الإحباط يتجلى في الرّقة، التواجد الأميركي مرفوض شعبياً، لكن هناك حرباً خفية لواشنطن تريد تنفيذها

عربي بوست
تم النشر: 2018/12/15 الساعة 17:33 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/12/15 الساعة 19:27 بتوقيت غرينتش
عربات عسكرية أميركية في مدينة الرقة شمال سوريا (واشنطن بوست)

نشرت صحيفة The Washington Post الأميركية، تقريراً تناولت فيه ما أسمتها حرباً خفية للولايات المتحدة في سوريا غير معلنة، وعن ما يدور في مناطق شمال شرق البلاد، من محاولات تسوية وتقسيم للنفوذ بين عدة قوى هناك، ومحاولات استمالة القبائل العربية والكردية من قبل جميع اللاعبين الإقليميين.

وأشارت الصحيفة إلى أنه في شهر سبتمبر/أيلول، غيَّرت الإدارة الأميركية مسارها للتواجد في سوريا، إذ قالت إنَّ هذه القوات الأميركية سوف تبقى في سوريا في انتظار التوصل إلى تسوية شاملة للحرب السورية وبمهمة جديدة لمواجة إيران.

وتقول إن هذا القرار يضع القوات الأميركية في سيطرة شاملة، وربما إلى أجل غير مسمى، على منطقة تضم ما يقرب من ثلث مساحة سوريا، وهي مساحة شاسعة من الأراضي الصحراوية في معظمها بحجم ولاية لويزيانا الأميركية.

وتضيف الصحيفة، يوماً ما، كانت هذه مدينة "الرقة"، عاصمة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، ومعرض خلافتها، ومغناطيساً للمقاتلين الأجانب من جميع أنحاء العالم. أما الآن، فالرقة في القلب من أحدث التزام أميركي لشنِّ حرب في الشرق الأوسط.

هذا الالتزام محدود، بضعة آلاف جندي أرسلوا في البداية إلى سوريا منذ ثلاث سنوات لمساعدة الأكراد في قتال "داعش". وقد أشار الرئيس ترامب في شهر مارس/آذار إلى أنَّ هذه القوات سوف تعود إلى الوطن فور الانتصار في المعركة، وبدأت مؤخراً أحدث حملة عسكرية لطرد التنظيم من آخر جيوبه في المنطقة.

ومع ذلك، ففي شهر سبتمبر/أيلول، غيَّرت الإدارة مسارها، إذ قالت إنَّ هذه القوات سوف تبقى في سوريا في انتظار التوصل إلى تسوية شاملة للحرب السورية وبمهمة جديدة: العمل كحائط صد ضد النفوذ الإيراني المتزايد.

ما هو الدور المنوط بهذه القوات؟

ولا يفصح البنتاغون عن عدد القوات هناك. رسمياً، يبلغ عددهم 503، لكنَّ أحد المسؤولين قد ألمح في أوائل العام الجاري أنَّ العدد الحقيقي ربما يقترب من 4 آلاف جندي. معظم أولئك الجنود من قوات العمليات الخاصة، وأثرهم طفيف. إذ تتجول عرباتهم ومواكبهم من وقت لآخر بطول الطرق الصحراوية الفارغة، لكن من النادر رؤية جنود أميركيين في البلدات والمدن.

وتثير هذه المهمة الجديدة أسئلة جديدة حول الدور الذي سوف تضطلع به هذه القوات وما إذا كان حضورهم سوف يشكل خطر أن يصبح مغناطيساً يجذب صراعاً إقليمياً وتمرداً.

هذه المنطقة محاطة بقوى معادلة لكل من الحضور الأميركي وتطلعات الأكراد، الذين يحكمون هذه المنطقة ذات الأغلبية العربية سعياً لتطبيق أيدولوجيا يسارية صاغها زعيم كردي تركي سجين. وتشير دلائل بدء داعش إعادة تجميع قواته، واستياء السكان العرب، إلى وجود خطر التمرد.

قالت إلهام أحمد، المسؤولة البارزة في الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، وهو الاسم الذي يُطلَق على حكومة هذه المنطقة ذات الحكم الذاتي، إنَّ من شبه المؤكد أنَّ هذه الأخطار سوف تشعل حرباً جديدة على الفور، لولا وجود القوات الأميركية.

وقالت إلهام: "ينبغي لهم البقاء. لو غادروا دون حل لسوريا، فسوف يكون ذلك كارثياً". لكنَّ البقاء محفوفٌ بالمخاطر، وقد بدأت التحديات في التصاعد بالفعل.

إذ أجبر تهديد تركي بدخول المنطقة، الشهر الماضي نوفمبر/تشرين الثاني، الولايات المتحدة على تنظيم دوريات بطول الحدود مع تركيا، التي حشدت قوات ودبابات على طول الحدود. وتعتبِر تركيا الميليشيات الكردية الأساسية، وهي وحدات حماية الشعب، التابعة لحزب العمال الكردستاني المحظور في تركيا، منظمةً إرهابية. وتخشى من العواقب على أمنها لو عززت الجماعة سلطتها في سوريا.

وتقبع قوات الحكومة السورية والمقاتلين بالوكالة عن إيران إلى الجنوب والغرب. وقد هددوا باستعادة المنطقة بالقوة، تنفيذاً لتعهد الرئيس بشار الأسد بإخضاع سوريا كلها لسيطرة الحكومة. وقامت الحكومة وإيران بتنمية العلاقات مع القبائل المحلية، وربما يؤدي إعلان الولايات المتحدة عن نيتها مواجهة الوجود الإيراني في سوريا إلى زيادة هذه الروابط رداً على ذلك.

استمالة القبائل من قبل جميع اللاعبين الإقليميين

وبعيداً عن الخطوط الأمامية، فإنَّ الهدوء الذي أعقب إخراج داعش من الرقة والأراضي المحيطة بها بدأ في التلاشي. إذ تسببت سلسلة من التفجيرات الغامضة والاغتيالات في بعض المناطق التي استعادها المقاتلون منذ ما يصل إلى ثلاث سنوات في إثارة التوتر.

تبنى تنظيم داعش معظم هذه الهجمات، وقال المتحدث العسكري الأميركي، الكولونيل شون رايان، إنه ليس ثمة سبب للاعتقاد بأنَّ داعش ليست هي المسؤولة. وقال: "نحن نعرف أنهم يعيدون تجميع صفوفهم في تلك المناطق".

لكنَّ ثمة شكوكاً واسعة الانتشار بأنَّ أياً من القوى المعادية للوجود الأميركي وسعي الأكراد للحكم الذاتي، قد تسعى إلى زعزعة استقرار المنطقة، وإيجاد حلفاء بين العرب الساخطين غير المرتاحين لاحتمال أن يحكمهم الأكراد على المدى الطويل.

سعت القوات الكردية إلى إشراك العرب في تجربتهم للحكم الذاتي، لكنهم احتفظوا بالهيمنة على هياكلها على جميع المستويات، والعرب يشتكون من ذلك.

هذا جزء من سوريا حيث تتغلب الولاءات القبلية على السياسة في كثير من الأحيان، ويجري استمالة القبائل من قبل جميع اللاعبين الإقليميين من أصحاب المصلحة في السيطرة على المنطقة في نهاية المطاف، وذلك بحسب الشيخ حميدي دهام الجربا، زعيم قبيلة شمّر القوية.

اجتمع عشرات الزعماء القبليين، في قصر الشيخ حميدي الضخم، الذي يرتفع على نحو غير متوقع في الصحراء الفارغة بالقرب من الحدود العراقية، في إحدى أيام الجمعة القريبة لحضور ديوانه الأسبوعي المعتاد.

وكشف الشيخ حميدي عن أنَّ الضيوف تراوحوا بين شيوخٍ مرتبطين بنظام الأسد وحزب البعث الحاكم إلى ممثلين لداعش والجيش السوري الحر وقوات سوريا الديمقراطية التي يقودها الأكراد –وهم طيف من المتنافسين على السيطرة على شمال شرقي سوريا.

وضع الشيخ حميدي قبيلته في تحالفٍ مع الولايات المتحدة والأكراد، وساهم بمقاتلين من ميليشيا "الصناديد" الصغيرة التابعة له في المعارك ضد داعش. لكنه قال إنَّ لديه مخاوف كثيرة، أبرزها أنَّ الحديث الأميركي عن مواجهة إيران سوف يسحب المنطقة إلى صراعٍ جديد وأنَّ العرب سوف يُستبعَدون من أية صفقة يُتوصَّل إليها مع الأكراد في نهاية المطاف.

وقال الشيخ حميدي: "كل شيء غير مؤكد. نحن جزء من لعبة عالمية الآن، والأمر خارج عن أيدينا".

وقال ابنه بندر، الذي يقود ميليشيا القبيلة، إنَّ القبيلة تدعم شكلاً من أشكال الترتيب الجديد للأكراد في سوريا "لأنهم إخوتنا ولأنهم ضحوا كثيراً".

وقال بندر: "إنَّ الشاغل الرئيسي للسكان العرب أنَّ عرقية واحدة، وهي الأكراد، سوف تبني دولة للأكراد وتفرض سلطتها على الآخرين. لقد أنشأ الائتلاف قوات سوريا الديمقراطية لتكون متعددة الأعراق، لكنَّ الناس يرون فعلاً أنَّ الأمر ليس كذلك. وإنما ممثل منفرد يخول كل شيء ويتحكم في كل شيء".

الوجود الأميركي سوف يؤدي إلى التأثير على المفاوضات

يقول القادة الأكراد إنهم يبذلون قصارى جهدهم لإقناع السكان العرب أنَّ خطتهم للحكم سوف تشملهم. وقال صالح مسلم، أحد المسؤولين البارزين في حزب الاتحاد الديمقراطي، الجناح السياسي لوحدات حماية الشعب، إنَّ جلسات تعليمية تعقد في المناطق العربية لمحاولة إقناع العرب برؤى "عبد الله أوجلان"، الزعيم الكردي التركي المسجون الذي ألهم أيدولوجية "وحدات حماية الشعب".

وقال مسلم: "نحن مخلصون للغاية بشأن العيش معاً. إنها مسألة وقت فحسب. ربما نكون بحاجة إلى ثلاثة أو أربعة أعوام لتستقر الأمور".

وليس من الواضح ما إذا كان للأكراد ثلاثة أو أربعة أعوام فعلاً. إذ يأمل المسؤولون الأميركيون أنَّ الوجود الأميركي سوف يؤدي إلى التأثير على المفاوضات حول تسوية نهائية لإنهاء الحرب السورية، بهدف تأمين شكل من أشكال الحكم الذاتي لحلفائهم الأكراد بالإضافة إلى صد النفوذ الإيراني.

لكن ليس ثمة تسوية تلوح في الأفق، وربما لا تحدث مثل هذه التسوية. فالأسد تغلَّب على المعارضة في أماكن أخرى من سوريا ولم يُبدِ أي ميل لتقديم تنازلات. والتوقع بين الكثير من السكان، من الأكراد والعرب على حد سواء، هو أنَّ الحكومة سوف تستعيد سيطرتها على المنطقة في نهاية المطاف.

وبعد أنَّ أعلن ترامب أنَّ القوات سوف تُسحب قريباً، بدأ الكثير من الناس هنا في التخطيط لهذا الاحتمال، بما في ذلك الأكراد الذين بدأوا محادثات مع دمشق لتسوية مباشرة وثنائية. لم تسفر هذه المحادثات عن أي شيء، والآن سوف يبقى الأميركيون –لكنَّ مسؤولين أكراداً يقولون إنهم يبقون قنوات اتصال مفتوحة في حالة غيَّر ترامب رأيه مرة أخرى.

وقال أمجد عثمان، أحد مسؤولي حزب الاتحاد الديمقراطي: "كل شيء معقد للغاية، ولا أحد يعرف أي الطرق يسلك. لا نعرف من ضد من ومن مع من".

وتبدو جميع التحديات والتعقيدات في شمال شرقي سوريا متركزة في بلدة منبج الصغيرة الاستراتيجية. إذ حررت القوات الكردية هذه البلدة، الواقعة بجانب نهر الفرات، من داعش منذ أكثر من ثلاث سنوات. والآن، إلى الشمال منها، ثمة أراض تسيطر عليها القوات التركية وحلفاؤها من الجيش السوري الحر، وإلى الجنوب هناك الحكومة السورية وحلفاؤها روسيا وإيران.

في الوسط هناك الأميركيون. وهي واحدة من الأماكن القليلة حيث للجيش الأميركي حضور واضح. فثمة ثلاث قواعد عسكرية أميركية صغيرة في البلدة، تدعم جهوداً أميركية لإبعاد تركيا عن المجلس العسكري لمنبج التابع للأكراد، وذلك بحسب مسؤولين في هذا المجلس. حتى الآن، عملت الدبلوماسية على إخماد التوترات، وبدأ الجيشان الأميركي والتركي في الآونة الأخيرة في تنظيم دوريات مشتركة على طول الخط الأمامي.

لكنَّ الهجمات التي نفذها قتلة استقلوا دراجات بخارية وغرسوا قنابل على جانب الطريق، صارت تحدث بوتيرة متزايدة خلف الخطوط الأمامية. ويعتقد المسؤولون المحليون أنّ جماعات مرتبطة بالحكومة السورية وإيران تقف وراء بعض هذه الهجمات، وذلك بحسب محمد مصطفى علي، الشهير بـ"أبو عادل" والذي يرأس المجلس العسكري لمدينة منبج. وقال أبو عادل: "نحن محاطون بالأعداء، وجميعهم يريدون المجيء إلى هنا".

مدينة لا تزال في حالة خراب

ويقول المسؤولون الأكراد إنه في غضون ذلك، يتزايد الإحباط بسبب النقص الحاد في التمويل لإعادة الإعمار، ما يعيق جهود الفوز بقلوب العرب في المناطق غير الكردية. ففي وقت مبكر من العام الجاري، قطع ترامب مبلغ الـ200 مليون دولار الذي كان قد رُصد لإجراء إصلاحات أساسية في أسوأ المناطق تضرراً. ومع أنَّ ذلك المبلغ قد حلت محله تبرعات من السعودية والإمارات، فهو يشكل جزءاً ضئيلاً من مليارات الدولارات المطلوبة.

لكنَّ الإحباط يتجلى أكثر ما يتجلى في الرقة، أكبر مدينة في الجزء الذي تتمركز فيه القوات الأميركية في سوريا. فالمدينة دمرتها الضربات الجوية الأميركية التي صاحبت هجوم قوات سوريا الديمقراطية، الذي استمر خمسة شهور لطرد داعش، وبعد عام من ذلك، لا تزال المدينة في حالة خراب.

لكنَّ بوادر الحياة تعود مع إعادة فتح المتاجر والأسواق في بعض الأحياء. إذ عاد حوالي نصف السكان، متزاحمين في أقل المباني تضرراً، وأحياناً ما يعيشون بلا جدران ولا نوافذ. تم تطهير معظم الطرق من أكوام الأنقاض التي خلفها القصف، لكنَّ المباني القائمة خربة وغير صالحة للسكنى. واستعيدت المياه في شهر سبتمبر/أيلول، لكن ليس ثمة كهرباء حتى الآن.

وجاء في تقرير للمفتش العام للبنتاغون، الشهر الماضي، نقلاً عن مسؤول من وزارة الخارجية إنه دون المزيد من الدعم المالي، ثمة خطر يتمثل في "انحدار الرقة إلى الحالة ذاتها من الضعف التي وجدتها عليها داعش عند وصولها للمرة الأولى" ذلك أنَّ "مدينة ممزقة تكون عرضة لاستيلاء المتطرفين عليها واستغلالها".

الغضب في الشوارع واضح. وبعض السكان يعادون الزوار الأجانب بشكل علني، وهو أمر نادر الحدوث في بلدات ومدن أخرى محررة من سيطرة داعش في سوريا والعراق. حتى أولئك الذين يدعمون الوجود العسكري الأميركي وقوات سوريا الديمقراطية يقولون إنهم مستاؤون من أنَّ الولايات المتحدة وشركاءها في التحالف المعادي لداعش، الذي قصف المدينة، لا يساعدون على إعادة بنائها.

ويبدو أنَّ الكثيرين لا يدعمون حكامهم الجدد. إذ قال أحد الأشخاص، يعمل خياطاً ورفض التصريح باسمه خوفاً من تبعات التعبير عن رأيه: "لا نريد الأميركيين. هذا احتلال. لا أعرف لماذا تعين عليهم استخدام مثل هذا العدد الضخم من الأسلحة وتدمير المدينة. نعم، كانت داعش هنا، لكننا دفعنا الثمن. هم مسؤولون".

وتحدث هذا الرجل بحزن عن الحياة في ظل داعش عندما قال إنَّ الشوارع كانت آمنة. كانت أعماله تجري بشكل جيد لأنَّ المقاتلين الأجانب توافدوا عليه لتفصيل الثياب أفغانية الطراز ذات السراويل المنتفخة والسترات التي تفضلها داعش. أما الآن فالمدينة نصف فارغة، والزبائن قلائل.

يقول الجميع إنَّ الشوارع غير آمنة الآن. وقد شهدت الشهور الأخيرة زيادة في عمليات الاغتيال والاختطاف، التي يستهدف معظمها أعضاء من القوات الأمنية أو الأشخاص الذين يعملون مع المجلس المحلي. لكنَّ بعض منتقدي السلطات قُتلوا أيضاً، وبالليل ثمة عمليات اختطاف وسلب.

وهناك كتابات على الجدران (غرافيتي)، عادة ما تظهر بين عشية وضحاها، وهي تذكير مشؤوم بأنَّ داعش تحاول تنظيم عودتها.

تقول إحدى العبارات المكتوبة على عجل بالطلاء الأسود على أحد الجدران المتداعية لمبنى منهار: "باقية رغماً عنكم"، في إشارة إلى شعار داعش: "باقية وتتمدَّد". كان هذا الطلاء جديداً.

 

تحميل المزيد