منذ مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي بسفارة بلاده في إسطنبول في 2 من أكتوبر/تشرين الأول 2018، لوّحت تركيا أكثر من مرة بتحويل القضية إلى تحقيق دولي، وفي الوقت الذي كانت تدفع فيه الرياض للتعاون معها بشكل أكبر في القضية، إلا أن الأخيرة لم تفعل ذلك.
لكن الجديد أن أنقرة حولت تهديداتها هذه التي ظلت تطلقها منذ أشهر، إلى عزم يبدو أنه جدّي، بالشروع في تحقيق دولي. إذ نسبت وسائل إعلام تركية، الإثنين 21 يناير/ كانون الثاني 2018، تصريحات إلى وزير الخارجية التركي، مولود تشاووش أوغلو، قال فيها إن خطوات جديدة ستتخذها أنقرة خلال الأيام القادمة، فيما يتعلق بتدويل القضية التي طال حلها.
فما هي فرص التحقيق الدولي في قضية الصحفي المغدور، الذي لم يُعثر على جثته بعد؟ وهل لدى أنقرة رغبة جادة بالفعل في ذلك؟ وما ردود الفعل السعوديّة المتوقعة إذا ما تم ذلك بالفعل؟ هذا ما سنحاول معرفته في هذا التقرير.
لماذا تريد تركيا التصعيد في القضية؟
يرى مراقبون أن قضية خاشقجي لا يمكن النظر إليها على أنها قضية سعودية-تركية، فبغض النظر عن العلاقة المشحونة بين الطرفين، فإن الخلاف في هذا الملف الآن هو بين القيادة السعودية والرأي العام الدولي بأكمله.
إذ إن الكونغرس الأمريكي يستعد أيضاً للمطالبة بتحقيق دولي في القضية، وذلك بحسب ما ذكرته مجلة فورين بوليسي قبل أيام، نقلاً عن مصدر في الحزب الديمقراطي، قال: "من المرجح أننا سنشهد صيغةً ما لمشروع قانون يعبّر على الأقل عن إحساس الكونغرس بأنه يجب أن يكون ثمة تحقيقٌ دولي من قبل الأمم المتحدة في قضية مقتل خاشقجي، أو شيء بهذا المعنى".
وعلى الرغم من تأييد أعضاء مجلسي الشيوخ والنواب الأمريكيِّين من الحزبين الجمهوري والديمقراطي تحقيقاً مستقلاً من قبل الأمم المتحدة، فإن البيت الأبيض ما زال يعيق مساعيهم، لأنه يدعم وبشكل كامل، ولي العهد السعودي.
ويقول النائب الديمقراطي في مجلس الشيوخ باتريك ليهي، إن "تحقيقاً تجريه الأمم المتحدة قد يمثِّل أفضل أمل في تحقيق العدالة".
أما العضو الديمقراطي الآخر إد ماركي، فقد قال إنه يفكر في إرسال رسالةٍ يطالب فيها الأمينَ العام للأمم المتحدة بإجراء تحقيق، إذا استمرت حالة التجاهل الرسمي للقضية.
وبينما تطغى قضايا أخرى في واشنطن على ضغط الكونغرس لمحاسبة المشتبه بتورطهم في الجريمة، ومن ضمنهم ولي العهد السعودي -مثل الإغلاق الحكومي- فإن "التحدي الذي يواجه الكونغرس هو أنه إذا أرادت أمريكا من الأمم المتحدة القيام بأي شيء، فيجب أن تطالب به الإدارة الحالية، لكن الإدارة الحالية تتعامل بحساسيةٍ مفرطة مع تحميل الحكومة السعودية مسؤوليةَ أي شيء"، بحسب المجلة الأمريكية.
هذا التردد الأمريكي في القضية ربما يدفع أنقرة للتصعيد مجدداً فيها، بعد أن انتظرت فترة كافيةً تحرك الكونغرس، ولكن هل سيكون ذلك عبر بوابة الأمم المتحدة؟
كيف سيكون شكل "التحقيق الدولي" من وجهة نظر الأتراك؟
يقول الباحث المختص في الشأن التركي د. علي باكير، لـ"عربي بوست"، إنه لا يعتقد أن التصريحات التركية الأخيرة مجرد تهديدات فقط، خصوصاً أنها تأتي بعد انتظار تركي طويل على السعودية للكشف عن تفاصيل الجريمة الحقيقية ومن يقف خلفها.
ويرى باكير أن للجانب التركي حقاً بتدويل القضية إن لم تُحل، لأنها وقعت في تركيا وخرقت المعاهدات الدولية الدبلوماسية للعلاقات القنصلية، لكنه في الوقت نفسه، يعتقد أن تركيا لا تستطيع وحدها تحمّل القضية، وتشكيل لجنة دولية للتحقيق فيها، لذا لا بد لمجلس الأمن من تكليف الأمم المتحدة تشكيل لجنة تحقيق، فهو المخول الوحيد له ذلك.
لذا سيكون على أنقرة خوض جولات دبلوماسية وإجراء مفاوضات كبيرة لتشكيل لجنة تحقيق مع عدة دول، عليها العمل معها والتنسيق تحت مظلة مجلس الأمن الدولي.
ويشارك باكير هذا الرأي، الخبيرُ التركي في العلاقات الدولية جلال الدين توران، الذي يرى أن أمام أنقرة معركة دبلوماسية كبيرة وليست سهلة، مشيراً إلى أن على تركيا إقناع دول أخرى بطلب تشكيل لجنة دولية مشتركة للتحقيق في قضية خاشقجي.
ويقول توران لـ "عربي بوست"، إن تركيا قادرة بالفعل على ذلك، ولها أصدقاء كثيرون يرفضون ما وقع بحق الصحفي المغدور، كما أن حجتها قوية بالطبع، لأن جريمة قتل خاشقجي أخلّت باتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية بين الدول.
ويشير توران إلى أن أنقرة ربما سيكون أمامها وقت طويل للوصول لمبتغاها، لكنها ستستمر في الضغط باتجاه كشف الحقيقة كاملة، ضمن لجنة تحقيق دولية تدين قتلة خاشقجي الحقيقيين.
وفي رد على سؤال عن خيارات تركيا إذا لم تستطع النجاح في إقناع دول أخرى بتدويل القضية، يرى توران أن أنقرة أشارت أكثر من مرة إلى أن لديها أدلة عدة خطيرة على تورط رؤوس كبيرة من "أعلى المستويات" بالقيادة السعودية في الجريمة، وربما تضطر إلى الكشف عنها إذا لم تجد تجاوباً دولياً مع مطلبها، لكن ذلك غير وارد الآن، بحسب رأيه.
"لا أستطيع فتح التحقيق"! هل يحاول غوتيريش التنصل؟
في السياق، أكد الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، الأسبوع الماضي، أنه لا يستطيع فتح تحقيق من تلقاء نفسه في جريمة مقتل خاشقجي، وأضاف غوتيريش في مؤتمر صحفي بالأمم المتحدة: "ليس لدي الحق في فتح تحقيق، هناك التباس كبير بين ما يمكن أن يفعله الأمين العام وما لا يستطيع أن يفعله".
وأردف بالقول: "الأمين العام لا يمكنه إطلاق تحقيق جنائي، أستطيع القيام بذلك بطلب من مجلس الأمن إذا وجد أنه يوجد تهديد للأمن، وفي بعض الحالات الأخرى بطلب من الجمعية العامة للأمم المتحدة".
وتابع: "أنا لست الشخص الصحيح لفتح تحقيق جنائي، ولم يُقدم لي أي طلب رسمي لفتح تحقيق من أي دولة من الدول الأعضاء بالأمم المتحدة".
"إحباط" في الأمم المتحدة من عدم فتح تحقيق دولي
لكن، في 23 من أكتوبر/تشرين الأول 2018، أكد ديفيد كاي، المقرر الخاص للأمم المتحدة المعنيّ بالتمتع بحرية الرأي والتعبير، ضرورة إجراء تحقيق دولي في جريمة مقتل خاشقجي، ولم يخفِ كاي "إحباطه" حينها من عدم الاستجابة لتلك الدعوة.
إذ صرح المقرر الأممي بالقول: "أشعر بخيبة أمل بالغة لعدم استجابة الدول بعد لتلك الدعوة"، مضيفاً أن "التحقيق الدولي يجب أن يتم من خلال مجلس الأمن الدولي أو مجلس حقوق الإنسان، وأنه يجب إقناع الأمين العام للأمم المتحدة بفعل ذلك".
وعن شكل التحقيق المقترح، قال كاي: "يتعين تشكيل جهة تحقيق مستقلة، يمكن أن تتكون من 5 أشخاص، كحد أقصى، لتقييم المعلومات التي شاركتها السلطات التركية، ويجب أن تقدم للمجتمع الدولي تقريراً ذا مصداقية حول ما جرى".
وأضاف: "قد لا يجيب التقرير عن كل الأسئلة، ولكنه سيحدد -كما نأمل- المسؤول وما حدث بالتحديد، ثم سيعود الأمر إلى المجتمع الدولي ليقرر ما يفعل بهذه المعلومات".
منظمات دولية طالبت أيضاً الأمم المتحدة بفتح تحقيق
المقرر الأممي ديفيد كاي لم يكن هو الوحيد الذي طالب غوتيريش بفتح تحقيق، إذ طالبت "هيومن رايتس ووتش" السلطات التركية بتقديم طلب رسمي إلى الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، لإجراء تحقيق دولي ومستقل في القضية.
وأشارت إلى أن "تحقيقاً دولياً تحت سلطة الأمين العام سيكون له التفويض والمصداقية والحيثية من أجل الضغط على المسؤولين والشهود والمشتبه بهم في السعودية".
كما شاركت منظمة العفو الدولية هذا المطلب مطلع يناير/كانون الثاني 2019، من أمام القنصلية السعودية في إسطنبول، في ذكرى مرور 100 يوم على مقتل خاشقجي.
كيف ستستقبل السعودية أي تحقيق دولي في القضية؟
سبق أن رفضت الرياض بشدةٍ أي مطالب بتحقيق دولي في القضية المثيرة، إذ أعرب تركي الفيصل، رئيس الاستخبارات السعودية السابق، عن "فخر بلاده" بنظامها القضائي، مؤكداً رفضها إجراء أي تحقيق دولي معها أو اتهام ولي العهد في قضية مقتل جمال خاشقجي بناء على "التكهنات".
وأضاف الفيصل في مرات عديدة، أن "السعودية لن تقبل بأي محاكمة دولية للنظر في أمر مواطن سعودي، والنظام القضائي السعودي سليم ويعمل بوضوح"، مشدداً على أن "المملكة لن تقبل أبداً التدخل الأجنبي في نظامها القضائي".
وعن شكل استقبال السعودية قرار تدويل القضية إن تم، فمن المتوقع أنها ستستخدم كل نفوذها لوقفه وإعاقته، وهنا يجب أن نستذكر أنها هددت ذات مرة بانسحاب الدول العربية من الأمم المتحدة بعد أن اتُّهمت بقتل أعدادٍ كبيرةٍ من الأطفال في اليمن (ردّت الأمم المتحدة حينها بحذف اسم التحالف الذي تقوده السعودية من القائمة السوداء لأسماء الكيانات التي تقوم بقتل الأطفال).
في السياق، يجدر الإشارة إلى ما صرح به وزير الخارجية التركي مؤخراً، عن أن بعض "الدول الغربية تحاول التستر على مقتل خاشقجي"، مضيفاً: "أعرف الأسباب، نعرف ونرى ما هي أنواع الصفقات التي يتم إبرامها، ونرى كيف أن الذين تحدثوا عن حرية الصحافة يتسترون الآن على هذا الأمر بعد رؤية الأموال".
وهذا ما يدلل بالطبع على حراك سعودي واسع وبشتى الوسائل والطرق الممكنة، لقتل القضية التي تطارد الرياض في جميع المحافل حتى اللحظة، وسببت لها كابوساً مزعجاً أرّقها وهز ثقة المجتمع الدولي بها.
وهنا، يؤكد الباحث باكير لـ "عربي بوست"، أن "تشكيل لجنة تحقيق وعقد محكمة دولية في القضية سيلحقان ضرراً كبيراً سياسياً واقتصادياً بالسعودية"، مضيفاً أنه "سيكون حينها على الرياض التزام نتائج التحقيق، وإذا حاولت معارضة قرارات المحكمة فستجد نفسها في مقاطعة دولية كبيرة، وربما سيتم اعتبارها دولة خارجة عن القانون".