على مدار ثلاث سنوات، سيطر الجهاديون على مساحةٍ واسعة من الأراضي في العراق وسوريا. أداروا دولتهم الخاصة، وجمعوا عشرات الملايين من الدولارات من الضرائب، واستخدموا العائدات لإصلاحات الطرق وإصدار شهادات الميلاد، وتمويل الهجمات وتجنيد الأتباع من جميع أنحاء العالم.
أما الآن، فقد ذهبت هذه الأراضي جميعها باستثناء 1% فحسب، وهو ما شجَّع البيت الأبيض على وصف تنظيم داعش بأنه قد "مُحِيَ" و"أُبيدَ تماماً" و"في النزع الأخير"، لكنَّ الإشارة إلى هزيمة داعش، كما فعل الرئيس ترامب عندما أعلن خططه لسحب القوات الأمريكية من سوريا، تعني تجاهل دروس التاريخ الحديث.
ذلك أنَّ داعش قد أُعلِنَ عن هزيمته من قبل، ثم أثبت التنظيم خطأ السياسيين وعاد أقوى من ذي قبل.
ويعد الهجوم الذي نفذه انتحاري، الأسبوع الماضي، خارج مطعم للشاورما في مدينة منبج السورية، الذي قتل ما لا يقل عن 15 شخصاً بما في ذلك 4 أمريكيين، يعد مثالاً للتدليل على بقاء التنظيم تهديداً خطيراً وعنيفاً.
تغيير التكتيكات
وقال سيث جونز، المستشار الأقدم بمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية ومؤلف دراسة أصدرها المركز مؤخراً لتقييم القوة العسكرية لداعش: "يرتكب الناس خطأ الاعتقاد بأنك حين تخسر أرضاً فالأمر خطير، أي أنهم سوف يستمرون في الخسارة".
وأضاف جونز: "عندما تخسر الجماعات الذكية أرضاً، فإنها تنتقل إلى استراتيجية وتكتيكات حرب العصابات، بما في ذلك الاغتيالات المستهدفة، والكمائن والغارات والتفجيرات. وبهذه الطريقة ترهق العدو".
وحتى فيما يتعلق بالتكتيك الإعلامي للتنظيم الجهادي فقد غير داعش من استراتيجيته المعهودة بنشر بياناته عبر تطبيق تليغرام وتحول لشبكة ZeroNet الإلكترونية التي تتيح للتنظيم إبقاء مواده دائماً على الإنترنت دون حذفها.
وZeroNet هي منصة استضافة إلكترونية لامركزية، تعتمد على استغلال أجهزة الكمبيوتر للمستخدمين كخوادم، بدلاً من الخوادم التقليدية، مما يصعب حجبها أو مراقبتها تفادياً للحجب.
وبهذا، بحسب تقرير لصحيفة The New York Times الأمريكية، يعد تصريح ترامب بهزيمة داعش للمرة الثانية غير دقيق.
ومنذ عقد مضى، تعرَّض التنظيم، الذي كان يُعرَف حينها بالدولة الإسلامية في العراق، لضرباتٍ شديدة، إلى درجة أنَّ المسؤولين قدروا أنَّ 700 مقاتل فحسب هم من تبقوا من مقاتليه. وخلال فترة استمرت 90 يوماً، اعتقلت القوات الأمريكية أو قتلت 34 من كبار قادة التنظيم الـ42.
وتأسف أمير هذا التنظيم سراً على عدم قدرتهم على الاستمرار مع تعرض قواته للإنهاك وقلة العدد.
إذ قيل إنَّ الأمير، أبو عمر البغدادي، قال لنوابه: "ليس لدينا الآن مكان يمكننا الوقوف فيه ولو لربع الساعة"، وذلك بحسب رواية التنظيم نفسه لهذه الفترة قبل إتمام انسحاب القوات الأمريكية من العراق عام 2011.
لكنَّ التنظيم أعاد بناء نفسه بسرعة بعد الانسحاب الأمريكي، وبعد أربع سنوات فحسب نجح في الاستيلاء على مساحة من الأرض بحجم بريطانيا.
وتشير التقديرات الحديثة إلى أنَّ داعش لديه عدد أكبر بـ20 إلى 30 مرة من المقاتلين عن آخر مرة تُرِكَ فيها التنظيم للموت.
ومع أنَّ الكثير من قادة التنظيم قد قتلوا، فإنَّ خليفة التنظيم، أبو بكر البغدادي، والكثير من كبار نوابه، يُعتَقد أنهم ما يزالون أحياء.
ما زال التجنيد مستمراً
وبحسب الصحيفة الأمريكية، فإن انهيار الدولة صعَّب من عملية التجنيد، ويعتقد أنَّ عدداً قليلاً فحسب من الأعضاء الجدد ما يزال في طريقه إلى المنطقة من الخارج، بعد أن كان الآلاف يعبرون إلى أراضيها من قبل.
وفي غضون ذلك، انخفضت الهجمات في بعض المواقع الحساسة، مثل العراق. ولا يعني هذا أنَّ التنظيم لم يعد قادراً على تنفيذ مثل هذه الضربات هناك. ففي عام 2018، في الشهور التي تلت إعلان رئيس الوزراء حيدر العبادي الانتصار على داعش، نفذ التنظيم أكثر من 1200 هجوم في العراق وحده، وذلك وفقاً لمجموعة واحدة من البيانات.
كما لا يزال أتباع التنظيم ينفذون عمليات في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك الشهر الماضي، ديسمبر/كانون الأول، في واحد من أسواق الكريسماس الأوروبية، في ستراسبورغ، بفرنسا، حيث قُتِلَ مُسلَّحٌ، كان قد بايع داعش على وحدة ذاكرة محمولة (USB Stick)، وفي إحدى مسارات جبال أطلس المغربية، حيث قتل مجموعة من الرجال الذين بايعوا داعش، سائحتين إسكندنافيتين.
وقد تذكَّر العالم مرة أخرى، مع الهجوم على هذا المطعم السوري، قدرة التنظيم على تنفيذ هجمات مميتة.
جيش داعش في سوريا والعراق
إذ قُتِلَ جنديان أمريكيان في هذا الهجوم الانتحاري، ليتضاعف بذلك عدد القتلى في صفوف القوات الأمريكية الذين قتلوا في المعارك منذ بداية انتشارهم في سوريا، منذ أربع سنوات.
وقال شرفان درويش، الناطق الرسمي لمجلس منبج العسكري، حيث وقع الهجوم: "يعرف الجميع، كما قلنا دوماً، أنَّ المعركة ضد داعش لم تنته، وأنَّ خطر داعش لم ينته. ما يزال لدى داعش قوة، وما يزال لديه خلايا والتنظيم يعمل على إعادة تنظيم صفوفه".
وقدرت 3 تقارير مختلفة أصدرت أواخر العام الماضي -أصدرها المفتش العام للبنتاغون، والأمم المتحدة، ومركز الدراسات الاستراتيجية والدولية- أنَّ لدى داعش من 20 إلى 30 ألف عضو في العراق وسوريا وحدهما.
ولا تشمل هذه الأرقام آلاف المقاتلين المتمركزين في كهوف أفغانستان، وأحراش النيجر ومالي، وصحراء سيناء، والمساحات التي يغيب عنها القانون في ليبيا واليمن، والبلدان الأخرى الكثيرة التي سيطر عليها منتسبون لهذا التنظيم.
صمود أم هزيمة؟
وقد تفاخر أعضاء التنظيم، مراراً، على شبكة الإنترنت بأنَّ انسحاب الولايات المتحدة دليلٌ على أنَّ داعش قد صمد أمام العملية الأمريكية.
وفي أحد الفيديوهات التي رواها ترجمان أساورتي، وهو أحد مُروِّجي الدعاية للتنظيم الجهادي المعروفين، تفاخر بأنه أقوى الآن من آخر مرة انسحبت فيها القوات الأمريكية.
وقال أساورتي، وفقاً لترجمة قدمتها Site Intelligence Group، التي ترصد المحتوى الجهادي "عندما أعلن أوباما هروب أمريكا من العراق، كانت نار حربنا تشتعل في العراق. واليوم فإنَّ لهيب الهرب ما يزال مشتعلاً في العراق وسوريا وأفغانستان واليمن وسيناء وشرق إفريقيا وليبيا"، وسمى كذلك دولاً أخرى ازدهر فيها المنتسبون إلى داعش.
وقال برايان فيشمان، المدير السابق للأبحاث بمركز مكافحة الإرهاب بالأكاديمية العسكرية الأمريكية بوست بوينت ومؤلف كتاب تناول صعود داعش: "من الواضح للغاية أنَّ التنظيم اليوم أقوى بشكل كبير مما كان عليه تنظيم الدولة الإسلامية في العراق حينها".
ويقول الخبراء إنَّ البيت الأبيض يساوي خطأً بين انكماش الرقعة التي يسيطر عليها التنظيم وبين قوته الإجمالية.
خسارة الأرض لا تعني الهزيمة
فمقارنةً بذروة داعش قبل أربع سنوات، عندما حاز التنظيم نصف سوريا تقريباً وثلث العراق، فقد التنظيم الآن جميع الأراضي باستثناء جزء صغير من الأراضي التي كانت فيما مضى يملكها في المنطقة.
لكنَّ داعش نفذ تحولاً تكتيكياً إلى استراتيجية حرب العصابات، بحسب وصف جونز من مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية.
وقال حسان حسان، الزميل الأقدم في مؤسسة التحرير لسياسة الشرق الأوسط في واشنطن، إنَّ داعش قد أعلن عن هذا التحول التكتيكي عام 2017، في مقال في النبأ، وهي النشرة الأسبوعية للتنظيم.
قارن داعش، في هذا العدد، موقفه الآن بالموقف السيئ الذي كان عليه قبل آخر انسحاب أمريكي.
وقال التنظيم في هذا المقال: "بات من المحال في أوائل عام 2008 الاستمرار في القتال بالطرق التقليدية".
وشرح المقال أنَّ السرايا المقاتلة كانت قد ألغيت وتدرب جميع المقاتلين المتبقين في التنظيم على استخدام العبوات الناسفة المرتجلة.
وتابَع المقال: "بدلاً من الصدام مع الجيش الأمريكي المسلح بكثافة، مقارنة بجيشنا الصغير والمفتقر للتجهيز اللازم، اتخذ القتال شكلاً جديداً تماماً".
وفي ذروة صراع داعش على الأراضي، كان التنظيم أشبه بجيشٍ تقليدي، وأحياناً ما كان يخوض المعارك بدبابات من طراز T-55. وقال حسان إنَّ داعش بدأ بالانتقال العكسي إلى التمرد منذ وقت مبكر يعود إلى عام 2016، أي قبل عام كامل من خسارته أهم المراكز التي كان يسيطر عليها أهمية، ألا وهي مدينة الموصل العراقية.
ووثق حسان كيف زاد التنظيم، في أوائل عام 2016 من هجمات الكر والفر في البلدات التي خسرها. هذه العمليات السريعة بدا وكأنها تهدف إلى إحداث الضرر للحكام الجدد لهذه البلدات، بلا أية نية لاستعادة السيطرة عليها، بحسب الصحيفة الأمريكية.
ووثق مايكل نايتس، وهو زميل أقدم بمعهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، كيف ركز التنظيم في جميع أنحاء العراق بدقة متناهية على قتل عُمَد القرى "المختارين"، فضلاً عن شيوخ القبائل والسياسيين المحليين.
وقال نايتس إنه كانت هناك 15 محاولة اغتيال في المتوسط ضد القادة المحليين كل شهر في الشهور العشرة الأولى من عام 2018.
ولم تحظ هذه الاغتيالات المستهدفة بتغطية كبيرة في وسائل الإعلام الدولية، ومع ذلك فقد ساعدت على تقويض ثقة العراقيين في قدرة حكومتهم على حمايتهم، فضلاً عن دفع الشباب مرة أخرى إلى أحضان داعش، بحسب نايتس.
وتساءل نايتس قائلاً: "لو كان بمقدور داعش أن يأتي إلى بلدتك ويقتل أهم شخص في فيها في أية ليلة من ليالي العام، فهل تشعر أنك قد حُرِّرت بالفعل؟".
وتعكس التكتيكات الحالية للتنظيم استراتيجية داعش منذ عقد مضى، التي أدت إلى إعادة ولادته.
مرحلة "الرصد"
وقال نايتس: "هم يدركون أنك لست محتاجاً إلى تنفيذ 6 آلاف هجوم في الشهر. كل ما عليك فعله أن تقتل الـ50 شخصاً المناسبين، كل شهر".
وتتحدث أدبيات التنظيم الآن عن مرحلة "الرصد".
وقال حسان: "يمضون وقتاً في تعلم روتين القوى الأمنية في بلدة ما. ويبحثون عن الفجوات الأمنية. يبحثون عن الأنماط".
وأضاف حسان: "ما إن ترى الفجوات، يمكنك البدء في العمل خلالها. فليس الأمر أمر رجل مجنون يجري ويبدأ في إطلاق النار ثم يُقتَل".
يرى المُحلِّلون الهجوم المميت الذي نفذ الأربعاء الماضي، 16 يناير/كانون الثاني، على القوات الأمريكية في منبج، في هذا السياق.
إذ أصبح مطعم الأمراء، بجدرانه المبلطة وطاولاته اللامعة وشطائر الشاورما اللذيذة التي يقدمها، المكان المفضل للألفي جندي أمريكي المقيمين في سوريا. فكانوا يمرون عليه لالتقاط وجبات سريعة قبل العودة إلى دوريتهم. وأحياناً كانوا يوقفون سياراتهم المصفحة في واجهة المطعم ويجلسون على إحدى طاولاته.
ويبدو أنَّ الجنود لم يبذلوا مجهوداً كبيراً لإخفاء حضورهم أو تنويع روتينهم ليجعلوا من الصعب على الأعداء تعقبهم.
عملية منبج كشفت الأسلوب
وبحسب الصحيفة الأمريكية، اقتبس التنظيم، في منشور أصدره بعد وقت قليل من الهجوم، ما قاله أحد أعضاء فرع المخابرات والأمن في التنظيم، المستقر في منبج، والذي شرح أنَّ التنظيم قد حاول بانتظام استهداف القوات الأمريكية في ريف منبج. وفشلت محاولاتهم حتى الأسبوع الماضي.
وشرح عميل داعش، في المقال، المراقبة التي استخدمها التنظيم، قائلاً إنَّ القوات الأمريكية كانت متمركزة في ثلاث قواعد صغيرة على مشارف منبج. وقال إنَّ القوات الأمريكية كانت تتحرك بانتظام بين هذه القواعد في مواكب من 5 إلى 10 سيارات مصفحة، مصحوبة بسيارات حراسة تنتمي للميليشيات الكردية المدعومة أمريكياً.
ومع أنَّ من المحال التحقق من المزاعم الواردة في نشرة داعش الإخبارية، كما أنَّ البنتاغون لم يصدر أي تفاصيل أخرى حول الهجوم، فإنَّ الرصد الموصوف في المقال متسق مع ما هو معروف حول كيفية تنفيذ التنظيم لعملياته.
وشرح العميل أنَّ الجنود الأمريكيين دخلوا المدينة في مواكب من سيارات Land Cruisers، لكنهم نادراً ما كانوا يظهرون خارج سياراتهم المصفحة، وذلك بحسب ترجمة قدمتها SITE Intelligence Group، التي ترصد المحتوى المتطرف.
وقال جونز من مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية: "يعني تنفيذ هجوم مثل هذا أنَّ داعش كان يقوم بعمليات استخبارات واستطلاع على حركة الجنود الأمريكيين وكان لديه شخص ما موجود في المدينة من قبل، ليستطيعوا جلب أحدهم إلى الموقع مباشرة فور حصولهم على معلومة حول الوقت والموقع. ويعني هذا أنَّهم ما يزال لديهم هيكل خلية في منبج".
وقال جونز إنَّ الضربات مثل تلك التي نفذت على القوات الأمريكية تتطلب من المسلحين القيام بعمليات استخباراتية، وبناء قنبلة ونقلها وإرسال انتحاري.
وأضاف جونز: "يظهر هذا الأمر أنَّ لديهم شبكة سرية".