قبل 4 سنوات كان تنظيم الدولة الإسلامية داعش يسيطر على مساحة تعادل مساحة بريطانيا 3 مرات، لكن الآن باتت "دولة الخلافة" المزعومة لا توجد إلا على كيلومترين مربعين في قرية نائية شمال سوريا.
مصير عائلات وأسر التنظيم وصل إلى مرحلته الأخيرة بالنزوح إلى قرية باغوز شرق سوريا التي ارتحلت إليها العائلات متسلقين التلال الترابية المرتفعة وممسكين بأطفالهم الرُضَّع والبطاطين إلى وجهتم الأخيرة.
وبحسب تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية لم يتبق في المنطقة المجاورة لباغوز والتي فرُّوا منها إلَّا حوالي 500 شخص، معظمهم تقريباً من المقاتلين الذين يرفضون مغادرة رُكنٍ مساحته كيلومتران مربعان، وهو كل ما تبقى من الأراضي التي كان يسيطر عليها التنظيم.
العدد أكبر من المتوقع!
ولم يكن أحدٌ يتصوَّر أنَّ كل هؤلاء النساء والأطفال الذين فروا من قرية باغوز في شرق البلاد يوم الثلاثاء 12 فبراير/شباط كانوا هناك. فبعد أسابيع من القصف والنزوح الجماعي للعديد من الأشخاص، معظمهم من سكان القرية الذين كان عددهم يبلغ 9 آلاف نسمة قبل الحرب، ظنَّت القوات التي تُحاصر المنطقة بقيادة مليشيات كردية حليفة لواشنطن أنَّ الطريق قد أُفسِح أمامها لدخول المعاقل الأخيرة المُدمَّرة، بحسب الصحيفة البريطانية.
ولكن بعد ثلاثة أيام من القصف المكثف، ظهر عدد أشخاصٍ أكبر ممَّا كانت تعتقد القوات، وكانوا يشقون طريقهم ببطء إلى نقاط تجمُّع مجاورة لساحة المعركة. وكان من بينهم نساء من فرنسا وروسيا وطاجيكستان، وكذلك عائلات من العراق والبلدات والمدن السورية القريبة.
ومع تحوُّل الخلافة التي وعد تنظيم داعش بإقامتها إلى قطعة أرضٍ متقلصة تعاني واقعاً دموياً مريراً، صارت قرية باغوز نقطة تجمُّع لمقاتلي التنظيم وعائلاتهم من جميع الأراضي التي كانت واقعةً تحت سيطرة التنظيم سابقاً.
وقال عدنان عفرين قائد الوحدة الكردية المعروفة باسم قوات سوريا الديمقراطية: "عدد النساء والأطفال الذين تركهم تنظيم داعش في القرية أكبر ممَّا توقعنا قبل بدء العملية يوم السبت. يتوافد علينا المئات من عائلات مقاتلي وأطفالهم كل يوم".
ومع تكدُّس المقاتلين المتبقين من تنظيم داعش وأنصارهم في منطقةٍ مهجورة على ضفاف نهر الفرات، لم يبق أمامهم مفر. وأولئك الذين لم يغادروا حتى الآن لن يستطيعوا المغادرة أيضاً في الأسبوع القادم على الأرجح، إذ يُتَوقَّع أن تُطهِّر القوات الكردية باغوز من المتطرفين".
وقال عفرين: "نواجه قتالاً محتدماً لأنَّ المنطقة التي نحاصرها صغيرة جداً. إنَّها مكتظة للغاية بالمقاتلين الذين يُعدَّون من بين أكثر جنود التنظيم تطرفاً وخبرة. يستخدمون انتحاريين في الهجمات المضادة وأنفاقاً. لا توجد أي علامة على الاستسلام. فالمقاتلون الذين ظلُّوا في الداخل هم أكثر المتشددين تطرفاً وتمسكاً بأيديدولوجيتهم"، بحسب الصحيفة البريطانية.
الرحلة إلى الملاذ الآمن!
تُعد حمادة حسين -التي تبلغ من العمر 50 عاماً وهي من بلدة القائم- واحدةً من النازحين الجدد.
وفي حقلٍ مليء بحصص الطعام وزجاجات المياه، قالت حمادة إنَّها سارت أربع ساعات حتى وصلت إلى مكانٍ آمن، وسوف تتقبَّل الآن أي مصير ينتظرها. وأضافت: "لم يبق شيءٌ في باغوز. لم نكن نستطيع تناول الطعام إلَّا مرة واحدة في اليوم. هناك بعض النساء والأطفال في الداخل لم يستطيعوا بالخروج بسبب الاشتباكات. المدينة كلها مُدمَّرة، والرصاص يتطاير في السماء كالأمطار"، بحسب الصحيفة البريطانية.
ومثل العديد من الأشخاص الآخرين الذين كانوا يقفون في الحقل، قالت حمادة إنها ليست من قرية باغوز، لكنَّها هربت إليها حين كانت الحرب تدور حول بلدتها الأصلية.
كان أبو أحمد الراوي، 35 عاماً، من مدينة الراوة في العراق، واحداً من هؤلاء. قال: "لم نحظ بأيِّ فرصةٍ للخروج حتى الآن. كنَّا في الكشمة قبل الانتقال إلى باغوز، ووصلت الحرب هنا أيضاً".
وأضاف: "انتقلت إلى سوريا بعد تقدُّم الميليشيات الشيعية إلى الراوة. لم يكن لديّ خيارٌ آخر. لم أكن أعرف ماذا سيحدث بعد ذلك، لكنني أدركت أن ذلك هو الطريق الوحيد للنجاة".
وقال صالح عمر، العضو بأحد المجالس المدنية المحلية، إن قواتٍ كردية استقبلت أكثر من ألفٍ من أفراد عائلات داعش خلال اليومين الماضيين، وسوف يؤخذ هؤلاء إلى مخيِّماتِ لاجئين. ويُعتَقَد أنهم يتضمنون أجانب أكثر من العراقيين، في إضافةٍ على المائة ألف سوري الذين تأويهم السلطات المحلية في الشمال الكردي.
لا اتفاق على المعركة الأخيرة
بعد 4 أيام من المراحل النهائية للمعركة، التي توصف على نطاقٍ واسع بأنها المعركة الأخيرة في الحرب الممتدة على مدار أربعة أعوام ونصف ضد داعش، لا يوجد ما يشير إلى اتفاقٍ من شأنه أن يسمح لعناصر التنظيم الباقين بالفرار إلى الصحراء -طريق الهروب الوحيد الممكن لهم. أدت مثل هذه التسوية إلى إنهاء القتال للسيطرة على مدينة الرقة بحلول نهاية العام 2017، إذ كان المقاتلون وعائلاتهم ينتقلون إلى صحاري وسط سوريا، التي اختفى منها الكثيرون، بحسب الصحيفة البريطانية.
وقال شيراز ماهر، مدير المركز الدولي لدراسة التطرُّف في جامعة كينغز بلندن: "كانت تلك مبادرةً من قوات سوريا الديمقراطية بمثابة اتفاقٍ مع الشيطان". وأضاف: "قالوا لداعش: نحن نحاصركم، وسنقتلكم جميعاً. وداعش قدَّرَت قيمة التراجع الاستراتيجي. كان ذلك ملائماً لجانبيّ هذا الاتفاق في ذلك الوقت. منح قوات سوريا الديمقراطية عنواناً عريضاً للنصر، ومنح داعش طريقاً للقتال من خلاله لاحقاً".
والآن، مع وشوك الأمر على نهايته، ما من دلائل على أن اتفاقاً مشابهاً يمكن أن يُعرَض في باغوز.
من المعروف أن داعش يحتجز رهائن في باغوز أو بالقرب منها -بمن فيهم الرهينة البريطاني جون كانتلي- ويُخطِّط التنظيم لاستخدامهم كورقةٍ للمساومة.
ومع هدوء عواصف الحرب، يُعَدُّ استرداد الرهائن أولويةً قصوى لدى قوات سوريا الديمقراطية. وكذلك الأمر أيضاً بالنسبة لإعلان نصرٍ في أقرب وقتٍ ممكن -شيَّد الأكراد منصةً احتفاليةً بالفعل في إحدى قواعدهم الرئيسية.
قال عفرين: "أنا واثقٌ أننا في خلال أيام سنحتفل بالنصر ونهاية ما يُسمى بالخلافة".