد على الإساءة، إلا أنَّ الحملة الأخيرة ضدي كانت شخصية للغاية، ومرعبة للغاية، مما أجبرني على الهرب".

وفي مارس/آذار، حضر بابتشينكو مؤتمراً مناهضاً للكرملين في نيويورك. ووصف "دعاية" بوتين بأنَّها أعظم أسلحته، وقال إنَّها كانت أقوى من "طائرةٍ أو دبابة".

تحميل المزيد