«من حجيمٍ إلى آخر».. تفاصيل رحلة العذاب من غزة إلى مصر تبدأ من جيوبهم

لمغادرة قطاع غزة، يَتَعَيَّنُ على الفلسطينيين قضاء قُرابة اليوم في رفح، قبل أن تحملهم الحافلات عبر صحراء سيناء ليعبروا قناة السويس وصولاً إلى المستشفيات

عربي بوست
تم النشر: 2018/11/13 الساعة 14:20 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/11/13 الساعة 14:20 بتوقيت غرينتش
Palestinians wait to travel to Egypt through the Rafah border crossing, in the southern Gaza Strip May 18, 2018. REUTERS/Ibraheem Abu Mustafa

قصاصات الكرتون أو الحقائب أو الأرضية العارية؛ أشياءٌ ينام عليها المسافرون في طريقهم إلى رفح، المعبر الحدودي الذي أصبح البوابة العاملة الوحيدة بين غزة المحاصرة والعالم الخارجي.

لا يجدون في طريقهم سوى القليل من الماء والطعام والراحة من الحرارة في المرحلة الأولى من رحلتهم عبر مصر، التي انطلق فيها الآلاف خلال الأشهر القليلة الماضية، حيث يتعرضون لمعاملةٍ يصفها الكثيرون بالمُهينة؛ إذ تُقضى ساعاتٌ طوال داخل سلسلةٍ من غرف الانتظار الرطبة المُهملة، وتمضي أيامٌ داخل حافلاتٍ مُتَكَدِّسةٍ تَمُرُّ عبر الصحراء القاحلة، حسب ما ذكر موقع Middle East Eye البريطاني.

لمغادرة قطاع غزة، يَتَعَيَّنُ على سُكانه الفلسطينيين قضاء قُرابة اليوم في رفح، قبل أن تحملهم الحافلات عبر صحراء سيناء ليعبروا قناة السويس بالمعدية ويتقدموا وصولاً إلى المستشفيات في مصر، بينما يستغل بعضهم القاهرة بوابةً إلى الرعاية الصحية أو التعليم أو العمل على نطاقٍ أوسع.

الرشوة هي الحل

وفي الواقع، لا تجري العملية بسلاسة؛ إذ تتعثَّر وتتوقَّف ولا يقترب سوى القليلين من القيام بالرحلة على أي حال، ويُصاب العديدون بالإحباط في المراحل الأولى لأن الحدود تكون مغلقةً عادةً وقوائم انتظار العبور طويلة للغاية.

وطريقة تخطي تلك القوائم هي عن طريق دفع الأموال لشخصٍ ما، وعادةً يكون هذا الشخص على الجانب المصري من المعبر. وأصبحت تلك الرشاوى شائعةً للغاية خلال الأشهر الست الماضية، إذ إنَّ الحدود فُتِحَت لفتراتٍ غير مسبوقةٍ خلال السنوات الأخيرة، ما شَجَّع الفلسطينيين المغادرين لغزة وأولئك الذين يأملون في العودة على الذهاب إلى المعبر.

يقول إبراهيم غنيم، مغني الراب الفلسطيني الذي غادر القطاع المحاصر للتركيز على تطوير موهبته المُكَبَّلَة في غزة نتيجة عدم قدرته على السفر لتقديم العروض: "من يُريد مغادرة غزة، يغادر الجحيم ليعيش في جحيم صحراء سيناء".

استغرقه الأمر أربعة أيامٍ من الانتظار في نقاط التفتيش وعبورها في صحراء سيناء القاحلة ذات الطابع العسكري.

وتابع: "تشعر وكأنك تعبر أراضي العدو".

فلسطينيون ينتظرون الحافلة التي ستقلهم غلى معبر رفح / رويترز
فلسطينيون ينتظرون الحافلة التي ستقلهم غلى معبر رفح / رويترز

ظل المعبر مفتوحاً معظم الوقت منذ مايو/أيار 2018، بمجموعٍ وصل إلى 133 يوماً مقارنةً بـ36 يوماً فقط طوال عام 2017. وتزايدت أعداد العابرين في الاتجاهين كل شهر، إذ ارتفعت من 1500 شخصٍ في مارس/آذار، لتصل إلى أكثر من 14 ألفاً في أغسطس/آب.

ويُعَد العامل الرئيسي وراء هذا التغيير هو مسيرات العودة، إذ أن التظاهرات الأسبوعية التي تُقام كل يوم جمعة منذ أواخر مارس/آذار كانت تعبيراً عن ذروة الضغط الذي يشعر به الفلسطينيون في غزة، حيث وصلت معدلات البطالة لأكثر من 50 بالمئة ويعمل التيار الكهربي أقل من أربع ساعاتٍ في اليوم.

لقي أكثر من 200 فلسطيني مصرعهم وجُرِح الآلاف خلال التظاهرات، في حين استمرت إسرائيل في إرسال قنَّاصيها المدججين بالرصاص الحي واستخدمت الغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي.

الموتى الأحياء

تتسبب الجبيرة على قدم عرفات عبده والعكازات التي يتوكأ عليها في ظن الناس خطأً بأنه واحدٌ من بين آلاف الجرحى من سكان غزة: المتظاهرون الذين أُصيبوا في أقدامهم برصاص القناصة. ورغم أنه يُعاني في الواقع من التواءٍ في كاحله، لكن الإصابة تُشَكِّل فارقاً كبيراً بالنسبة له كراقص هيب هوب، وهي المسيرة المهنية التي يُعاني الكثير من أجلها في غزة.

يلتقي أصدقاءه وسط مدينة غزة، في قاعةٍ يُميِّزها طلاؤها المتساقط ورائحة القهوة وألعاب الورق، بالقرب من سجنٍ سابقٍ أداره في الماضي جميع حُكَّام غزة في العصر الحديث -بريطانيا ومصر وإسرائيل وحماس-، حتى قُصِف في حرب عام 2008 بواسطة القوات الإسرائيلية. وجميعهم جزءٌ من تَجَمُّع المبدعين نفسه الذي يضم راقصين وفنانين يشعرون جميعهم بأن مواهبهم مهدورة في القطاع.

يقول عبده: "جُلُّ ما أريده الآن هو مغادرة غزة". لا يجد الخريجون الكثير من الوظائف، كما أن البدائل -مثل الرقص- لا تحظى بقسط وافر من القبول الثقافي. "الناس لا يفهمون الأمر، ويسألون (ماذا تعملون)؟".

أسباب المغادرة متنوعة. كثيرٌ منهم طلابٌ حصلوا على أماكن في الجماعات بالخارج وتأشيرات دخولٍ مُصدَّق عليها، لكنهم لم يتمكنوا من مغادرة غزة. بينما يُسافر الآخرون من أجل العمل أو العلاج. في الوقت الذي يشعر فيه البعض بإغراء فكرة الحصول على فرصةٍ خارج الحدود، حتى لو لم يكن لديهم ما ينتظرهم في الخارج.

يقول مجاهد السوسي، صديق عبده: "هناك جيلٌ من الشباب الذين تحطمت أرواحهم. لا يرغبون في تقديم أي شيءٍ للمجتمع لأنهم لا يمتلكون شيئاً لتقديمه".

وقَدَّم تجمعهم، الذي يُدعى الوطن، عرضاً مسرحياً يدور حول مفهوم سكان القطاع بوصفهم مومياوات، لأن "الناس داخل غزة هم الموتى الأحياء".

ويُعَد فتح معبر رفح مؤخراً، بالإضافة إلى النظام غير الرسمي المُعتمد على الرشاوى، أمراً ملائماً للكثير منهم؛ إذ تُقاس قوائم الانتظار الرسمية التي تُعدُّها وزارة الداخلية في غزة حسب الحالات الطبية ذات الأولوية القصوى، وهو ما يجعل الخروج من المدينة أصعب بالنسبة للأشخاص الأكثر بؤساً، ومن بينهم أصحاب الأمراض المزمنة.

البديل ناحية إسرائيل.. لكنه صعب للغالبية

والبديل الوحيد المتاح هو معبر بيت حانون الذي تُديره إسرائيل. رسمياً، يظل المعبر مفتوحاً بشكلٍ أكثر انتظاماً، ولكن لأشخاصٍ بعينهم. إذ تصدر تصاريح المرور في أغلب الأحيان لأسبابٍ صحيةٍ أو في بعض الحالات لرجال الأعمال أو الفلسطينيين العاملين في الوكالات الدولية. وفي واقع الأمر، انخفضت أعداد التصاريح الصادرة بمختلف أنواعها في الآونة الأخيرة.

إذ يُرفض بعضها بناءً على صلة أصحابها بأعضاء حماس، ويوجد عددٌ من حالات الاعتقال البارزة لأشخاصٍ حصلوا على تصاريح بالفعل وقُبِض عليهم أثناء اجتياز معبر بيت حانون، ومن بينهم موظفو إغاثةٍ بارزون في المنظمات الدولية.

وتسبب الشعور بأن معبر بيت حانون لا يُمكن اجتيازه بالنسبة لمعظم سكان غزة، في جعل معبر رفح الأكثر أهميةً في الخيال الجماعي. كما أثارت المحادثات التي شاركت فيها حماس، سواءً مع الجانب الإسرائيلي أو السلطة الفلسطينية المُنافسة أو الرجل النافذ المنفي محمد دحلان قبل ذلك، قضية فتح معبر رفح في أكثر من مناسبة.

لكن سنواتٍ من المحادثات فشلت في الوفاء بذلك الوعد، واضطر مسافرو غزة عوضاً عن ذلك إلى انتظار الأيام المحدودة التي تُفتح فيها الحدود واللجوء إلى نظام الرشاوى الذي يزيد فرصهم في المرور.

يقول السوسي: "حتى لو اضطررت إلى جمع القمامة من الشارع لعامٍ كامل من أجل توفير المال اللازم، سأفعل ذلك".

طفل فلسطيني ينتظر المرور إلى مصر
طفل فلسطيني ينتظر المرور إلى مصر

"التنسيق".. التلميح إلى الرشاوى

أثناء وصفهم لطريقة مغادرة غزة، يصل المسافرون سريعاً إلى موضوع التنسيق، وهو طريقتهم في التلميح إلى الرشاوى التي تُسَهِّل اجتياز معبر رفح.

فيُجمع المال عن طريق وسطاء في غزة ثم يُرسل إلى الضباط المصريين الذين يتواصلون معهم، كما أوضح وكيل سفرياتٍ مجهولٍ -يعمل قُرب رفح وسبق له تسهيل بعض هذه الرشاوى- لموقع Middle East Eye. في بعض الأحيان يكون الوسطاء وكلاء للسفر، وفي أحيانٍ أخرى هم أشخاصٌ عاديون يمتلكون العلاقات المناسبة.

ويصف محمود كيف توصَّل إلى رجلٍ يُمكنه مساعدته في اجتياز معبر رفح، بعد أن فاتته زمالتان جامعيتان بسبب إغلاق المعبر، قائلاً: "لم يكن يمتلك مكتباً للسياحة، إذ كان مكتبه يبيع الأبواب والزجاج. لكنه في واقع الأمر مخصصٌ للسفر".

هذه هي "التسعيرة"

وتفاوض على دفع 1200 دولار أميركي، بدلاً من 1500 دولار أميركي التي تُعتبر المعدل المتوسط. وأشار البعض إلى أنهم دفعوا ضعف ذلك المبلغ تقريباً، وخاصةً في الأيام الأولى لفتح المعبر، حين كان المسافرون غير واثقين من امتلاكهم الوقت الكافي للمغادرة، كما أكد وكيل السفر حصوله على مبالغٍ وصلت قيمتها إلى 4000 دولارٍ في السابق.

وشجع طول فترة فتح معبر رفح العديد من أمثال محمود على مغادرة غزة. إذ يقترضون المال ويبيعون ممتلكاتهم من أجل الهروب، حين تكون المبالغ الضخمة المطلوبة أكبر من قدرتهم المادية.

يُضيف محمود: "لم أمتلك 1200 دولارٍ في الحقيقة، لكنني اقترضت 500 دولار من صديقي ولم أتمكن من رد المبلغ إليه حتى الآن".

وتابع محمود أنه كان خائفاً من العملية برمتها ولم تُعجبه فكرة كونها غير قانونية، لكن لم يكن أمامه خيارٌ آخر إلَّا إذا قرر التخلي عن فرصته الأخيرة في الحصول على الزمالة. ويشاطره الكثير من الغزاويين نفس الشعور، وهو ما ساعد النظام غير الرسمي على الازدهار.

لا يوجد حل آخر

وصرح مسؤولٌ بإحدى الوكالات الدولية، وهو غير مصرحٍ له بالحديث لوسائل الإعلام، لموقع Middle East Eye: "ليس الأمر في متناول اليد، فهذا مبلغٌ كبيرٌ من المال. لكن دفع تلك المبالغ أصبح أمراً مقبولاً لأن الناس في حاجةٍ ماسةٍ للسفر إلى الخارج، لأنهم مرضى للغاية أو سيخسرون منحةً أو رخصةً للعمل في الخارج".

وتتزايد المخاوف بشأن تأثير هذه العملية على المسافرين الآخرين، الذين لا يُمكنهم دفع تلك المبالغ ويعتمدون على العملية الرسمية التي تُديرها حماس.

وأبرز تقرير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية -الصادر في شهر أكتوبر/تشرين الأول- أنه بعد أشهرٍ من فتح معبر رفح بصورةٍ أكثر انتظاماً، ظلّ عدد الأشخاص على قائمة الانتظار ثابتاً عند 23 ألفاً، أي بانخفاض يقدر بـ7 آلاف شخصٍ فقط عن الرقم السابق.

ووصف التقرير الإجراءات الرسمية عند المعبر بأنها "مُربِكَةٌ وغامضة"، وأشار إلى أن الأشخاص الذين سجَّلوا في قوائم الانتظار منذ أكثر من ثمانية أشهر ما زالوا ينتظرون، بينما عبَّر المتقدمون الأحدث للسفر في أقل من شهر. وأوضح التقرير أيضاً أن أعداد الأشخاص الذين تمكنوا من الخروج خلال الفترات المتقطعة الأكثر قصراً لفتح المعبر في الماضي، انخفضت إلى النصف.

طفل فلسطيني نائم في انتظار الحصول على تصريح مرور / رويترز
طفل فلسطيني نائم في انتظار الحصول على تصريح مرور / رويترز

الرشوة تساعدك على الخروج.. لكن المعاملة كما هي

وتُساعد الرشاوى الفلسطينيين الذين يحاولون مغادرة غزة على الخروج من القطاع، لكنها لا تغير بالضرورة من طبيعة المعبر.

يقول وكيل السفر: "يظنون أنهم سيجتازون المعبر بمعاملةٍ كبار الشخصيات، لكنهم يُصدمون من المعاملة التي يتعرضون لها -حتى في ظل التنسيق- لأنهم فلسطينيون. ويُواجهون نفس المعاملة التي يتعرض لها أي مواطنٍ آخر، إذ يشهدون الكثير من الظلم والإهانات".

وتتكرر صور الفوضى عند رفح في كل مرةٍ يُفتح فيها المعبر، حيث يقف الناس في طوابير طويلة، أو ينتظرون داخل الحافلات المصفوفة. حتى أولئك الذين يأتون على رأس قائمة الانتظار التي تُديرها حماس، لا يعلمون تحديداً متى سيتمكّنون من اجتياز المعبر، إذ يعتمدون على القوائم المنشورة بشكلٍ غير رسمي على صفحات فيسبوك.

أما أولئك الذين يدفعون الرشاوى، فيُمكنهم تخطي ذلك. لكن يظل فرضاً عليهم أن يمرّوا بقاعات انتظار حماس، ثم السلطة الفلسطينية قبل العبور إلى الجانب المصري، حيث يتمكن المحظوظون من النوم على المقاعد البلاستيكية بينما ينام الآخرون على قصاصات الكرتون أثناء انتظارهم لضباط الحدود وعملاء المخابرات الذين يسلمونهم جوازات السفر المختومة أو يطلبون لقاء بعضهم قبل أن يرفضوا السماح لذوي الحظ العاثر بالدخول.  

رحلة العودة: عذاب آخر

وليست الأوضاع أحسن حالاً أثناء رحلة العودة، إذ يُمكن أن تكون أسوأ بالنسبة للبعض. وأكَّد عددٌ من المسافرين والمسؤولين على احتجازهم في غرف انتظارٍ داخل مطار القاهرة بعد عودتهم من السفر. حيث تقوم الحافلة بنقلهم مباشرةً إلى رفح، لكن مسؤول المنظمة الدولية قال إن الحافلة قد تستغرق أياماً لتمتلئ مقاعدها، خاصةً خلال عطلة نهاية الأسبوع، عندما لا تعمل الخدمة أو أثناء إغلاق المعبر.

وأضافوا أن بعض الأشخاص يُمكن ترحيلهم إلى البلد الذي أتوا منه في حال كان المعبر مغلقاً، وتابعوا أن انتهاء هذه الممارسة هو أحد أكبر مكاسب عمل المعبر بشكلٍ أكثر انتظاماً.

لكن غرفة انتظار أخرى في رفح تنتظر الفلسطينيين الذين مرّوا عبر القاهرة وصحراء سيناء وشارفوا على العودة إلى وطنهم. إذ يجب أن يصلوا قبل الساعة الـ11 صباحاً، لكنهم لا يتمكنون عادةً من العبور إلى غزة قبل حلول المساء.

يقول خالد، الذي عاد إلى غزة في سبتمبر/أيلول بعد سفره إلى مصر من أجل العلاج الطبي، واصفاً كيف أخبره المسؤولون المصريون أنهم يلتفتون إلى العائدين لغزة بعد أن ينتهوا من التعامل مع مئات المغادرين: "لماذا عليَّ أن أنتظر 12 ساعةً، في حين أن كل ما عليك فعله هو ختم جواز سفري والسماح لي بدخول فلسطين؟ يجب أن يستغرق الأمر وقتاً أقل، لا يزيد عن الساعة".

المغادرون أكثر من العائدين

وفي حين تسبَّب فتح معبر رفح لفتراتٍ أطول في زيادة أعداد الفلسطينيين المغادرين لغزة، فقد شجّع الكثير من المتشككين في السابق على القيام برحلة العودة.

وشهدت أعداد المغادرين لغزة ارتفاعاً حاداً بدايةً من مايو/أيار، لكن الارتفاع التدريجي لأعداد العائدين تزايد منذ ذلك الوقت، حيث شهد شهر سبتمبر/أيلول أكثر من 7100 حالة دخولٍ إلى غزة، مقارنةً بـ6100 حالة خروجٍ منها. وعلى النقيض، شكَّلت أعداد المغادرين نسبة 77% من حركة المرور عبر رفح، في شهري مايو/أيار ويونيو/حزيران.

وقال وكيل السفر إنَّه خلال رحلة العودة من مؤتمرٍ في الخارج، خطط للوصول إلى غزة في الوقت المناسب للاحتفال بالعيد مع أسرته، لدرجة أنه دفع رشوةً لمسؤول مصري من أجل مغادرة المطار، وتجنُّب انتظار الحافلة الجماعية المتجهة إلى الحدود.

لكن المعبر كان مغلقاً، واضطر إلى قضاء شهر داخل فندق في القاهرة. وعندما سافر إلى رفح أخيراً، وصل في الفجر، لكنه اضطر إلى الانتظار يوماً كاملاً داخل غرفة انتظار المعبر.

وأضاف: "من دون ماء، من دون طعام، من دون خدمات، أطفالٌ أعيتهم الحرارة، من دون مراوح، بينما ضابط الشرطة المصري يرتشف كوباً من الشاي أثناء مراقبتنا".

ثُم تابع مُقلداً رمية الضابط اللامبالية: "وفي المساء، بدأوا في ختم جوازات السفر وإلقائها في الهواء. رحلة عملٍ تستغرق ثلاثة أيام، كلفتني أكثر من 50 يوماً من المعاناة والشقاء".

الأيام في الصحراء

في الأوقات الأكثر سلاماً، يمرّ الطريق عبر شبه جزيرة سيناء بمسطحات أرضية قاحلة وجافة تمتد لساعات. لكن الصراع في سيناء، حيث يخوض الجيش المصري معركةً ضد المسلحين المتحالفين مع تنظيم الدولة الإسلامية، أطال زمن تلك الرحلة بإجبار المسافرين على المرور بعشرات نقاط التفتيش العسكرية.

وتُشير التقارير إلى وصول أعداد نقاط التفتيش إلى 36، وتمر بالفلسطينيين عبر أخطر منطقةٍ في سيناء، حيث يرتكز القتال في الزاوية الشمالية الشرقية لشبه الجزيرة بين رفح والعريش. ويتوقف جميع الفلسطينيون في العريش، سواءً في طريق عودتهم إلى غزة، حين يضطرون إلى النوم انتظاراً لانتهاء حظر التجول في سيناء، أو في طريقهم باتجاه القاهرة. وتُعد العريش موقع نقطة التفتيش الرئيسية في المنطقة، كما أنها هدفٌ دائمٌ للهجمات المسلحة.

وتُظهر صور الأقمار الصناعية كيف تغيرت المسطحات الأرضية التي يجتازها الفلسطينيون من غزة نتيجة التمرد، وخاصةً خلال العام الماضي عندما أطلقت مصر عملية سيناء 2018، بهدف "تطهير القطر المصري من العناصر الإرهابية".

وفي المكان الذي اعتادت حركة المرور على الانسياب فيه عبر قرى سيناء الشمالية مثل الشيخ زويد -بين رفح والعريش- أُخليت الطرق من السيارات المتوقفة وتحولت التقاطعات الرئيسية إلى نقاط تفتيشٍ تضيق بالسواتر الترابية والعربات المدرعة المتمركزة.

وتختلف التجربة من شخصٍ لآخر في نقاط التفتيش. إذ يقول غنيم إنهم "عوملوا مثل الحيوانات".

كمين للجيش المصري في سيناء / رويترز
كمين للجيش المصري في سيناء / رويترز

وأضاف: "تشعر أن أشقاءك العرب أسوأ من إسرائيل. المسلمون ضدنا. وهم الجزء الأكبر من الحصار المفروض على غزة. تشعر وكأنك من دون قيمةٍ في جميع أنحاء العالم".

لكن آخرين وصفوا المعاملة الودودة من أهل البلاد الذين تعاطفوا مع الفلسطينيين المغادرين غزة.

يقول خالد: "أحياناً عندما يعلم الجيش المصري أننا فلسطينيون، يُسهِّلون الأمور علينا. وهو أمرٌ نُقَدِّرُه كثيراً".

وتضاعف تَأخُّر زمن الرحلة نتيجة إغلاق جسر السلام الذي يمر فوق قناة السويس عام 2013، مما أجبر الجميع على ركوب المعدية لعبور الممر المائي في اتجاه البر الرئيسي لمصر. وإجمالاً، يقول الفلسطينيون إنَّ الوقت الذي يقضونه في الوقوف بنقاط التفتيش وانتظار الحافلات والمعديات ساهم في تحويل رحلة الحافلة التي تستغرق 7 ساعاتٍ تقريباً من رفح إلى القاهرة، إلى رحلة قد تستغرق قرابة الأربعة أيام.

الانتظار في القاهرة

بعد انتظار الحافلات والمعديات والوقوف في نقاط التفتيش والنقاط الحدودية لمدة أربعة أيامٍ، لم يعد لدى غنيم سوى يومٍ واحدٍ ليقضيه في القاهرة قبل مغادرة المطار متوجهاً إلى تونس، حيث يعمل مع فنانين على إنتاج موسيقاه.

لكن يضطر الكثيرون للانتظار فترات أطول. بعضهم ينتظر تأشيرات الدخول التي يصعب الحصول عليها في بلدٍ يتمتعون داخله بمكانة ضئيلة، حتى في حال امتلاكهم لدعوات العمل أو الدراسة بالخارج، بينما يحاول الآخرون تحديد خطواتهم القادمة.

قضى محمود ثلاثة أسابيع في القاهرة بعد رحلته عبر سيناء، ليجد غرفةً داخل شقة يتشاركها فلسطينيون آخرون دفعوا مبلغ "التنسيق". وقال إنَّ الكثير منهم يُعانون لتحديد خطواتهم التالية.

وأضاف: "إذا كنت تريد مغادرة غزة فعلاً، عليك أن تغادر وأنت تعلم ما تفعله. هذه هي الحقيقة المُحزنة. هُم يُريدون تغييراً، لأن وضع غزة لا يُمكن تغييره. هُم يُريدون فقط رؤية مصر ومحاولة إيجاد فرصٍ جديدة. بعضهم يمر بالمطار المصري متجهاً إلى أوروبا سعياً وراء اللجوء، لكن معظمهم يُرسلون عائدين إلى غزة لأن المطار المصري يرفض السماح لهم بصعود الطائرات، لأنهم لم يحصلوا على تأشيرات دخول. حياة الغزاويين في مصر فوضى حقيقية".

علامات:
تحميل المزيد