شهد التاريخ لحظاتٍ وجد القادة العظماء فيها من الضروري التغاضي عن جرائم شنيعة حفاظاً على تحالفات استراتيجية ومصالح أخرى أكبر. لكنَّ قتل جمال خاشقجي ليس واحدةً من تلك اللحظات، حسب مقالة لصحيفة The Financial Times البريطانية.
تضيف صحيفة The Financial Times لم يُرَ المُعلِّق السعودي البارز منذ دخل إلى القنصلية السعودية في إسطنبول قبل أكثر من أسبوعين. وتشير التفاصيل المُسرَّبة من المسؤولين الأتراك إلى أنَّه قُتِل بعد فترة وجيزة من ذلك بأشد الطرق ترويعاً.
إن ثَبُت أنَّ الروايات التركية دقيقة –وادَّعى المسؤولون أنَّ لديهم مقاطع صوتية ومرئية وأدلة أخرى تدعم تلك الرويات- فلا يمكن أن يكون هناك تغاضٍ حسب الصحيفة. ورغم كل النفوذ الجيواستراتيجي للسعودية، لابد أن تكون العواقب جديَّة.
الغرب اتحد أمام روسيا بسبب تسميم سكريبال
وقفت الدول الغربية متحدةً في انتقاد الرئيس الروسي بسبب محاولة روسيا قتل الجاسوس السابق سيرغي سكريبال وابنته على أراضي المملكة المتحدة. وتصرَّفت بانسجامٍ لمعاقبة موسكو حتى قبل أن يُقام الدليل بما لا يدع مجالاً للشك على إدانة الكرملين. وعلى الغرب أن يكون حازماً بنفس القدر في رده على الرياض إن وُجِد أنَّ عملاءها مسؤولون عن قتل خاشقجي وإذا تأكَّد جرم السعودية. أمَّا القيام بعكس ذلك فمن شأنه أن يُمثِّل دعوة للمستبدين في أنحاء العالم لقتل معارضيهم وتفادي أي ردة فعل عن طريق التحجُّج بأدلة براءة واهية.
لدى الرئيس دونالد ترمب الكثير ليخسره في هذا المأزق. فقد علَّق الكثير من سياسته في الشرق الأوسط -التصدي لإيران ومحاربة التطرف الديني- على حلفه مع السعودية عموماً، وولي العهد والحاكم الفعلي محمد بن سلمان خصوصاً. وحتى الآن، بدا ترمب في قضية خاشقجي مستعداً لقبول الإنكارات السعودية بالذنب والتلميحات بأنَّها كانت عملية مارقة.
كان ترمب صريحاً حيال رغبته في الحفاظ على صفقة أسلحة مزعومة بقيمة 110 مليارات دولار مع السعودية، مهما كانت الحقيقة. تُظهِر الرواية التي لا يمكن تصديقها التي لمّح إليها كم يراهن على علاقته مع الرياض. علاوة على ذلك، فإنَّ إشارته إلى أنَّ نفس الأشخاص المتهمين بجريمة يمكنهم إجراء تحقيقٍ ذي مصداقية بشأنها هو أمرٌ سخيف.
وكما هو الحال مع روسيا، يتعين على الكونغرس ف هذه القضية الخروج عن خط البيت الأبيض إذا ما وُجِد أنَّ السعودية مذنبة. وجاءت موجة الاستنكار على خلفية مقتل خاشقجي المزعوم من الحزبين، الجمهوري والديمقراطي. وصاغ السيناتور الجمهوري ماركو روبيو الأمر جيداً حين قال إنَّه لا يوجد مالٌ كافٍ قط يمكنه استعادة مصداقية الولايات المتحدة بشأن حقوق الإنسان إذا ما سمحت واشنطن بمرور مثل هذه الجريمة.
غضَّت الحكومات الغربية الطرف عن تصرفاته الأكثر تهوراً
يعود جزءٌ كبير من احتضان الولايات المتحدة ومعظم العالم، حتى الآن، للأمير محمد بن سلمان باعتباره مُصلِحاً حسب الصحيفة إلى كبحه للمؤسسة الدينية وتعهُّده باتباع صورة أكثر تسامحاً من الإسلام. وقد غضَّت الحكومات الغربية الطرف عن تصرفاته الأكثر تهوراً. إذ شنَّ حرباً في اليمن أسفرت عن حصيلة مُدمِّرة بحق المدنيين وأدَّت إلى دعوات مُبرَّرة لوقف إمدادات الأسلحة البريطانية والأميركية عن المملكة.
وفي الداخل أيضاً، أصبح الأمير مستبداً على نحوٍ متزايد، فاعتقل النشطاء ورجال الأعمال ورفاقه في الأسرة الحاكمة ضمن حملة قمعٍ واسعة على الخصوم والمنافسين المحتملين.
لم يُقدِّم السعوديون حتى الآن تفسيراً ذا مصداقية لاختفاء خاشقجي. وما لم تظهر أدلة تُغيِّر الرواية التركية المُسرَّبة إلى وسائل الإعلام، سيكون على الحكومات الغربية التفكير في التحرك. لكن لن يكون تحديد الإجراءات العقابية سهلاً. فموقع السعودية كأكبر مُصدِّر للنفط في العالم يمنحها قدرةً نادرة على الرد بخطوات مضادة. بالتالي سيهدف أي ردّ غربي إلى الحد من الضرر الذاتي الناتج عن ذلك الرد، لكنَّه سيكون قوياً كفاية لفرض تغييرٍ في سلوك المملكة.