عُذِّب وتم تذويب جسده في «الأسيد».. قصة المعارض المغربي المهدي بنبركة، الذي ما زالت عائلته تجهل مصيره!

أكثر من نصف قرن على اختفائه، ظلت خلالها عائلة المهدي بنبركة تتساءل عن مصيره دون جدوى، لتطالب الأسرة من جديد بفتح تحقيق وكشف ملابسات اختفائه في سنة 1965.

عربي بوست
تم النشر: 2018/11/18 الساعة 08:39 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/11/18 الساعة 08:47 بتوقيت غرينتش

"أنتُما الوحيدان اللَّذان يُمكنهما اتِّخاذ قرارات تُمكِّن من إخراج هذه القضية من المأزق الذي آلت إليه". هكذا توجَّهت أسرة زعيم المعارضة المغربي الراحل المهدي بنبركة بخطابها للملك محمد السادس، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، غداة زيارة قادت هذا الأخير للمملكة المغربية مؤخراً.

أكثر من نصف قرن على اختِفائه الغامض، ظلَّت خلالها عائلة المهدي بنبركة تتساءل عن مصير ابنها، وتبحث عن جثته دون جدوى، لتطالب الأسرة المكلومة من جديد بفتح تحقيق وكشف ملابسات اختفائه في العاصمة الفرنسية باريس سنة 1965.

وكتب البشير، نجل المهدي بنبركة عشية زيارة ماكرون للمغرب من أجل تدشين خط القطار فائق السرعة، الخميس 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2018، رسالة قال فيها: "إن مُلابسات وفاة بنبركة لم تُكشف حتى الآن، ولا نزال لا نعرف مكان دفنه، وهذا الوضع بالنسبة لأمي وأبنائها لا يُحتمل إنسانياً".

المهدي بنبركة.. أستاذ الحسن الثاني

وُلد بنبركة بمدينة الرباط عام 1920، وكان سياسياً مغربياً يوصف بكونه أكبر معارض للملك الحسن الثاني، وزعيم حركة العالم الثالث والوحدة الإفريقية.

يصفُه الراحل الحسن الثاني قائلاً: "… كان يتكلم بنبرة متوقدة حماساً زائداً، كان يفيض ذكاء، كما كان ذا ثقافة واسعة وشخصية جذابة… لقد كان في البداية شغوفاً بالعلم، متحمساً له، ثم ما لبث أن تحوَّل به الشَّغف والتحمُّس إلى حقل السياسة".

عمل بنبركة بدايةً أستاذاً لمادة الرياضيات بثانوية بالرباط، ثم بالمدرسة الملكية، حيث وَجَد من بين تلامذته الأمير مولاي الحسن، ولي العهد آنذاك، وظلَّ يدرسه طيلة أربع سنوات، وتذكر الملك الراحل كيف أن "الفضل يرجع لأستاذه في الرفع من مستواه في مادة الرياضيات، أثناء قيامه بالتحضير لاجتياز امتحان البكالوريا (الثانوية العامة)".

بعيداً عن مِهنته، كان الشاب الأستاذ مولَعاً بالسياسة وعالمها، وحينما دقَّت ساعة تأسيس حزب الاستقلال كان من بين الـ59 موقِّعاً على العريضة، وكان أصغَرهم جميعاً، إذ لم يتجاوز عمره 24 سنة، قبل أن يغادر "الاستقلال" صُحبة بعض رفاقه الشباب مؤسساً حزباً آخر أطلق عليه اسم "الاتحاد الوطني للقوات الشعبية".

يقول أحمد بخاري، ضابط المخابرات المغربي السابق: "استمرَّ الرجل يُقاتل من أجل أفكاره بعد الاستقلال، حيث كان له طموح المغرب الكبير، ويعمل من أجل استرجاع الضيعات والأراضي الفلاحية من المستعمرين، مطالباً بإصلاح فلاحي وتوطين الصناعة وملكية دستورية وتعريب التعليم".

نصف قرن من الغياب!

في الـ29 من أكتوبر/تشرين الأول 1965، حضر المهدي بن بركة -وكان يشغل آنذاك رئاسة منظمة القارات الثلاث- إلى مطعم على شارع "سان جيرمان" في قلب باريس، حيث كان من المقرر أن يتناول الغداء مع صحافي فرنسي ومخرج سينمائي كان يُعِدّ لتصوير فيلم حول التَّحرر من الاستعمار.

كانت الساعة تشير إلى الثانية عشرة والربع، عندما دعا اثنان من رجال الشرطة الفرنسية المهدي بن بركة إلى مرافقتهما في سيارة، كان يقودها مخبر لجهاز الاستخبارات الفرنسي.

واقتيد أبرز زعماء "الاتحاد الاشتراكي للقوى الشعبية"، الذي فضَّل المنفى قبل أن يَحكم عليه القضاء المغربي بالإعدام غيابياً بتهمة "التآمر ومحاولة اغتيال الملك"، إلى فيلا بمنطقة "فونتي لو فيكونت" إحدى ضواحي باريس، ومن حينها لم يره أحد على قيد الحياة.

وأشار تحقيق قضائي فرنسي إلى ضلوع عدد من رجال السياسة ورجال الشرطة الفرنسيين  في القضية. وتبيَّن أيضاً أن الجنرال محمد أوفقير، وزير الداخلية المغربي آنذاك وذراع الحسن الثاني اليمنى، بالإضافة إلى مساعده أحمد الدليمي، مدير الأمن الوطني المغربي، وشخص يدعى شوكي، وهو زعيم وحدات مغربية خاصة، كانوا جميعاً موجودين في باريس في نفس اليوم!

يؤكد رجل المخابرات المغربي السابق محمد البخاري، ضمن سيرة تطرَّق فيها للاختطافات والاغتيالات التي قام بها رفقة زملائه خلال سبعينيات وثمانينيات القرن المنصرم، أن الفيلم السينمائي كان خدعةً ليوقعوا المهدي في الفخ، وهو ما تم فعلاً، إذ كان من المقرر أن يلعب المعارض المغربي دور المستشار، مقابل مبلغ مالي قدره 100 ألف فرنك فرنسي، سيحصل منها على مبلغ مقدم يبلغ النصف ما إن يمضي العقد".

كانت الخطة تقتضي خطف الزعيم المعارض ونقله إلى المغرب سراً مقيد اليدين والرجلين، إذ كان مقرراً "تسليم (الطرد الجاهز) خلال نفس ليلة الاختطاف إلى طائرة عسكرية صغيرة متوقفة بمطار (أورلي) الفرنسي"، وإعطاء حقنة مهدئة للمختطف ما إن يصل إلى التراب المغربي، إلا أن "المهدي بنبركة مات بدل الدخول به حيا إلى المغرب!".

ماذا حدث في باريس؟

ما إن وصل المعارض الشهير إلى فيلا "فونتي لو فيكونت"، حتى تم إيهامه بأن مبعوثين من طرف الحسن الثاني سيناقشونه حول شروط عودته إلى البلاد، وهو ما تم طيلة 6 ساعات أو أكثر، تم خلالها مناقشة شتى المواضيع والأحداث بالمغرب. إلا أن حضور الدليمي، مساعد وزير الداخلية آنذاك، بشكل مفاجئ ألجَم بنبركة، "حيث اصفرَّ وجهه، وارتعدَ جسده، وجحظت عيناه"، بعدها "تبادل الرجلان كلمات حادة وشتائم نابية، قبل تقييده إلى كرسي وحقنه، ما تسبَّب في فقده الوعي لمدة 3 ساعات" وفق شهادة أحمد بخاري.

ما إن استعاد بنبركة وعيه حتى حضر الجنرال القوي آنذاك محمد أوفقير إلى الفيلا، آمراً بتعذيبه ليتم "تعليق الضحية من ذراعيه، وأصفاد تشد راحتيه، معرَّضاً لتعذيب ممنهج أفقده الوعي مراراً، قبل أن تزهق روحه حوالي الثالثة صباحاً من يوم السبت 30 أكتوبر/تشرين الأول 1965".

يستمرّ عميل المخابرات السابق أحمد بخاري في رواية شهادته، موضحاً أن "جثة بنبركة نقلت فعلاً صوب الرباط… حيث رُميت في حوض أسيد داخل أحد مقرات المخابرات السرية المغربية… مختفياً إلى الأبد"، واستطرد بخاري: "قيل إن الجسد قُطِّع أشلاء بفرنسا، حيث قدم الرأس للملك، كل هذا خيال خالص".

الحسن الثاني: أنا بريء من دم المهدي

خلال سؤال طرحه الصحافي الفرنسي "إيريك لوران" على الحسن الثاني، بخصوص مقتل المهدي بنبركة، أكد الملك الراحل أنه "وُضع أمام الأمر الواقع في حادثة موت معارِضِه".

"أنا بريء تماماً من اختفاء بنبركة، ولم تكن لي يد في وفاته، سواء بإصدار الأوامر لتنفيذها، أو غضّ النظر عنها"، يؤكد العاهل الراحل الذي علم بما حصل لأستاذه القديم عن طريق الصحافة، متابعاً: "لم أكن على علم باختطاف بنبركة، ولو علمت به لأعلنت إدانتي له".

وحول ما إذا كان الملك قد سأل وزير داخليته عن اختطاف المعارض بعد الحادث، قال الحسن الثاني إن محمد أوفقير أجاب بأنه "ذهب إلى باريس ليوم واحد وعاد مساء"، وأقسم بأغلظ الأيمان أنه لم يكن ضالعاً في القضية، وأضاف أنه على أتم الاستعداد لتسليم نفسه بمجرد ظهور قرائن ضده.

بعد 53 سنة على الحادث لا يزال موريس بوتين، محامي أسرة بنبركة مؤمناً بأن "تكرار التذكير بالقضية جُهد لا بد أن يأتي يوم ويُثمر فيه"، داعياً الجمهورية الفرنسية التي سبق وأصدرت مذكرات إنابة دولية في القضية أن "تكشف مُجمل الملفات الراجعة للأجهزة السرية الخاصة بالقضية".

أما الحسن الثاني فلم يُنكر أن اختطاف وقتل المعارض القوي "شوَّه ولطَّخ سمعة المغرب".

علامات:
تحميل المزيد